وأدركت أن ما تحت قبة الضريح ليس هو المهم، المهم هو الأجساد الخشنة الغليظة الملتفة حول الضريح، المهم هو النداء الواحد الصادر عن عشرات الآلاف من الأفواه الواسعة الجائعة، المهم هو الوجه الآخر للوحش الخرافي الذي خلع قلوب جنودنا بضربة واحدة من يده، المهم هو ما تفرزه هذه الجموع ويتصاعد منها ويتجمع ويتداخل ويتبلور ويختلط بأضواء المشاعل وأنوار الشوارع وقرعات الدفوف واهتزازات الأجسام!
لقد وقفت مشدوها، يا صديقي، وكأني أرى هذا المزيج الهلامي المعلق بين الأرض والسماء، كأني أرى الإرادة المتجمعة، كأني أرى كل ما لدى الناس من حب وقد ضمته صرخة واحدة، كأن تلك الأجساد الخشنة الملوثة بالطين والتراب تفرز مادة أكثر سموا من الأجساد الحية، أكثر سموا من الحياة، خلاصة الحياة، جماع كل ما هو قادر فيها وقاهر، وجماع كل ما لا يمكن مقاومته، القوة العليا الخارقة، سر الحياة!
وضريح حامد كان هو البؤرة التي تتجمع حولها الإرادات وتلتقي، بؤرة تركز الإرادة في الخلود وتسويها لتصبح إكسيرا سحريا قادرا على تحقيق الخلود، ماذا أقول؟! لقد وقفت خاشعا واجفا أراقب الجموع وهي تفرز الإيمان وتشترك في خلقه لتعود تؤمن به، ويتصاعد النداء الواحد من القلب الواحد فيصبح حين يلتقي بغيره مادة سامية حية تعود تنسكب في كل قلب، تطهره وتقويه وتغذي فيه روح البقاء!
لقد أحسست يا صديقي، أني أواجه القوى الخارقة، حقيقة أحسست بهذا، أحسست به إلى درجة كادت تدفعني لأن أسجد لها وأطلب المغفرة، أحسست بالإكسير ينسكب في قلبي والنور الموسيقي الراجف يملأ صدري ويمتزج بحناياي فأحس لأول مرة في حياتي بعظمة الحياة وروعة أن نكون بشرا وآدميين نمتلك هذه القدرة المعجزة، قدرتنا على أن نتجمع ليصدر عن تجمعنا ما هو أسمى من حياة كل منا!
لن تدرك ما أعني يا روان! محال أن تدركه من غير أن تراه وتحسه، ومشكلتي أني رأيته وأحسسته!
أنا أكتب لك خطابي هذا من حجرة في القلعة، ومن خلال النافذة ألمح جنودنا يقومون بطوابير الصباح وينظفون البنادق ويستمعون إلى الأوامر ويتسلمون الذخيرة الجديدة ويزيتون المدافع، وها هو البروجي يعزف نوبة الجنرال، وإني أرثي لجنودنا وجنرالهم، ما فائدة البنادق والرصاص؟! ألكي تخضع هؤلاء الناس بقتل بعضهم؟! وما فائدة القتل في قوم يحيون قتلاهم وموتاهم؟! في قوم يخلقون من الميت الواحد مئات الأحياء، ويخلقون لكل حي بعد هذا آلاف الأولاد؟!
إني خائف يا روان، منذ الأمس وأنا أحس بقوى لا قبل لي بها تجذبني إلى هذا الشعب وتهيب بي أن أعرف سره، وسوف أقول لنفسي إنها محاولة للدراسة، ولكن لا تصدقني، فأنا لا أصدق نفسي، إني أقاوم بعنف، إن ثقافتي وتراثي وعقلي تمنعني أن أنجذب إلى كتلهم حين تتجمع، ولكني لم أعد نفسي، لقد غيرت ليلة الأمس أشياء كثيرة داخلي، إني خائف أن تنتهي مقاومتي، خائف أن أنسل اليوم أو غدا وأذهب إلى ضريح من مئات أضرحة السلطان حامد الفلاح المبتور البنصر الذي اشتركت في مهزلة محاكمته، خائف خوف الموت أن أفعل له مثلما كنت أفعل للعذراء في الكنيسة عندنا فأضيء له شمعة وأضعها بجوار شمعات الفلاحين الفقراء لتنير قبره.
وصحيح أن شمعتي لن تكون شيئا بجوار ما يحظى به السلطان من تكريم وتقديس؛ فما هي سوى شمعة واحدة، شمعة من مئات الشموع التي أضاءت وستظل تضيء مئات أضرحته، مئات الليالي، ومن يدري، ربما مئات السنين!
ولكن لا تعجب إذا أقدمت على هذا اليوم أو غدا أو في مساء قريب، فإني أحس بنفسي سائرا بلا إرادة إلى هذا المصير، أحس بمقاومتي تتلاشى وتنتهي.
روجيه
صفحة غير معروفة