وكنت كثيرا ما أذهب معه، ولم يكن صديقي ضيقا بها، كانت شيئا جديدا في حياة المستشفى الروتينية وحياته، وكثيرا ما جلسنا نتحدث، وكثيرا ما حملنا الحديث بعيدا، إلى أبعد من جدران المستشفى ومأساة الحرب، وأخطأت مرة وذكرت لها حكاية السلطان، وكأنها كانت تنتظر طول عمرها أن يقول لها أحد شيئا كهذا، فإلى أن انتزعت من سرير المستشفى انتزاعا إلى الباخرة كانت لا تزال تسألني وتلحف، وتدقق، وتروع للتفاصيل وتقول: «أوه! يا سلام!» و«يا سلام» هذه هي الكلمة الوحيدة التي تعلمتها أثناء إقامتها بالمستشفى.
ولم تكتف بعنواني المكتوب الذي أعطيته لها، ولكنها ظلت تردده حتى حفظته عن ظهر قلب.
وودعتني وهي تقول: «حتما سأكتب لك.»
ولكن لم أتوقع أبدا أن تفعل.
وعدت إلى عملي، وإلى القاهرة، وإلى الساعات اليومية الثابتة التي كنت أقضيها في دار الكتب.
كنت قد أمسكت بخيط ما، وكان ترددي على الدار هدفه التأكد منه، فبحثت عن أسماء جميع السلاطين الذين حكموا مصر أو حتى من قدموا إليها غازين أو زائرين ، بل حتى أسماء سلاطين آل عثمان راجعتها كلها، ولم أجد ظلا ولا إشارة واحدة لسلطان باسم السلطان حامد.
وحتى هذا الخيط الواهن انقطع، وبهذا فقدت كل أثر للسلطان.
غير أن حماسي لم يفتر أو يقل.
يومان في الأسبوع كنت أذهب إلى مكتبة الجامعة، ومن هناك إلى قسم التاريخ في كلية الآداب، وأخطئ إذا قلت إن جهودي كانت تذهب عبثا؛ إذ خلال شهور طويلة كنت قد تعلمت أشياء عن تاريخنا لم أكن أحلم بمعرفتها، وكنت قد خرجت بعدة صداقات، ليس أقلها صداقة متينة كانت بيني وبين «علي بك» القزم الذي لا يكاد طوله يزيد على المتر والذي يبيع الكتب القديمة رائحا غاديا بين العتبة والأزهر، وكانت الحكاية قد تسربت مني إلى أصدقائي وإلى معارفهم، حتى كنت أحيانا أجد أناسا لا أعرفهم يبتسمون لي إذا قابلوني في مكان عام ويقولون: «هيه! عملت إيه في حكاية السلطان؟»
ونفس السؤال كنت أسمعه من شبان أهل بلدنا وطلبتها، وحتى الكهول، ومع أن الوضع كان قد انقلب، وانتقلت من الطفل السائل إلى الرجل المسئول، إلا أن إجابتي كانت لا تكاد تختلف عن الإجابات التي كنت أجن لها وأنا صغير.
صفحة غير معروفة