وكان سرور أفندي يحنق عليها في باطنه ويتهمها بأنها كانت السبب في عدم اختيار إحدى كريمتيه لأحد أبنائها، فراح يشنع بها كعادته في ذلك ويقول لزينب زوجته: كل ذلك موروث عن أسرتها، فما من رجل بها أو امرأة إلا وبه مس من الجنون، وهي في مقدمة الجميع.
بليغ معاوية القليوبي
هو آخر عنقود الشيخ معاوية القليوبي، وشقيق راضية زوجة عمرو أفندي، وقد ولد في بيت الشيخ بسوق الزلط بباب الشعرية، ولعله المولود الوحيد الذي أنجبه الشيخ بعد خروجه من السجن. ونشأ من صغره نشأة دينية، وألحقه أبوه بالأزهر في سن مبكرة. ويزور شقيقته في بيت القاضي فيلفت الأنظار بشبابه وجبته وقفطانه وعمامته، ويحدث في أسرة راضية إثارة تجمع بين الاحترام والفكاهة معا، وهو بطبعه يشبع الناحيتين، فيرتل القرآن بصوت جيد استجابة لأخته، ويداعب البنات والصبيان بالملح. وكان ذا وجه قمحي مستدير جذاب الملامح، ولا يخفي حبه للطعام اللذيذ، وخبرته بصنوفه لا تقل عن خبرته بالدين الذي يدرسه. وتقول له راضية بلسانها اللاذع: الأصلح أن تكون طباخا من أن تكون عالما من علماء الدين كأبيك.
فيقهقه قائلا: أنا رجل حائر بين أب عالم وأخت مؤاخية للعفاريت.
في ذلك الوقت كان الشيخ معاوية قد انتقل إلى جوار ربه، وقد تمت خطبة راضية على يديه ولكنه لم يشهد دخلتها. وعقب وفاته لم تجد غرائز بليغ من يكبحها. وفي جلسة جمعت راضية مع جليلة أمها العجوز فوق الكنبة، في مدخل البيت الذي يتصدره الفرن وتقع البئر في جناحه الأيسر، في جلسة حزينة لاحظت راضية أن أمها غارفة في بحر من الغم على غير عادة، ولما سألتها عما بها قالت: أتصدقين يا راضية؟ ... أخوك الشيخ الأزهري بات يرجع كل ليلة سكران فاقد الوعي؟
وفزعت راضية وهتفت: أعوذ بالله. - أنا ... أمامه بلا حول.
ووجدت راضية نفسها أعجز من أمها حياله ... واستعانت بعمرو أفندي ولكن بليغ كان يتظاهر بالندم ويتمادى في ضلاله. وأثار فيما حوله استهجانا عاما وسخطا متصاعدا، فترامت الأنباء إلى إدارة الأزهر، وانتهى الأمر بفصله وطرده بدون أن يحصل على العالمية. وجد نفسه ضائعا وبلا مورد. وكانت أمه تملك قطعة أرض فضاء فنزلت له عنها فباعها، وقرر أن يستثمرها في بقالة الجملة. وسافر إلى أهل أبيه في قليوب وراح يشتري الجبن والسمن، ويحملها إلى القاهرة ليوزعها على البقالين، وقامت الحرب العظمى الأولى فأثرى ثراء مذكورا وتحسنت أحواله. ومن يومها أخذ نجمه في التألق والصعود. وفي تلك الفترة تزوج من أمينة الفنجري؛ أسرة ذات مال واحترام، ولما قامت الحرب العظمى الثانية بلغ غايته من الثراء، فشيد العمائر، وبنى لنفسه سراي في القبيسي عرفت في الحي ب «عابدين القبيسي» لعظمتها وفخامتها، ولم ينجب إلا ولدا واحدا رآه من كبار القضاة، وأثبت أنه تاجر ماهر، ولكنه لم يتخل عن الداء الذي طرد من أجله من الأزهر حتى آخر عمره. وكان يزور بيت القاضي في الحنطور تارة أو السيارة فيما بعد، محملا بالهدايا، مشيعا في الخلق الأثر الذي يتابعه خفية بسرور لا مزيد عليه. وكان يحافظ على صلاته وصومه وزكاته محافظته على كأسه، ويثابر على الاستغفار مثابرته على الغرور والفخار. وقد امتد به العمر حتى مشارف الخمسينيات، بعد أن رحل أحمد عطا وعمرو وسرور ومحمود عطا وجليلة أمه وأخواته نهيرة وشهيرة وصديقة فلم يبق بعد إلا أخته الكبرى راضية مؤاخية العفاريت. وقد أصيب بتليف الكبد، ولازم الفراش الوثير نصف عام ثم فارق الحياة وهو نائم، أو هكذا خيل لزوجته أمينة الفنجري.
بهيجة سرور عزيز
شهد ميدان بيت القاضي ملاعب طفولتها مع أخيها لبيب وأختها جميلة، ومنذ نشأتها خالطت بنات وأبناء عمها عمرو. وجمع الطبع الهادئ بينها وبين أخيها الأكبر لبيب وابنة عمها سميرة، وإن ماثلت في العمر ابن عمها قاسم. تبدى وجهها في هالة بيضاء كأمها ست زينب مشربة بحمرة. صافية العينين الخضراوين، في صوتها دسامة تذكر بصوت والدها سرور أفندي. وفي سجيتها رزانة فطرية جرت عليها تهمة ظالمة بثقل الدم، ومحافظة على التقاليد وتدين حصناها ضد عبث الصبا. واكتفى في تعليمها بالكتاب كبنات عمها وأختها جميلة. وتفرغت مثلهن لفن البيت من طهي وحياكة وما يجري مجراهما، وأخذت موضعها منذ وقت مبكر في محطة الانتظار التقليدية، انتظار ابن الحلال. ولعل أنسب أحد لها من الأسرة كان حامد ابن عمها، ولكن آل عطا المراكيبي استولوا عليه بوضع اليد مما أثار أشجان سرور أفندي وزوجته زينب هانم. وكانا قد مرا بالتجربة نفسها عندما راودتهما الأحلام في زواج عامر من جميلة. وعلى ذلك قام سرور لشقيقه عمرو: ألم تفكر في بهيجة قبل أن تهدي حامد لمحمود المراكيبي؟
فقال له عمرو: نحن يا سرور فقراء على باب الله ونبحث لطيورنا عن ريش، وابنتك جميلة والحمد لله ولن يطول انتظارها.
صفحة غير معروفة