١٠٥ - وكان سليمان بن عبد الملك في بادية له، فسمر حتى تفرق جلساؤه عنه، ودعا بوضوء فجاءته به جارية له، فبينا هي تصب عليه إذ لهت عنه، فحركها بيده واستمدها ومرة ومرتين فلم تصب عليه، فرفع رأسه إليها، وإذا تهي مصغية بسمعها مائلة بجسدها، هادلة إلى صوت غناء تسمعه من ناحية العسكر، فأمرها فتنحت، واستمع الصوت، فإذا صوت رجل يغني، فأنصت له حتى فهم غنائه، ثم دعا جارية من جواريه يراها، فطرحت الماء عليه وتوضأ، فلما أصبح أذن للناس إذنًا عامًا، فلما أخذوا مواضعهم أجرى ذكر الغناء ومن كان يسمعه، ولين فيه حتى ظن به أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك إلى التحليل والتسهيل والتليين وذكر من كان يسمعه من أهل المروءات وسروات الناس، ثم قال: هل بقي أحد يسمع منه؟ فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين عندي رجلان حادان من أهل إيلة، فقال: وأين منزلك من العسكر؟ فأومأ إلى الناحية التي كن الغناء منها، فقال سليمان: تباعث إليهما، فوجد الرسول أحدهما، فأقبل به حتى أدخله على سليمان، فقال: ما اسمك؟ قال: سمير، فسأله عن الغناء كيف هو فيه، قال: حاذق ومحكم، قال: فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذه الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر الناحية أيضًا، قال: فما عنيت، فذكر الشعر الذي سمعه سليمان، فقال سليمان: هدر الجمل فصغت الناقة، وهب التيس فشكرت الشاة، وهدر الحمام فزافة الحمامة، وغنى الرجل فطربت المرأة! ثم أمر به فخصي، وسأل عن الغناء: أين أصله وأكثر ما يكون؟ قالوا: المدينة، وهو في المخنثين أكثر، وهم الحذاق الأئمة فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزام: أن أخص من قبلك من المخنثين المغنين.
١٠٦ - وحكى أبو حاتم قال: أنبأنا أبو عبيدة قال: كان سليمان ابن عبد الملك أقام بدابق أيامًا سأل عن أخبار جش من المسلمين بالروم، قال: فقال المفضل بن المهلب: فدخلت إليه يوم الجمعة، وقد دعا بثياب فاخرة، ثم اعتم وأخذ المرآة، فلم تعجبه الثياب، فدعا بثياب خضرٍ كان بعث بها إليه يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم ونظر في المرآة فأعجبه نفسه، فقال: إيه يا بن المهلب أأعجبتك؟ فقلت: إي والله يا أمير المؤمنين، ومثلك أعجب قال: فحسر عن ذراعيه وقال: أنا الملك الشاب! ثم خرج فصلى الجمعة، وما صلى بعدها، وكان سبب موته أنه أتخم، أكل زملين: أحدهما تين والآخر بيض، ثم أكل صفحة مملوءة مخًا، فقال بعض شعراء كلب:
أعوذ بربِّ الناس من شرِّ أكلةٍ ... يكونُ كوؤسَ الموت صرفًا كفاؤها
كدأبُ سليمانُ الذي كانَ داؤه ... ردة أكلةٍ كان الحمامَ دواؤها
ولم ضمَّ بطنُ الفيلِ ما ضمَّ بطنه ... لفضت ضلوعٌ وانفرت حاوياؤها
وما ضمَّت في الأرضِ حتى تفتَّقتْ ... حواياه واستولى على الترُّب ماؤها
فيا نهمًا أردى سليمانَ إنَّما ... هدمت العلا فارفضَّ منها بناؤها
فليتَ الذي أهدى فداك بنفسه ... فسيقَ إليها حتفها وفناؤها
فلما بلغت هذه الأبيات بني أمية قالوا: والله ما ندري أهجاه أم رثاه!.
١٠٧ - وحدث أبو الحسن أحمد بن محمد بن المدبر قال: كان بدء خروجي إلى الشام أن المتوكل خرج يتنزه بالمحمدية، ونخلا به الكتاب هناك فأحكموا أمري معه وأنا لا أعلم، ثم بعثا إلى وأنا لا أدري لم أحضرت، فصرت إليهم وهم مجتمعون، فلخما وصلت قالوا لي: إن أمير المؤمنين قد أمر أن تخرج إلى الرقة، فكم تحتاج إلى نفقتك؟ قلت: إلى ثلاثين ألف درهم، فما برحت حتى سلموها إليَّ وقالوا: تخرج الساعة! قلت: أودع أمير المؤمنين، قالوا: ما إلى ذاك من سبيل! قلت: فأصلح أمري مدة ثلاثة أيام، قالوا: ولا إلى ذاك، ووكلوني وخرجت وأنا في حالة المتولين المنصرفين، لا المتولين المتصرفين، وحثوني لفي السير، وأنا رجل خائف مستشعر، فلما قاربت الرقة أردت الدخول إليها فأدركت الليل، وإذا بإعرابي ناحية عنا، ومعه إبل يحدوها، فتفاءلت بقوله فأصغيت إليه فإذا به يقول:
كم كرَّةٍ حفَّت بكَ المكارهُ ... خارَ لكَ اللهُ وأنتَ كارهُ
1 / 21