حنانيك يا قمري الجميل ورحماك! امسح عن قلبي هذه الغيمة السوداء التي انتشرت من أجنحة الذباب، فقد رانت عليه وغشي ظلها على بصري حتى ما أراك على وسامتك وضيائك إلا كوجه من تلك الوجوه متى تصطبغ بكل لون إلا ما كان من الخلق الحسن فإنها تستمد من قلوب يكفي أحدها أن يكون طينه لخلق نوع من الإنسان بلا أخلاق!
حنانيك ورحماك! إن على قلبي غيمة كأنها من الكذب الذي لا صدق معه من القلب، والتملق الذي لا حياء فيه من النفس، والخيانة التي انعقد عليها الضمير فلا تحفظ غيب إنسان، والصلف الذي يشبه صلف المعتوه إذ يباح له أن يتجنى ولا يباح لك أن تعتب والظل الأخلاقي البارد الذي يحيط بأحدهم فيجعل مثواه كأنه مغارة تبعث عليك أنفاسها ثقيلة باردة في ظلمة وكبرياء كأنها خارجة من أعماق تاريخ الفراعنة.
وإني كما أغمض عيني حين يواجهني الإعصار الأحمق الذي ينفض بساط الأرض في وجوه السابلة - أراني منذ الساعة قد أغمضت عينا في قلبي تطلع على الحقيقة، فإني لم أكد أرفع كأس الحكمة المعسولة لأحتسيها ولم تكد تقارب شفتي حتى تهافت عليها ذباب تلك الأخلاق، فأحرزتها جانبا لتسكن نفسي بعد أن خبثت من منظر هذه الظلال السوداء التي هي أجسام نفسها وظلالها معا.
فاحمل إلي أيها القمر قطرة من ندى الروح الجميلة الذي ينسكب في أنفاس تلك الحبيبة وأرسلها إلى كأسي في قناة من أشعتك السحرية حتى تمتزج بالحكمة على شفتي فكأني أتناول هذه الحكمة من ثغرها البسام.
الفصل الخامس
يا لها لحظة جمدت على قلبها أيها القمر حتى كدت أحسب الزمن لا يجري، بل كدت أحسبني استحلت إلى قطعة ثابتة من الأبدية التي لا يدخلها شيء من الدنيا إلا ميتا حتى الزمن نفسه.
ولكن «ثغرها البسام» لم يدعني أموت في شعاعه الذي يتدفق بحياة حلوة لذيذة وبموت أحلى منها وألذ غير أنه لا يميت؛ لأن الحسن يبخل على الحب بمثل هذا الموت الهنيء.
ولو كانت روح كل محب لا تنتزع إلا بقبلة ولا تفيض إلا مع الابتسام ولا تجد قفل باب السماء إلا هذا الفم الوردي الرقيق، لتغير نظام القلب الإنساني، ولصارت كل نبضة من نبضاته كأنها خطوة واسعة في قطع المسافة بين الدنيا والآخرة؛ إذ يكون للحياة وقتئذ ما عهدناه من بغض الموت. ويكون للموت ما نعرفه من حب الحياة.
فلا يزال الحسن بخيلا؛ لأن الآخرة لا تزال بعيدة، ولا يبرح الحب عذابا؛ لأن الجمال لم يبرح في نظام الله مادة حب الحياة؛ ولو لم تكن في الأرض هذه الوجوه الجميلة لما صلحت الأرض للحياة العاقلة ولا نشأ فيها عقل واحد يستطيع أن يجد دليلا على وجود الله، فإن تلك الوجوه الفتانة - بما تحوي من المعاني التي تشبه في إقناعها للنفس من النظرة الأولى ما تحويه أقوى البراهين المنطقية - إنما هي في الحقيقة الصفحات الأولى من كتاب المنطق الإلهي؛ واعتبر ذلك بهؤلاء الملاحدة الذين ينكرون الخالق فإن أخبثهم إلحادا لا يكون إلا أشد الناس بغضا لطهارة الجمال.
لم يدعني ثغرها البسام أصعد إلى السماء في شعاعه؛ بل ألقى علي ابتسامة في نظرة ضاحكة تشابه الابتسام كأن إحداهما أخت الثانية؛ فما أحاطت بقلبي حتى رأيته يذوب فيها كما يذوب السحاب الغدق الأسحم فيصفو عن غمامة رقيقة بيضاء.
صفحة غير معروفة