ثمن الدواء
أذن الفجر وتقلبت زكية في نومها؛ فقد تعودت أذناها أن تلتقطا أذان الفجر منذ أن ينبعث من حنجرة الشيخ عبد المقصود الخشنة. وما لبثت أن أفاقت من نومها وألقت إلى زوجها نظرة، ثم نظرت إلى الشباك والظلام ينبعث منه مهزوما مدحورا، وجلست زكية في السرير ومدت يدها إلى زوجها حمدي فربتت كتفه: حمدي ... حمدي.
وأحس حمدي بيد زوجته وهو يغالب اليقظة ويهفو إلى النوم، وأدار ظهره يعتصم بالجهة الأخرى من السرير من إيقاظ زوجته له. وما كانت هذه الحركة جديدة على زوجته، وإن كانت قريبة العهد بالزواج منه، فهي تربت الكتف الأخرى التي أصبحت تواجهها: قم يا حمدي لتصلي الفجر.
ويهمهم حمدي ببعض الألفاظ، ثم لا يجد مناصا آخر الأمر من أن يصحو، وتقول له زوجته في حنان: صباح الخير. - صباح الخير.
وينزلق حمدي عن السرير ويتوضأ ويصلي الفجر حاضرا، ويجلس إلى مائدة الإفطار التي كانت زوجته قد أعدتها له، وتجلس زوجته أمامه، ويقول حمدي: الولد أيقظنا كثيرا في الليل. - مسكين، المغص لم يتركه طول الليل . نام قبل الفجر بساعة واحدة. - الزجاجة فرغت، ألم أقل لك. - ألم يكن باقيا منها شيء؟ - أبدا. - يظهر أن دواء هذا الدكتور غير نافع. - وماذا نعمل؟ لقد قال لنا كرروا الدواء. أتذهب إلى دكتور آخر؟ - تقصدين ندفع جنيها آخر؟ - هذا أوفر. - أوفر؟! - أوفر من الدواء الذي لا ينفع. - نجرب الدواء مرة أخرى ونرى. - نجربه. - طيب، هات خمسين قرشا. - ربنا يبعث. - ماذا تقصد؟ - ألا تعرفين ما أقصد؟ - أليس معك خمسون قرشا؟ - من أين؟ - من البقشيش. - ومن أين يأتي البقشيش؟ - عجيبة! من الزبائن. - وأين هم الزبائن؟ - في الحمام. - ألا تلاحظين أن الشتاء أوشك أن ينتهي والزبائن أصبحوا قلة، لا نرى إلا واحدا أو اثنين على الأكثر في اليوم. - ولماذا تتعبون أنفسكم وتفتحون الحمام؟ - وماذا يهم اللوكاندة أن يأتي الزبائن أم لا؟ المهم أن يكون الحمام مفتوحا في اللوكاندة الكبرى. - ونموت نحن؟ - إننا نأخذ مرتباتنا وهذا كل ما يهمهم. - ولكن مرتبك لا يكفي، إننا بدون البقشيش لا نستطيع العيش. - ربنا يبعث. - يظهر أنك أنت الذي لا تحسن معاملة الزبائن. - ربنا أعلم. أنا والله أريحهم وأكلمهم بكل أدب، مرة بالإنجليزي، ومرة بالفرنساوي، ومرة بالطلياني، وأضحكهم وأبسطهم، ولكن أين هم؟ - المهم، ماذا نفعل في الدواء؟ - بمجرد أن أحصل على الخمسين قرشا سأشتري الدواء من الأجزخانة المجاورة للحمام وأبعثه لك. - ربنا يفتح عليك. - أفوتك بعافية. - مع السلامة.
وخرج حمدي من المنزل يفكر في الدواء وفي ثمنه، وينظر إلى الشمس تتوسط السماء، وخيل إليه أنها ترسل إليه نظرات عداوة شديدة. ومن مجنون يأتي إلى حمام بخار، وهذه الشمس ترسل أشعتها الحارقة؟! السياح سافروا والحمد لله، وزبائن الحمام من المصريين لا يأتون، والجو على هذه الحرارة، من مجنون يأتي؟ الأمر لله. ومن أين لي بثمن الدواء؟ أستلف من اللوكاندة؟ وهل تقبل اللوكاندة؟ هل أقصد إلى صاحب الأجزخانة وأرجوه أن يعطيني الدواء وأدفع له ثمنه عند ميسرة؟ ومتى تأتي الميسرة؟ وكيف لصاحب الأجزخانة أن يثق بي وهو لا يعرفني؟ ويصل حمدي إلى الحمام ويفتحه ويعد الأدوات، ويجلس ينتظر الزبون والفرج ، ولا يطول انتظاره؛ فما يلبث الباب أن يفرج عن رجل طويل في الأربعين من عمره، أبيض البشرة سمح الملامح. - السلام عليكم.
وينظر إليه حمدي. زبون جديد لم يره قبل اليوم، يا فرج الله: وعليكم السلام يا سعادة البك ورحمة الله وبركاته. - هل أستطيع أن آخذ حماما؟
ويجد حمدي فرصة ليقدم نفسه على أنه ممن يتكلمون الإنجليزية، راجيا أن يكون لذلك أثر في الارتفاع بالبقشيش. - أوف كورس يا سعادة البك، تحت أمرك.
وتختلج عين الزبون لحظة، ويفكر في المبلغ الذي سيخسره في هذا الحمام، إن كان الخادم متعلم الإنجليزية فكم تراه سيدفع ثمنا لهذا الحمام؟ شورة سوداء. لقد أوقعه ابن عمه سامح في المحظور، وأوشك أن يعود ثانية إلى الباب الذي دخل منه، ولكنه تريث لحظة وسأل: بكم أجر الحمام؟
ونظر إليه حمدي ودارت في رأسه الأفكار، إن الزبون الذي يسأل عن أجرة الحمام لا يبشر بخير، ولكنه يسارع إلى بقية الأمل قبل أن يضيع: حاجة بسيطة يا سعادة البك، بسيطة جدا. - يعني كم؟ - أتريد سعادتك حماما واحدا أم ...
صفحة غير معروفة