184

حديث عيسى بن هشام

تصانيف

ولو كانت الأمور تجري على القياس أيضا لاشتغل المصريون بلذة هذه المشاهدة، وسعوا في نموها فيهم؛ إن لم يكن من جهة لطف الإحساس والشعور فمن جهة انصرافهم إلى تقليد الغربيين، والعمل على نمطهم في مختلف أحوالهم كما شاهدته منهم عيانا في جميع حركاتهم وسكناتهم، ولكن لعل هناك من خفي الأسباب ما حرمهم اطراد التقليد في هذا الباب.

عيسى بن هشام :

لم يكن هناك من سبب يمنعهم غير ميلهم إلى الفتور والانقباض، سواء أكان في الماديات أم الأدبيات، وهم على شدة ولعلهم بتقليد الأجانب لا يقلدونهم إلا فيما خف وهان من الزخرف المموه والبهرج الكاذب والملاذ الشهوانية مما لا ينتج عنه إلا سقم الأجسام ونفاد الأموال، وما عدا ذلك من أمور المدنية النافعة فمجهول عندهم بل مرذول لديهم، وإجمال القول في هذا الباب أن مثل المصري في أخذه بالمدنية الغربية كمثل المنخل يحفظ الغث التافه ويفرط في الثمين النافع.

الباشا :

يا أسفا عليهم كأنهم تخلوا عن فضائل مدنيتهم القديمة، ولو يتحلوا بفضائل المدنية الحديثة، فأصبحوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

قال عيسى بن هشام: وما زال الحديث يجري بنا على هذا النحو حتى وصلنا إلى المغارة المصنوعة في بعض أنحاء الحديقة، فرأينا صنعا جميلا وشكلا بديعا، وأعجبنا تدفق الماء من ثنايا الأحجار، فجلسنا على سرر هناك أعدت للزائرين، وإذا بجانبنا ثلاثة أشخاص من المصريين شغلهم اتصال الحديث بينهم عن الالتفات إلينا، فأقمنا نسترق السمع ونلتقط اللفظ، فتبين لنا من سياق كلامهم أن أحدهم عمدة من عمد الأرياف، وثانيهم تاجر من تجار الثغور، وثالثهم فتى من أهل البطالة والخلاعة، ومما التقطناه من قول العمدة للخليع في مجرى حديثه:

العمدة :

وأين الآن ما دخلنا الحديقة من أجله، فقد طال بنا الجلوس ولم نر شيئا؟ وهل كان جل القصد ومنتهى الجهد أن نجلس هنا في وخامة الأشجار ورطوبة الهواء وعفونة الماء؟ وتالله ما أجد فرقا بين هذا المنظر وبين منظر ذلك المستنقع الذي خلفته خلف بلدتنا، ولعمري إن الأوز الذي يسبح فيه هناك أكثر عددا وأعظم سمنا من الأوز الذي يسبح أمامنا، وما الفائدة في طول جلوسنا أمام هذه الأشجار العقيمة التي لا تثمر ولا تغني من جوع؟ وأين نحن من ذلك الثمر الشهي والصيد الطري الذي وعدتنا به وأطمعتنا فيه!

الخليع :

مهلا فلن يفوتك من هذا شيء وإن كنا أخطانا الغرض هنا؛ لأنني كنت أظن الحديقة على عهدي القديم بها، وما كنت أتخيل أن الأمر وصل بها إلى مثل هذا الخراب من الظباء والغزلان، إلا منذ أخبرني أحد الأصحاب بعد دخولنا بأن الحكومة اشتغلت بأمر هذه الحديقة لخلو يدها من الأشغال، فباشرت الإصلاح فيها بمنع ذوات البراقع والمآزر من دخولها والتجول في أنحائها، ولا أقول في هذه النازلة إلا قول الجرائد في التأفف من أعمال الحكومة: «حسبنا الله ونعم الوكيل».

صفحة غير معروفة