وراحت الأم تهدئ ثائرة وحيدها في حدب وإشفاق، ولكن البكاء كان يزيد كلما تذكر أنهما لن يسيرا معا عبر الحقول، ولن يخوضا الماء معا، لا ولن يركبا النورج، ولن يطالعا الشمس عند بكورها، ولن يودعاها عند الغروب. لن يرى عبد الواحد. ويزداد البكاء.
ويذهب الشيخ حمادة إلى حيث تعود أن يجلس في كل يوم، هناك على مصطبة العمدة، وما كاد يجلس حتى يقبل إليه الشيخ سالم عوضين أبو عبد الواحد، فما إن رآه حتى يبتسم له قائلا: تعال يا سيدي.
ويحس الشيخ سالم أن في صدر الشيخ حمادة شيئا يخصه. - خير! - ابنك عمل لنا إشكالا اليوم في البيت. - لماذا؟ - تركت الولد ابني يبكي بكاء يفتت القلوب. - لماذا؟! إنهما أصحاب لا يفترقان. - وهذا هو السبب. - لا أفهم. - الولد محمود لا يريد أن يترك عبد الواحد ويذهب إلى الأزهر. - ماذا؟! - هذا ما حصل. - الله يجازيه. وماذا فعلت؟ - أنا والله حائر. - لا حيرة ولا غيره إن شاء الله. - أعندك حل؟ - أحسن حل. - ماذا؟ - متى تريد أن تصحب محمود إلى الأزهر؟ - باكر إن شاء الله. - تصحب محمود وعبد الواحد على بركة الله. - هل أنت جاد يا شيخ سالم؟ - كل الجد يا شيخ حمادة. يذهبان معك إلى الأزهر باكر إن شاء الله.
وهكذا يذهب عبد الواحد إلى الأزهر مع محمود، ويسكنان معا في غرفة واحدة، ويتلقيان علومهما على شيخ واحد، وتتحد بينهما الحياة في كل دقيقة تمر بهما من دقائق الحياة.
ويقضيان في الأزهر الشريف سنوات طويلة، ويعجز كلاهما أن يبلغ شيئا من شهادات الأزهر العليا، فيعودان معا إلى القرية يصحبان عجزهما هذا، ويصحبان أيضا عمامتين لا يتنازلان عنهما، ويحملان لقبا لا يفارقهما، هو الشيخ محمود والشيخ عبد الواحد.
ويختار الله الشيخ سالم إلى جواره فيصبح الشيخ عبد الواحد هو القيم على شئون بيت أبيه وعلى أخته نعمات.
ويمر عام ويسمع الشيخ عبد الواحد وهو في قاعة بيته صوتا عرفه لتوه. - يا ساتر.
وينهض إلى الباب. - يا مرحبا بالشيخ محمود، يا أهلا وسهلا.
ويدخل محمود إلى القاعة ويتخذ مجلسه. - كيف حالك يا شيخ عبد الواحد. - الحمد لله يا شيخ محمود. - رحنا الأزهر وجئنا فما أحضرنا معنا إلا الشيخ محمود والشيخ عبد الواحد.
ويقول عبد الواحد وهو يغالب الضحك: أبي وأبوك حصلا على المشيخة دون أن يبرحا القرية. وحين يهدأ بهما الضحك تبدو على وجه محمود علامات جد، ويقول: جئت إليك في أهم شيء في حياتي. - حياتك هي حياتي يا محمود. - الصداقة التي بيننا ليست كافية. - قل ما تشاء، وإن كنت أراها فوق الكفاية. - أريد أن تصبح قرابة. - هي أقوى من القرابة. - ولكني أريدها قرابة. - يتهيأ لي أني فهمت. - أنت ذكي منذ نحن أطفال صغار. - تريد أن تخطب نعمات؟ - هو ذاك. - هي لك. - لا، أبدا. - ماذا؟! - كنت أعلم أنك ستوافق ولكن يهمني رأيها هي. - أتعصي لي أمرا؟! - أنا لا أريد منك أن تأمرها، أريدك أن تسألها. - وهو كذلك. - أمر عليك باكرا. - أبدا والله، لا تخرج إلا وأنت خطيبها. - يا رجل اتق الله، إني أريدها أن تفكر في الأمر. - فيم تفكر؟! إنك من أغنى أبناء النوافعة ... - الأهم من ذلك أني صديق عمرك يا عبد الواحد. - إذن فانتظر حتى أسألها. - أمرك.
صفحة غير معروفة