كذلك تبادلت كراهية مع عفت زوجة عامر ضاعفت ما بين آل عطا وآل داود من غيرة ومنافرة. ولما رحل جيل الكبار تنفس حامد وتطاير سخطه في الهواء بلا ضابط، وانتهى الأمر بالطلاق. وقد كرهت شكيرة حامد وأهله كراهية عميقة لم تخف حدتها أبدا. وواظبت على لعنه وتشريحه حتى بعد موته. وفي وحدتها استغرقها التدين وحجت أكثر من مرة، وكانت تحرص على الفرائض من صلاة وصوم وزكاة، كما تحرص على لعن أعدائها والدعاء عليهم في الدنيا والآخرة.
شهيرة معاوية القليوبي
هي الابنة الثانية للشيخ معاوية وجليلة الطرابيشية، ولدت ونشأت ببيت الأسرة القديم بسوق الزلط بباب الشعرية، وملعبهن كان مدخل البيت ما بين الفرن والبئر وكنبة المعيشة، هو الذي جمع بين راضية وشهيرة وصديقة وبليغ. وفيه سمعت وصايا الشيخ الأب، وجرت كلمات جليلة محملة بغيبيات العصور الخوالي. ومن بادئ الأمر لم تستجب شهيرة للدين وفرائضه ولكنها استقبلت التراث الغيبي بحماس وأضافت إليه من خيالها الكثير، وكانت تشبه راضية جسما ووجها مع ميل أكثر إلى البياض وتفوق في العنف وسلاطة اللسان وتماد في غرابة الأطوار التي تماس حافة الجنون. وعقب وفاة أبيها بعامين خطبها أحد تلاميذه من قراء القرآن الكريم، ذو صوت عذب ومنظر وجيه ورزق موفور، فزفت إليه في مسكنه بباب البحر غير بعيد من بيت الأسرة. وأنجبت منه ولدا جميل الصورة، أسماه أبوه عبده تيمنا باسم سي عبده الحامولي الذي كان مولعا بصوته. ومضت حياتها الزوجية في توفيق رغم حدة طبعها وسلاطة لسانها، ولكن الشيخ علي بلال - الزوج - كان يعلق على ذلك بدعابة قائلا: هذه توابل الحياة الزوجية.
وقد توطدت مودته لعمرو أفندي وآله، وكلما زار بيت ميدان بيت القاضي رجاه عمرو أن يبارك البيت بتلاوة منه فيتربع في حجرة الاستقبال عقب الغداء واحتساء القهوة ويقرأ ما تيسر من القرآن الكريم بصوته العذب، وأغراه صوته وأصدقاؤه بإنشاد المدائح النبوية في المواسم، فاتسع مجال رزقه وكثر المعجبون به حتى دعي لإحياء بعض الأفراح بإنشاد المدائح، وفي ذلك الجو المعبق بالأفراح، والليالي الملاح جرت رجله لتدخين الحشيش. وأخيرا اقترح عليه أحد الملحنين أن يتحول إلى مطرب متنبئا له بمستقبل وردي، واستجاب للدعوة بقلب طروب، ولم يجد بأسا في هجر السور الشريفة ليغني: «اوع تكلمني بابا جي ورايا.» و«ارخي الستار اللي في ريحنا.» و«الهف يا لا بف يا سمك مقلي.» ونجح في ذلك نجاحا مرموقا وسجل أسطوانات راجت في السوق وأذاعت اسمه على الألسنة، وضرب عمرو أفندي كفا بكف وقال: يا للخسارة.
وبدأت شهيرة تخاف على مكانتها الزوجية من إغراءات الوسط الجديد فقالت له: تزوجتك شيخا مباركا فانقلبت إلى عالمة!
وثمل الرجل بنجاحه وصار واسطة العقد في كثير من جلسات الحشيش، ولم يتورع بعد ذلك عن معاقرة الخمر وتبخير بيته آخر الليل برائحتها الكريهة النفاذة مذكرا شهيرة بمأساة أخيها بليغ، فغطى صوتها على مؤذن الفجر في زجره وسلقه بلسانها الحاد. ثم ترامى إليها أنه بدأ يغازل العوالم فانقضت عليه بوحشية فتحت له أبواب الجحيم على مصاريعها؛ فقر عزمه على تطليقها، ولكنه قبل أن ينفذ عزمه أفرط ليلة في البلبعة فكبست على قلبه وأسلم الروح في مجلس أنس وهو يداعب أوتار عوده. وأدت شهيرة طقوس الحزن بلا مشاركة وجدانية، وأجرت البيت ودكانين أسفله، وحملت عبده راجعة إلى بيتها القديم لتشارك أمها وحدتها.
وقالت لها راضية: ليكن عبده لك قرة عين.
ولكن عبده انخطف في حمى كحلم بعد أن عرفت أمه في الحي بأم عبده، والتصق بها اللقب حتى آخر عهدها بالحياة. وولعت بتربية القطط، وكرست حياتها للعناية بها حتى ملأت عليها فراغ حياتها، وزحمت البيت القديم ... وراحت تؤكد أنها باتت خبيرة بلغتها وبالأرواح التي تسكن أجسادها، وأنها عن طريقهن تتصل بعالم الغيب. ووجدت في راضية خير صديقة لها، وكان اجتماعهما سواء في بيت القاضي أم في سوق الزلط تمهيدا طبيعيا لعقد جلسة غريبة تتبادل فيها الخبرات عن عوالم الجان والغيب وأبناء الأسرار الخفية، كانتا في ذلك قلبا واحدا وعقلا واحدا رغم سوء ظن راضية بها واتهامها لها بحسدها على ذريتها وزواجها الموفق. واشتهرت في حي سوق الزلط بشخصيتها الغامضة المرهوبة ولسانها السليط، ولم يعرف عنها أنها أدت فريضة، وكانت تجهر بإفطارها في رمضان وتقول: الواصل ليس في حاجة إلى فريضة تقربه من الله.
ولما رحلت أمها غرقت في وحدتها وانغمست في دنيا القطط حتى قمة رأسها الأشيب، وكان أخوها بليغ يتعهدها برعايته، ويدعوها لزيارة قصره المنيف ولكنها كرهت زوجته بلا سبب، ولم تكن تغادر القطط إلا لزيارة سيدي الشعراني أو زيارة راضية ... وفي عام 1947 أصابها وباء الكوليرا فنقلت إلى مستشفى الحميات بعد أن أوصت جارة بالذهاب إلى راضية للعناية بالقطط. وماتت في المستشفى مخلفة حوالي أربعين قطة وقطا. وبكى أبناء وبنات راضية الخالة التي كانت تثير ضحكهم في حياتها.
حرف الصاد
صفحة غير معروفة