حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

عبد القادر المحمدي ت. غير معلوم

حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين

تصانيف

ـ[حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين - دراسة نقدية تحليلة]ـ المؤلف: أبو ذر عبد القادر بن مصطفى بن عبد الرزاق المحمدي عدد الأجزاء: ١ [الكتاب مرقم آليا]

صفحة غير معروفة

توطئة إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فإن لكل أمة تاريخًا يمثل مجموعة الأحداث والمواقف التي مرت بها تلك الأمة خلال الحقب الزمنية المتتالية، والتي أسهمت في البناء الحضاري لتلك الأمة. وهذه الأحداث والمواقف منها ما هو ايجابي يفتخر به الناس، ومنها ما هو سلبي يستفاد منه كدروس ينبغي الاعتبار بها، وتجنب تكرارها، فأما الأولى وهي (الايجابيات) فالتاريخ الإسلامي حافل بها، والعالم كله يعرف ما حصده تاريخ المسلمين من حسنات طيلة الحقبة الزمنية التي كان له فيها سلطان، فانتشر العلم والعلماء، وأُنصف الناس وعاشوا في رخاء وعدل، ولم يقتصر هذا الخير على المسلمين بل عمّهم وغيرهم، وكل هذا الخير انتشر من خلال المبادئ السامية المنبثقة عن العقيدة الصافية، والتضحيات الجسيمة الغالية، ولم يقتصروا في دعوتهم على السيف والرمح كما يزعم بعض دعاة الشؤم وأذنابهم، بل تعددت السبل وتنوعت الأسباب في ذلك، حتى فتح الله على يد تجار لا علاقة لهم بالسيف ولا بالقلم آذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، وأما السيف والرمح فكانا الدرع الحصين الذي يحمي بلاد المسلمين من أطماع الطامعين. فالتاريخ الإسلامي أنساني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وحق لنا أن نفتخر به وتشرئب الأعناق. ورحم الله من قال: ملكنا فكان العدل منا سجية ... فلما ملكتم سالت بالدم أبطح وأما عن هاتيك السلبيات في تاريخ المسلمين والتي يجعجع بها بعض المغرضين، فالباحث اليقظ المنصف يجدها في الغالب (مفتعلة)،مسيّسة لأهداف وأغراض شتى، وهي في الحقيقة لا تتعدى عن كونها: ١ - وردت في كتب التاريخ التي لم تشترط الصحة في الروايات، لأنها عنيت بجمع الروايات حسب، كتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد وغيرهما، فالإمام الطبري ت (٣١٠هـ) قصد جمع الروايات والأحداث التاريخية دون نقد وتفتيش، ولو أراد أن يعمد إلى نقدها لما عجز فهو ناقد بارع، وكتابه (تهذيب الآثار) شاهد على ذلك، ولو قصد نقدها على طريقة النقاد لأصبح حجمه أضعاف أضعافه، ولأفنى عمره في أوله،،وتاريخه على ما فيه إلا أنه عمل كبير، فجزاه الله خيرًا على هذا الجهد العظيم الذي تفطن له في وقت مبكر، ولولا هذا العمل لفاتت علينا روايات كثيرة، وقد تضمن كتابه روايات صحيحة وهي كثيرة، وفيه أيضًا من القصص الباطلة والأحداث المنكرة التي يشهد القلب ببطلانها.

1 / 2

٢ - أنها وردت في كتب اختصرت تلك الكتب، إذ إنّ تاريخ الطبري -مثلًا- مصدر كل المؤرخين، فتجد الحادثة الواحدة تتكرر في أكثر من مصدر فيظن من لا يحسن البحث أنها تقوية للرواية والأمر ليس هكذا. ٣ - قد ترد في مصادر باطلة غير موثقة عند أهل العلم، كمروج الذهب للمسعودي، ومقاتل الطالبيين، والأغاني لأبي فرج الأصفهاني ففيهما أوابد وطامات. ٤ - قد تأتي حادثة ما بروايات عديدة، وبألفاظ مختلفة وفي كتب شتى، فتلفق الروايات الصحيحة بغيرها، وتدلس ألفاظ بعضها ببعض إما بقصد من رجل مبتدع مريض، أو لهوى سياسي وهكذا. أو بغير قصد فيقع في مثله عالم نحرير يخطئ في نسبتها أو تتداخل عليه الألفاظ، كما وقع للإمام الناقد المحقق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نسبة قول (أهجر رسول الله ﷺ) إلى عمر ﵁ (١)،والصحيح أنها لم تأت من طريق صحيح عنه ولم يذكرها أحد من رواة الأثر بسند معتبر. وما أظنها إلا سبق قلم- كما يقال-،والعصمة لله ولرسوله ﷺ. ٥ - وقد يأتي اسم أو كنية لرجل كذاب أو مبتدع موافقًا لإمام معتبر عند أهل العلم مشهور به، فيُنسب إليه قول مستنكر يظنه بعض الناس ممن لا يميزه أنه قول لذاك الإمام، فمن أمثلة ذلك: السدي: فهناك السدي الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن بن ابي كريمة الكوفي الأعور ت١٢٨هـ) وهذا من أئمة العلم الثقات. والآخر: السدي الصغير الكذاب الرافضي الخبيث. وكذا الطبري: فهناك الطبري الثقة الإمام المفسر المحدث: (محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الآملي أبو جعفر الطبري ت ٣١٠هـ) صاحب المصنفات، والآخر الكذاب رافضي خبيث (محمد بن جرير بن رستم الطبري) له مؤلفات في مذهبه. ونجد اليوم كثيرًا من الكذابين يدلسون على الناس بهذه الطريقة. * وقد تٍقع مثل تلك الروايات المنكرة والباطلة في كتب الرواية المسندة كذا لأسباب: ١ - إما أن يكون هدف المصنِف في مصنَفه جمع الروايات عن شيوخه التي جمعها طيلة حياته، فيصنف كتابه للناس ولا يشترط على نفسه درجة الصحة بل ولا حتى أدنى درجات القبول، فالشيخ أنما ألف كتابه ليجمع فيها حديثه ليس غير فيرتبه على طريقة المعجم كالإمام الطبراني ت (٣٦٠هـ)،أو أنه خرّج الروايات فقط ولم

(١) منهاج السنة ٦/ ٢٤.فلعل الشيخ ﵀ عرض المسألة على سبيل المجادلة أي حتى لو ثبتت -وهي لا تثبت - فأجاب عنها، أو هي سبق قلم، والله أعلم.

1 / 3

يحكم عليها بحكم معين فينقلها على وجهها، ويترك الأمر على من بعده، وهو معذور بذلك، كما في كتاب "كنز العمال" وغيره. ٢ - أو أن تكون تلك الروايات وردت في مصنفات اشترط أصحابها الصحة ولم يوفقوا إلى ذلك فأطلقوا اسم الصحيح على مصنفاتهم فظن من لا يميز أنها روايات صحيحة كالمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ت (٤٠٥هـ) فإنه زعم أنّ رواياته على شرط صحيحي الشيخين أو أحدهما، فجاء بالقليل مما يقبل والكثير مما ينتقد حتى ملأ كتابه بالأوابد والطامات، فيأتي من لا يعرف العلم فيقول صححه الحاكم! والحق أنه باطل منكر حكم عليه أئمة الصنعة من شيوخ شيوخ الحاكم بالبطلان، ومن تتبع عرف. وكذا صحيح ابن خزيمة ت (٣١١هـ) فهو وإن كان من النقاد والحفاظ المتقنين إلا أنه أورد في صحيحه أحاديث ضعيفة ومنكرة فيظن بعض عوام الناس أنها صحيحة لوردوها فيه. وكذا كتاب المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع المسمى اختصارًا (صحيح ابن حبان) ت (٣٥٤هـ). ٤ - أو يأتي في طبعة من طبعات كتاب ما اسم الصحيح على كتاب وهذه الزيادة غلط محض وقع فيه ناسخ أو محقق، كما وقع في طبعة من طبعات جامع الإمام الترمذي ت (٢٧٩هـ) ففي طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر: (الصحيح الجامع)،وهو غلط فالإمام لم يشترط صحته، واسمه على الصحيح (الجامع)،وقد اشتهر باسم السنن، ولا ضير، المهم أنه لم يشترط الصحة -إصلًا- وفيه الصحيح والحسن والضعيف والباطل كما نص على ذلك مصنفه رحمه الله تعالى، وهو جامع معلل لمن تامله. فيأتيك جاهل أو جاحد أو حاسد أو حاقد فيتهم الأمة بالتناقض أو بتحريف الحق ونكرانه لأنهم ينكرون رواية جاءت في مثل هاتيك المصنفات (الصحيحة!) فتأمل. ٥ - أو يأتي شيخ متأخر أو معاصر فيحكم باجتهاده تصحيحًا وتضعيفًا، فيخطئ في حكمه، فيصحح حديثًا منكرًا - هو يراه بحسب اجتهاده صحيحًا - فيأتيك مبتدع أو جاهل ليحاكم الأمة أو يحاكم إمامًا من أئمة العلم كونه يضعف حديثًا في مصنف ذلك الشيخ المتأخر أو المعاصر، كأحكام الهيثمي في مجمع الزوائد، أو السيوطي في الجامع الكبير والصغير، أو الشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ الألباني أو الشيخ شعيب الأرنؤوط وغيرهم من المعاصرين، وكثيرًا ما أجد من يفعل مثل ذلك في القنوات الفضائية اليوم، فتأمل! لهذا ولغيره من الأسباب يجب على طلبة العلم اليوم التوجه إلى التفتيش والنقد في الروايات التاريخية وإشاعة مفهوم التثبت والدليل في المعلومة التاريخية وغيرها، وضرورة تطبيق القواعد الحديثية النقدية على الروايات

1 / 4

التاريخية، لا سيما تلك التي يثار حولها الجدل، وكذا التزام طريقة نقد أئمة الصنعة المتقدمين في التعامل مع الروايات الحديثية، والتأني الشديد في أحكامهم على الأحاديث، فالخطب جلل. فهذه بعض أسباب تنطع بعض الجهلة بها في اتهام التاريخ الإسلامي وتعكزه على بعض الروايات المنكرة أو الألفاظ المتشابهة، أو تلفيق النصوص زيغًا في قلوبهم أو بدعة تشربت في نفوسهم أو حسدًا منهم، لما سطره تاريخ المسلمين من مفاخر عظام وأحداث جسام ورموز فرائد عز التاريخ أن يأتي بمثلهم: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير وليس غريبًا على أعداء الإسلام مثل ذلك، ولكن العجب في لهث بعض الجهلة والمنتحلين وراءهم! فكنا بالأمس نسمع تلك الشبه من محافل اليهود والصليبين، واليوم نسمعها من بني جلدتنا وممن يلبسون ثوب الإسلام- زورًا-،والعياذ بالله. وفي الوقت الذي يفتخر العالم كله بتاريخهم الغابر الأغبر! الذي ليس فيه إلا الدماء والقتل والظلم، ففارس اليوم تمجد كسرى ورستم، وتحتفل بيوم النار المقدسة!! والغرب يمجد الحملات الصليبية، حتى أنّ الرئيس الأمريكي "بوش" تبجح بها في غزوه لبلادنا اليوم! نجد كثيرًا ممن يزعم أنه عربي مسلم يدوس العروبة بقدميه، ويشنع على الإسلام وأهله، ومصداق ذلك ما تخطه أنامله وتنطق زورًا شفتاه، فيخرج علينا بين الفينة والأخرى دعيٌ يتهم رجالًا لو لم يكونوا -بمن الله وفضله- ولم يبذلوا ما بذلوا من المهج والأرواح لكنا اليوم عبيدًا في قصور كسرى وقيصر؟ يتهجم على جيل فريد عقم الزمان أن يأتي بمثلهم إلى يوم الدين، وعقمت الأرحام أن تلد كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ... الخ ﵃. ولكي يتحقق لهم مقصودهم وتتم لهم مآربهم راحوا يطعنون في أصح الكتب التي نقلت عن النبي ﷺ وأصحابه فشمروا السواعد، وبذلوا أوقاتهم للطعن في صحيح الإمام البخاري ت (٢٥٦هـ) وصحيح الإمام مسلم بن الحجاج ت (٢٦١هـ)،الذَين يعدهما المسلمون أصح كتابين في الدنيا بعد كتاب الله تعالى، تلقتهما الأمة بالقبول. فجاء هذا المؤتمر المبارك ليس نصرة للصحيحين فحسب، بل نصرة للنبي ﷺ وأصحابه ونصرة للطائفة المنصورة التي من علاماتها اتباعها الحق وتمسكها به، رغم كيد الكائدين وانحراف المنحرفين وانبطاح المتخاذلين، وتميع الجاهلين، فهذا المؤتمر -إن شاء الله - في صحيفة من أقامه ورعاه وشارك فيه، وأعان عليه ولو بشطر كلمة، وما هو إلا دلالة على صدق وإخلاص هذين الجبلين (البخاري ومسلم) فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فسخرنا بعد هذه القرون الغابرة لنقف مناصرين لهما ولكتابيهما، وسبحان القدوس الذي أيد البخاري بالنصرة في كل حين بعد تلك المحنة التي عاشها في زمانه! وصدق الإمام مالك ﵀ لما قال:"ما كان لله بقي".

1 / 5

ومن هنا وقع اختياري على هذا العنوان الدقيق والمسألة المهمة في حديث ورد في هذين الصحيحين فأسميته:"حديث رزية يوم الخميس في الصحيحين دراسة نقدية تحليلية "،وجاء في مبحثين، أما المبحث الأول فاوردت فيه ألفاظ الحديث في الصحيين وبينت الأختلاف الواقع فيها بين طريقي سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵁ وطريق عبيد الله بن عبد الله عنه. وجاء في ثلاثة مطالب: أما المطلب الأول: فأوردت فيه: نص حديث ابن عباس ﵁. وأما المطلب الثاني فبينت فيه: الصناعة الحديثية العالية عند البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى. وذكرت المعنى العام للحديث باختصار في المطلب الثالث. وفي المبحث الثاني: بينت شبهات المبتدعة حول الحديث. وجاء في سبعة مطالب. ذكرت في المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي ﷺ بكتابته. وفي المطلب الثاني: ناقشت فريتهم في قول بعض الصحابة: أهجر رسول الله ﷺ؟ ونسبتها إلى عمر ﵁.أما في المطلب الثالث: ناقشت قول عمر ﵁ حسبكم كتاب الله. وفي المطلب الرابع: ناقشت زعمهم أن عمر ﵁ أتلف حق الأمة لما منع الكتابة. وخصصت المطلب الخامس: لقول النبي ﷺ: (قوموا عني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني). وجاء المطلب السادس: في مناقشة وصايا النبي ﷺ الثلاث. وأما في المطلب السابع: فوضحت قول ابن عباس ﵁ (الرزية كل الرزية ....). ثم ختمت البحث بأهم النتائج والتوصيات. وأخيرا فهذا جهد المقل، وبضاعة مزجاة ما لم يتقبلها الله ﷿ بمنه وفضله، وقد أفدت من كل من كتب في هذا الموضوع من العلماء والمشايخ الفضلاء السابقين والمعاصرين، فإن أصبت فالحمد لله وحده، وان أخطأت فبتقصيري وقلة بضاعتي. والحمد لله رب العالمين.

1 / 6

المبحث الأول ألفاظ حديث رزية يوم الخميس ورد الحديث في أصح كتابين بعد كتاب الله تعالى تلقتهما الأمة المسلمة بالقبول، وكذا ورد في كتب السنة المعتمدة الأخرى كالكتب الأربعة، والموطأ للإمام مالك بن أنس ﵀ ت (١٧٩هـ)،والمسند للإمام أحمد بن حنبل ت (٢٤١هـ) وغيرها، بألفاظ متقاربة كلها تدور حول المعاني التي جاءت في الصحيحين. وجاءت بعض الألفاظ المستنكرة في بعض المصنفات الأخرى التي لا تشترط أدنى درجات الصحة، وإنما همها جمع الروايات المتعلقة بسنة تاريخية ما، أو بحادثة ما، أو بشخصية يترجم لها في كتابه كما جاء في طبقات ابن سعد ﵀ أو تاريخ الطبري، بل وأحيانا نجد في بعض التفاسير تجد مثل ذلك، فليس من الموضوعية العلمية ترك الروايات الصحيحة المخرجة في أبوابها والتشبث بهاتيك الروايات الضعيفة والباطلة لهوى في النفس أو تأييد لقول شاذ، وهذا من الكذب على النبي ﷺ،ومصداقه حديث المغيرة بن شعبة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال:"من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (١). المطلب الأول نص حديث الباب * قال البخاري باب: مرض النبي ﷺ ووفاته: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَجَعُهُ فَقَالَ:" ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ، وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ ".وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ: فَنَسِيتُهَا. أخرجه البخاري في (٤٤٣١) باب مرض النبي ﷺ ووفاته وفي (٣٠٥٣) باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم وفي (٣١٦٨) باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. وأخرجه مسلم ٣/ ١٢٥٧ (١٦٣٧) من طرق عن سفيان بن عيينة به (٢).

(١) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ١/ ٨،وغيره. (٢) وأخرجه الحميدي (٥٢٦)، وأحمد ١/ ٢٢٢وأبو داود (٣٠٢٩)،والنَّسائي في الكبرى (٥٨٢٤).

1 / 7

* وقال البخاري في الباب نفسه: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ َ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُب لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُومُوا". قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَكَانَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لِاخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. أخرجه البخاري في (٤٤٣٢) باب مرض النبي ﷺ ووفاته، وفي (١١٤) باب كتابة العلم، وفي (٥٦٦٩) و(٧٣٦٦) باب قول المريض قوموا عني. وأخرجه مسلم ٣/ ١٢٥٧ (١٦٣٧) من طرق عن الزهري به (١). المطلب الثاني براعة الأمامين في الصنعة الحديثية يتميز الإمامان البخاري ومسلم بالصناعة الحديثية العالية، وهي جلّية واضحة في مصنفاتهم ولاسيما في صحيحيهما، ومن يطالعهما بتأنٍ يلمس ذلك بوضوح، فالإمام البخاري ﵀ صنف كتابه بطريقة رائعة، ولا أبالغ إذا قلت إنها سحر! ولم يسبق إليها البتة، فهو يقطع الحديث الواحد قطعًا، ويورد كل قطعة بما يناسب بابها وقد يسوق هذا الحديث بسنده المتصل في موضع ويأتي به معلقًا في باب آخر، ثم يورد الحديث تاماَ في بابه المناسب، وتجده يكرر الحديث في عدة مواضع مرة تامًا وأخرى ببعض ألفاظه حسب ما يحتاج إليه. وليس عجيبًا أن يحفظ حديث ما بأسانيده المختلفة ولكنّ العجيب استحضاره لهذه الألفاظ المختلفة في أبوابها المختلفة، فتراه يأتي - مثلًا- بحديث يرويه الإمام الزهري (١٢٥هـ) ويرويه عنه (مالك وسفيان ومعمر والأوزاعي ويونس وعقيل وأبو إسحاق السبيعي) فتلامذة الزهري ليسوا على طبقة واحدة، فبعضهم أتقن من بعض لذا يقدم النقاد بعضهم على بعض حسب الإتقان فمالك بن أنس وابن عيينة يقدمان على معمر، ومعمر يقدم على الأوزاعي، واتفق أهل العلم بالاستقراء التام على أنّ البخاري ينتقي أعلى هذه المراتب، وكذا مسلم رحمهما الله تعالى.

(١) وأخرجه أحمد ١/ ٣٢٤ وفي ١/ ٣٣٦،و"النَّسائي في الكبرى (٥٨٢٢ و٧٤٧٤).

1 / 8

وقد يقع مثل هذا الاختلاف في الطبقات العليا أي على الصحابي فيرويه عنه ثلاثة أو خمسة من التابعين يختلفون فيه، وقد يكون هذا الاختلاف في طبقة شيوخه كأن يقع اختلاف بين شيوخه (عبد الله بن يوسف التنيسي، وإسحاق الفروي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وإسماعيل بن أبي أويس، ويحيى بن بكير، ويحيى بن قزعة، وأبي نعيم، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي) وغيرهم. فهؤلاء جميعًا -شيوخ البخاري- يروون عن مالك وقد يجد البخاري حديثًا يرويه خمسة منهم أو أكثر أو أقل، وهذا الحديث يروونه بأسانيد وألفاظ متفقة أو مختلفة، وقريبة أو بعيدة فيأتي الإمام البخاري فيورد طريق كل واحد منهم في بابه المناسب، وإنما تميز ما تميز به البخاري لكونه واسع الحفظ شديد الإتقان كثير الرحلة والشيوخ، جامعًا بين حفظ الحديث ونقده والفقه وقواعده، ثم مصنفًا كتابه على طريقة حديثية فقهية، مقتصرًا على ما صح من حديث النبي ﷺ فبرع وأجاد، فلله دره. وأما الإمام مسلم فإنه رتب أحاديثه على ثلاث طبقات فأورد أولًا أصح الطرق ثم تبعها بالصحيح دون الصحيح ثم بالشواهد الأقل فالأقل كما نص على ذلك في مقدمته الرائعة، ويفترق عن شيخه البخاري أنه صنفه على طريقة الصناعة الحديثية العالية، فجمع بين حفظ الأحاديث ونقدها وترتيبها على أبواب الفقه الرئيسة معتمدًا على أصح الروايات عنده. والذي أريده ههنا: أنّ الحديث إذا وجدته في صحيح البخاري وأردت معرفة أصح الروايات - عنده- ابحث عنها في بابها أولًا فإنه يوردها على الوجه الذي رجح عنده هناك، وأما إذا وجدت الحديث في غير بابه فأعلم أن الإمام البخاري قد يكون خرجها هناك مختصرة مقتصرة على الشاهد في الباب، ولا يجوز لك أن تحتج عليه بها في غير بابها، على أن كل هذه الروايات صحيحة ثابتة، هذه نكتة قل من يتنبه إليها من المعاصرين. والحال نفسه عند الإمام مسلم: فلا يصح أن تأتي بلفظ زائدة مخالفة في آخر حديث في الباب لتحتج به على حديث الباب، وهكذا. وكذا الحال ههنا في حديث الرزية هذا، فالحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما، ولكن يجب التنبه إلى ما فيه من الصنعة الحديثية: فحديث ابن عباس ﵁ رواه عنه اثنان: ١ - سعيد بن جبير الإمام الفقيه الحجة ت (٩٠هـ). ٢ - عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الإمام الفقيه الحجة، توفي على الأرجح (٩٥هـ). فأما طريق سعيد بن جبير: فرواه البخاري في:

1 / 9

* (٣٠٥٣) باب: (هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم): قال: حدثنا قبيصة حدثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتد برسول الله ﷺ وجعه يوم الخميس فقال:" ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا". فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله ﷺ؟ قال:" دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ". وأوصى عند موته بثلاث:" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ". ونسيت الثالثة. وقال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب؟ فقال: مكة والمدينة واليمامة واليمن. وقال يعقوب والعرج أول تهامة. وفي (٣١٦٨) باب: (إخراج اليهود من جزيرة العرب):قال حدثنا محمد-ابن سلام - قال حدثنا ابن عيينة عن سليمان بن أبي مسلم الأحول سمع سعيد بن جبير سمع ابن عباس ﵄ يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى قلت: يا ابن عباس: ما يوم الخميس؟ قال اشتد برسول الله ﷺ وجعه فقال:" ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه، فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، فأمرهم بثلاث: قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، والثالثة خيرٌ إما أن سكت عنها وإما أن قالها فنسيتها. قال سفيان هذا من قول سليمان. * وفي (٤٤٣١) باب (باب مرض النبي ﷺ ووفاته. وقوله تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ الزمر٣٠،قال: حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله ﷺ وجعه فقال:" ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال:" دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه ". وأوصاهم بثلاث قال:" أخرجوا المشركين من الجزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ". وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها. ويلاحظ في هذه الرواية التقارب في الألفاظ، إذ اتفقت على: -التنازع تقدم على قول القائل: أهجر؟ -اتفقت اثنتان منها على لفظ أهجر؟ استفهموه، خلا رواية قبيصة: هجر. -عدم ذكر عمر ﵁. -عدم ذكر لفظة رزية.

1 / 10

-ذكر الوصيتين وترك الثالثة. -جاء قول النبي ﷺ: (دعوني -ذروني)،وليس (قوموا عني) وبين ذين فرق كبير. طريق عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: أخرجه البخاري في: * (١١٤) باب العلم: فقال: حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي ﷺ وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر ﵁:إن النبي ﷺ غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، قال:"قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع"،فخرج ابن عباس ﵁ يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين كتابه". ومما يلاحظ في هذا الطريق: -اختلاف ألفاظ طرقه اختلافًا واضحًا، والحمل فيه جزمًا ليس من الزهري وإنما ممن هم دونه، فطريق سعيد بن جبير أصح لهذا أورده البخاري في أصل بابه (مرض النبي ﷺ) وكذا مسلم كما سيأتي. - ففي الطريق الأول: أورده البخاري من طريق يونس الأيلي عن الزهري وهو مختصر في باب (كتابة العلم) بما يناسب ترجمة الباب فأراد اثبات كتابة العلم من قوله ﷺ: (ائتوني بكتاب). لذا لا تجد فيها ذكرًا للوصايا الثلاث، ولا قولهم: أهجر؟. -قدم فيها قول عمر ﵁: (غلبه الوجع ....) قبل اختلاف الناس، وهو معارض بالروايات الصحيحة التي بينت أنّ عمر ﵁ حل النزاع بتلك المقولة كما جاءت في رواية معمر عن الزهري التالية، وليس العكس، فالبخاري ههنا أوردها ولم يلتفت إلى هذا الاختلاف في المعنى لأنه لا يؤثر فسيأتي به على وجهه في بابه. -قال في آخره: (فخرج ابن عباس وهو يقول ..) وهذا يوهم أن عبيد الله كان حاضرًا تلك الحادثة وليس الأمر كذلك. * وفي (٤٤٣٢): (باب مرض النبي ﷺ) قال: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ﵄ قال: لما حضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فقال النبي ﷺ:هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال بعضهم: إنّ رسول الله ﷺ قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله ﷺ: قوموا".قال عبيد الله فكان

1 / 11

يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم". -ويلاحظ في هذه الرواية،: - إن البخاري أوردها في باب مرض النبي ﷺ (وهو حديث الباب والمعتمد في روايتنا هذه) وأتى بها عقب حديث سعيد آنف الذكر متابعًا له، وفي هذا الطريق الى معمر اختلاف واضح مع بقية الفاظ حديث معمر إذ جاء فيها: -لم يذكر "يوم الخميس"بل ذكرت عبارة "الرزية" وهو في سائر طرق رواية عبيد الله عن ابن عباس ﵁. -ليس فيه ذكر لعمر ﵁،وإنما جاءت: فقال بعضهم. -فاختلف أهل البيت. -ليس في ذكر الوصايا الثلاث. وإنما جاء بها الإمام البخاري مقويا بها طريق سعيد بن جبير الأصل في الباب. * وفي (٧٣٦٦):باب (قول المريض قوموا عني): قال: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن معمر وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ﵄ قال: لما حُضِرَ رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ﵁ قال النبي ﷺ: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي ﷺ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي ﷺ كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ﷺ قال رسول الله ﷺ: قوموا". قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم". وهنا يلاحظ: - ذكر فيها عمر ﵁. -لم تذكر الوصايا الثلاث. وإنما جاء بهذه الرواية لورد عبارة (قول المريض قوموا عني)،فاراد اثبات مشروعيتها من قوله ﷺ:" قوموا عني"،بما يلائم عنوان الباب، لأنها في رواية سعيد بن جبير:"دوني "،ذروني".وبين ذين فرق جلي.

1 / 12

أما عند الإمام مسلم ﵀ فهو على شرطه في تقديم أصح الروايات في الباب، جاء من طريق سعيد بن جبير أولًا فقال في: * ٣/ ١٢٥٧ (١٦٣٧):حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ... (واللفظ لسعيد) قالوا: حدثنا سفيان عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلت يا ابن عباس وما يوم الخميس؟ قال اشتد برسول الله ﷺ وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي. فتنازعوا وما ينبغي عند نبي تنازع وقالوا ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه، قال: دعوني فالذي أنا فيه خير أوصيكم بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. قال: وسكت عن الثالثة أو قال فأنسيتها. * -ثم أردفه-قال أبو إسحاق إبراهيم حدثنا الحسن بن بشر قال حدثنا سفيان بهذا الحديث. * -ثم أردفه- (١٦٣٧) فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله: ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقالوا إنّ رسول الله ﷺ وسلم يهجر. * -ثم أردفه- (١٦٣٧) فقال: وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد -قال عبد أخبرنا وقال ابن رافع حدثنا عبدالرزاق - أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس ﵁ قال: لما حضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي ﷺ:هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده. فقال عمر ﵁: إنّ رسول الله ﷺ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله ﷺ كتابًا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر ﵁، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ: قوموا. قال عبيدالله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. فتأمل في تقديمه حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵁: من طريق أربعة من الحفاظ عن سفيان عن الأحول عن سعيد به. ثم أعقبه بإسناد -نازل - من طريق خامس (أبي اسحاق عن بشر) عن سفيان به. ثم أعقبه بطريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير به.

1 / 13

ثم أتى بطريق عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ﵁ آخر الباب. ولعل تأخيره لحديث عبيد الله بسبب الاختلاف الكبير الذي وقع في ألفاظه. وهكذا يتبين دقة الإمامين وبراعتهما في الصناعة الحديثية رحمهما الله تعالى. وباختصار أقول: إن الألفاظ المعتمدة في مناقشة هذا الحديث يجب ان تكون محصورة في الحديثين الذين أخرجهما البخاري في باب مرض النبي ﷺ من طريق سعيد بن جبير وطريق عبيد الله عن ابن عباس ﵁ بالألفاظ التي أخرجها البخاري في باب مرض النبي ﷺ أما التشبث بالطرق الأخرى في الأبواب الأخرى فليس من الإنصاف الاتكاء عليها للأسباب آنفة الذكر. وإن كنا سنناقش بعض الألفاظ في تلك الطرق من باب دفع الشبه، والله أعلم. المطلب الثالث المعنى العام للحديث نجد من الأولى قبل البحث في تفريعات الشبه التي أثارها بعض المبتدعة حول هذه الرواية، أن نتطرق اجمالًا إلى المعنى العام للحديث باختصار، فنقول: لما اشتد الوجع بالنبي ﷺ في مرضه الذي توفى فيه ﷺ وذلك يوم الخميس أي قبل أربعة أيام من وفاته ﷺ وبينما كان أصحاب النبي ﷺ قد ملأوا بيته ﷺ خوفًا عليه ووجلًا، طلب النبي ﷺ ممن حوله من الناس بصوت ضعيف فيه (بحة) إذ أرهقه المرض، وهذا عارض طبيعي يصيب الأنبياء بوصفهم بشرًا، حيث مرض ﷺ وأصيب، وأدميت قدماه، وكسرت رباعيته الشريفة، وغيرها من الأعراض الأخرى فطلب منهم ﷺ أن يأتوه بدواة وصحيفة ليكتب لهم كتابًا لن يضل الناس بعده، فلم يفهم الناس مراده، فأعادوا عليه وكرروه، فاختلفوا فبعضهم فهم المراد وقال: آتوه بالكتاب، وبعضهم استنكره؛ لأنه لم يفهم منه ذلك، لا أنه فهمه وخالف لأن ذلك يعني مخالفة النبي ﷺ والصحابة يستحيل عليهم مخالفته جميعًا، لا سيما أنّ فيهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ... الخ. فتنازع الناس واختلفوا، وهم يلحون عليه بذالك، فضج الجالسون، فقال بعض الناس ممن ليس له طول صحبة: أهجر رسول الله؟ استفهامًا، ثم قالوا: استفهموه أي اختبروه او امتحنوه أو كرروا القول عليه لنعلم أحقا يريد أم إنها آثار سكرات الموت؟ والرسول ﷺ أتعبه المرض واشتد عليه الوجع، فأراد عمر ﵁ حسم الخلاف وفك التنازع فوق رأس رسول الله ﷺ فقال عمر ﵁: (غلبه الوجع حسبنا كتاب الله) والنبي ﷺ كان يعاني أوجاع المرض بأبي هو وأمي والناس أجمعين فقال:"دعوني فالذي أنا فيه خير".

1 / 14

وقد أثار أصحاب البدع شبهات كثيرة حول هذا الحديث، متعكزين في ذلك على بعض الألفاظ المتشابهة في بعض طرق الحديث وسنحاول في هذا البحث عرض تلك الشبه والرد عليها إن شاء الله تعالى. المبحث الثاني شبهات حول الحديث المطلب الأول: مضمون الكتاب الذي هم النبي ﷺ بكتابته أما عن مضمون الكتاب الذي عزم النبي ﷺ على كتابته للمسلمين فقد اختلف فيه على أقوال: قال الإمام النووي:" اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي ﷺ به فقيل أراد أن ينصّ على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل: أراد كتابًا يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي ﷺ هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول وأما كلام عمر ﵁ فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب ﷺ أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر:"حسبنا كتاب الله"، لقوله تعالى:"ما فرطنا في الكتاب من شيء"، وقوله:" اليوم أكملت لكم دينكم "،فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله ﷺ فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه" (١). وقال البيهقي:" وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك، كما هم به في ابتداء مرضه حين قال: وارأساه، ثم بدا له أن لا يكتب وقال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها ... " (٢). وقال ابن حجر:" وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمرا متحتمًا لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ولبلغه لهم لفظا كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك" (٣). وقد اختلف أهل العلم في مضمونه على أقوال:

(١) شرح النووي ١١/ ٧٦،وينظر إكمال المعلم ٥/ ٣٧٩،وعمدة القاري٣/ ٣٢٨،وفتح الباري ١/ ٢٠٩. (٢) دلائل النبوة ٧/ ١٤٤. (٣) فتح الباري ٨/ ١٣٤.

1 / 15

١ - أنه أراد أن ينصَّ على خلافة أبي بكر الصديق ﵁. وقد حكى هذا القول سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله (١) وإليه ذهب البيهقي (٢) والقرطبي (٣)،وشيخ الإسلام ابن تيمية (٤)، والسويدي (٥)،وذكر القاضي عياض:" أن الكتاب كان في أمر الخلافة وتعيينها من غير أن يشير إلى أبي بكر" (٦). ويؤيده ما جاء في حديث عائشة ﵂، قالت: قال لي رسول الله ﷺ في مرضه:"ادعي لي أبا بكر: أباك وأخاك حتى اكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" (٧).وهذا الحديث نص في موضع النزاع، وهو من أقوى الأدلة لمن قال بتنصيص النبي ﷺ لأبي بكر ﵁. وأخرج البخاري ومسلم عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال:" أتت امرأة للنبي ﷺ فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تريد الموت - قال ﷺ: إن لم تجديني فأتِ أبا بكر" (٨). على أنّ الصديق لم يدع وصية به! لما وقع الخلاف في سقيفة بني ساعدة، بل أشار عليهم بعمر أو أبي عبيدة ﵃؟ ٢ - أنه أراد أن يكتب بعض المسائل الفقهية المهمة التي ستطرأ على الأمة (٩). ٣ - ذهبت الشيعة الإمامية إلى أنه أراد أن يوصي لعلي ﵁ بالخلافة من بعده. نص على ذلك كل أئمة الشيعة، وهو من أصول دينهم ومعتقدهم. ومن ذلك ما نقله الكليني عن موسى بن جعفر رحمه الله تعالى قال: "قلت لأبي عبد الله ﵇: أليس كان أمير المؤمنين كاتب الوصية ورسول الله (ص) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقربون ﵈؟ قال: فأطرق طويلًا ثم قال: يا أبا الحسن قد كان ما قلت؛ ولكن حين نزل برسول الله (ص) الأمر نزلت الوصية من عند الله كتابًا مسجلا ً نزل بها جبرئيل مع أمناء الله ﵎ من الملائكة فقال جبرائيل: يا محمد

(١) شرح النووي ١١/ ٧٦. (٢) دلائل النبوة ٧/ ١٤٤. (٣) المفهم ٤/ ٥٥٨. (٤) منهاج السنة ٢٣. (٥) الصارم الحديد في عنق صاحب سلال الحديد ٢/ ٤٨. (٦) الشفا ٢/ ٨٩٠. (٧) أخرجه أحمد ٦/ ١٤٤،ومسلم ٧/ ١١٠،وغيرهما. ٍ (٨) برقم (٣٦٥٩). (٩) ينظر: إكمال المعلم ٥/ ٣٧٩،وشرح النووي ١١/ ٧٦،وعمدة القاري٣/ ٣٢٨،وفتح الباري ١/ ٢٠٩.

1 / 16

مُر بإخراج من عندك إلا وصيك ليقبضها منّا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامنًا لها - يعني عليًا (ع) - وفاطمة فيما بين الستر والباب ... " (١). ومنه: قال سليم بن قيس الهلالي:" سمعت سلمان يقول: سمعت عليًا (ع) بعد ما قال ذلك الرجل (عمر) ما قال وغضب رسول الله (ص) ودفع الكتف: ألا نسأل رسول الله (ص) عن الذي كان أراد أن يكتبه في الكتف مما لو كتبه لم يضل أحد ولم يختلف اثنان فسكت حتى إذا قام من في البيت وبقي علي وفاطمة والحسن والحسين ﵈ وذهبنا نقوم وصاحبي أبو ذر والمقداد قال لنا علي (ع): اجلسوا. فأراد أن يسأل رسول الله (ص) ونحن نسمع فابتدأه رسول الله (ع) فقال: «يا أخي أما سمعت ما قال عدو الله أتاني جبرئيل (ع) قبل فأخبرني أنه سامري هذه الأمة (٢)، وأن صاحبه عجلها (٣)،وأن الله قد قضى الفرقة والاختلاف على أمتي من بعدي فأمرني أن اكتب ذلك الكتاب الذي أردت أن أكتبه في الكتف لك وأشهد هؤلاء الثلاثة عليه أدع لي بصحيفة. فأتى بها فأملى عليه أسماء الأئمة الهداة من بعده رجلا ً رجلًا وعلي (ع) يخط بيده وقال رسول الله (ص): إني أشهدكم أن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أمتي علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم من بعدهم تسعة من ولد الحسين ... " (٤). وروى الطوسي (شيخ الطائفة) بسنده عن جعفر الصادق عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ:"ما قبض الله نبيًا إلا أمره أن يوصي إلى أفضل عشيرته من عصبته وأمرني أن أوصي. فقلت: إلى من يا رب؟ فقال: أوص يا محمد إلى ابن عمك علي بن أبي طالب فإني قد أثبته في الكتب السالفة وكتبت فيها أنه وصيك، وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي أخذت مواثيقهم لي بالربوبية ولك يا محمد بالنبوة ولعلي بالولاية" (٥). قلت نعم، ما مات رسول الله ﷺ إلا وأوصى وصيته، فأوصى بكتاب الله تعالى، وبالصلاة، وبالنساء، وبالوصايا الثلاث في هذا الحديث وغيرها مما ثبت، وقد سئل ابن أبي أوفى عن مثل هذا السؤال، كما أخرج ابن

(١) الكافي١/ ٣١١. (٢) يريد الفاروق عمر ﵁! ولا حول ولا قوة إلا بالله. (٣) يريد أبا بكر الصدّيق! ولا حول ولا قوة إلا بالله. (٤) كتاب سليم بن قيس الهلالي ص٣٩٨،وينظر غيبة النعماني ص٨١. (٥) أمالي الشيخ الطوسي ١/ ١٠٢.

1 / 17

حبان عن طلحة بن مصرف قال:"سئلت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله ﷺ؟ قال: ما ترك شيئا يوصي فيه. قيل: فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله" (١). قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"من جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة علي نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟ " (٢). وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:"وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه. وترك المحكم وأهل السنة يأخذون بالمحكم، ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله ﷿ في كتابه، وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار، وهذا الذي كان يريد ﵊ أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه" (٣).يريد خلافة أبي بكر والله أعلم. ونقول: إنّ في إثبات مثل هذه النصوص واعتقادها أمورًا خطيرة للغاية قد توصل صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله، فالوصية إن ثبتت كانت واجبًا شرعيًا ضروريًا لا يصح مخالفته أو تركه أو إنكاره ويكفر منكره ولازمه أنّ عامة الصحابة كفروا وارتدوا؟ وهو معارض بنصوص القرآن الكريم فقد جاء في أكثر من موضع امتداحهم والرضى عنهم، فمن ذلك: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التوبة١٠٠،وقال: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ الفتح١٨،وقال: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح٢٩.

(١) أخرجه ابن حبان (٦١٣٠). (٢) منهاج السنة ٦/ ٣١٥. (٣) البداية والنهاية ٥/ ٢٤٨.

1 / 18

ثم من المعروف أن القرآن كان ينزل لحوادث معينة أو بغيرها ولكنه في أمات القضايا وطوارئ الأمور كان ينزل في ساعته، حتى كان بعض المنافقين يحذرون من نزول آية أو سورة تكشف عورتهم، قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ التوبة٦٤. وكان الصحابة يحذرون مثل ذلك من شدة تقواهم وورعهم فعن علي بن أبي طالب ﵁ قال:" لما أصيب حمزة بن عبد المطلب ﵁ خرج زيد بن حارثة حتى أقدم ابنة حمزة، وقال: أنا أحق بها تكون عندي؛ تجشمت السفر، وهي ابنة أخي. وقال علي بن أبي طالب: أنا أحق بها تكون عندي، وهي ابنة عمي، وعندي ابنة رسول الله ﷺ. وقال جعفر بن أبي طالب: أنا أحق بها، لي مثل قرابتك، وعندي خالتها، والخالة والدة. فخرج رسول الله ﷺ فقال: "أنا أقضي بينكم في ذلك وفي غيره ". قال علي: فتخوفت أن يكون قد نزل فينا قرآن لرفعنا أصواتنا، .... الحديث" (١). وعن ابن عمر ﵄ قال:"كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبي ﷺ هيبة أن ينزل فينا شيء فلما توفي النبي ﷺ تكلمنا وانبسطنا" (٢). ومنه أيضًا: ما رواه سلمة بن صخر الأنصاري ﵁ قال: كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله ﷺ فأخبره بأمري فقالوا لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله ﷺ مقالة يبقى علينا عارها ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك .... الحديث (٣). فتأمل مثل ذلك، وحذر الصحابة من نزول قرآن فيهم، ثم يأتي مفتر ٍ أشر يتهمهم بالنكوص وإنكار أمر شرعي وأصل من الأصول –كما يزعمون-. وهنا سؤال مهم: لماذا لم يتنزل القرآن في هذه الحادثة والنبي ﷺ عاش بعدها أربعة أيام؟ إذن إثبات هذه الوصية معارض بالقرآن الكريم، ومعارض بقول علي ﵁ فقد نقلوا عنه في خطبته حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان ﵁ أنه قال فيها:" دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له

(١) أخرجه أحمد ١/ ٩٨ و١١٥،أبو داود (٢٢٨٠) والنسائي في الكبرى (٨٤٠٢) والطحاوي –واللفظ له-في شرح مشكل الآثار ٧/ ١٠٧،وغيرهم. ٍوالحديث أصله في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس ﵁. (٢) أخرجه البخاري (٤٧٨٨). (٣) أخرجه الترمذي (٣٢٢١).

1 / 19

القلوب، ولا تثبت عليه العقول ... إلى أن قال: وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزير خير لكم مني أمير " (١). فكيف يرفض تكليفًا شرعيًا، ومستحقًا له منع منه لعقود من الزمن؟ ثم ما حكمه من الناحية الشرعية؟ هل سيجر حكمهم في علي ﵁ كما قالوا في الصحابة؟ ونقل عن علي ﵁ أيضًا في نهج البلاغة مخاطبًا طلحة والزبير:" والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها " (٢). فتأمل في قوله (رغبة) وقوله (دعوتموني .. حملتموني) فأين هي الوصية؟ وأورد الطبري في تاريخه أنّ عليًا ارتقى في يوم الجمعة أعواد منبر رسول الله ﷺ في أول خطبة له، وقال: "أيها الناس -عن ملأٍ واُذُنٍ -إنّ هذا أمركم، ليس لأحد حق إلا أن أمرتم. وقد افترقنا في الأمس على أمر -أي على البيعة له -فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد" (٣). فعلي ﵁ " يعلن على رؤوس الأشهاد في مسجد رسول الله ﷺ،وعلى منبره وبعد البيعة له أنه لا يستمد الخلافة من حق يدعيه ولا من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضها الأمة، وإلا فإنه - كإخوانه الثلاثة الذين سبقوه - أرفع من أن يجعلها أكبر همه وغرض نفسه. هذا هو الذي وقع، وهذه الحقائق صدرت من فم علي بن أبي طالب نفسه، ومن سنة ٣٥هـ إلى اليوم الذي تحاور فيه الإمام زيد بن علي بن الحسين مع شيطان الطاق لم يخطر على بال أحد من آل البيت، لا علي، ولا الحسن، ولا الحسين، ولا علي بن الحسين، ولا محمد بن الباقر، ولا غيرهم - أن هناك إمامة لآل البيت كما اخترعها شيطان الطاق فأساء بذلك إلى الإسلام وإلى آل البيت، وإلى أمة محمد جميعًا، فالله حسبه " (٤). وأتساءل هنا: ما الحكم -عندهم- فيمن أنكر هذه الوصية وخالفها؟ قال الصدوق (ابن بابويه القمي):" اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد جميع الأنبياء، واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحدا من بعده من الأئمة إنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء، ثم أنكر نبوة محمد ﷺ " (٥).

(١) نهج البلاغة ص ١٧٨، ١٧٩ شرح محمد عبده. (٢) نهج البلاغة ص ٣٩٧ شرح محمد عبده (٣) تاريخ الطبري ٦/ ١٥٧. (٤) مختصر التحفة الأثني عشرية ص٢٦٣ (٥) الاعتقادات للقمي ص١١١.

1 / 20