وكان قد زاد في إعجابه ودهشته أن خبر الخاصة كان قد بلغهم كما وقع فيما جرى عند شداد وعند أبيه، حتى قوله: إن للشعب حقوقا تجب مراعاتها، ولولا أنه لم يفارق الشيخ الحكيم لحظة منذ أبلغه هذا الخبر؛ لتوهم أنه هو المخبر، ولاحظ أن الرصانة والهدوء كانا يتغلبان في بحث كل خبر كهذا، فأدرك أن التنظيم المدرك الواعي الهادئ هو الشرط الخامس لكل ثورة مخلصة مجردة.
وفيما كان مستغرقا في تلك الظواهر وفي حيويتها، تعبر عن حقيقة معاني الثورة، تستكمل نموها في نفسه، أيقظه هدير كلمة «ولي العهد»، يتردد في حناجر المؤتمرين، وإذا هو أمام أمير الجيش وبعض قادته يحيونه بكلمة السر: «ولي العهد»، فيجيبهم على الفور: عرين الأسود، وكان يعتقد أن كلمة «عرين الأسود» جوابا على كلمة السر كانت من وضعه، فإذا الواقع يؤيد أنها الجواب المصطلح عليه سابقا، أطلقها الثوار جوابا على كلمة السر، فآمن بتجاوب قلوب المجتمعين حول فكرة صحيحة، إذا ما كانت الفكرة أصيلة تنبثق من أعماق النفوس على سجيتها دون تقليد ولا افتعال، فألقى في نفسه أن الأصالة في التفكير وفي التعبير تصلح شرطا سادسا لتحقق معاني الثورة في النفوس، وقال في نفسه: ما أروع الإنسان في طبيعته، تتفتح بها معاني الحياة في داخل كيانه، فتتجلى عظمة الحياة في جمال تعبيره عن وثباتها.
وما قرر المجتمعون نضج الثورة لانتشار فكرتها صحيحة بين الجماهير في الشعب، وما أعلن قادتها أن الثورة قد أينعت، وحان قطاف ثمارها، حتى وجد في نفسه شرطها السابع؛ وهو أن القوة الفاعلة هي قوة الشعب، فلا يكفي أن تنضج فكرة الثورة في نفوس القادة والأركان.
كل ذلك مر في خاطر الملك أمام النافذة المطلة على الحديقة، وهو مستغرق في حلم اليقظة لا في حلم النوم، فمرت أمامه مشاهد الثورة في انطلاقها، واستسلام أبيه بعد مقاومة، دافع عنه فيها حرسه وبعض فرق الجيش، وقسم قليل من تباع الخاصة من الشعب، حتى استقر الأمر في استيلائه على العرش، والقبض على من بقي من المفسدين.
ولا يزال يذكر قوله لأبيه في تلك المعركة: يا أبت إن في استسلامك إنقاذا للمملكة ولمجدها وشرفها. وجواب أبيه في تنازله عن عرشه: يعزيني إنك أنت الملك الآن، وقد أدركت كل شيء، فلا تتساهل مع من خدعني من المقربين، وانتبه لأطماع شداد، فإنه جبار عنيد.
ولما كانت الثورة في حقيقة معانيها أسمى من أن تقف عند خلع ملك وتولية ملك، فقد استمر أوارها حتى أنقذت المملكة من جور شداد وبغيه، واستعادت ما سلب، وفرضت على مستعبد شعبها الجزية.
بوركت الثورة، فإنها وثبة حياة، توحد وتنقذ، وليست شغب أطماع تفرق، ولا هوس عصيان يهدم ويهير.
ليست الثورة أطماعا ولا مآرب ولا استغلال مغانم، وإنما هي قيم ومثل عليا، تضحي على مذابحها النفوس راضية مستبشرة، فيتحقق بها معاني الاستشهاد في أروع مشاهده.
والخطر كل الخطر في أن تنقلب الثورة شغبا أو عصيانا، حينما تستيقظ في نفوس الثائرين الأطماع، إذا ما دغدغتها مظاهر الأبهة، وتطبيل الدجل، وتزمير الشعوذة، وتصفيق التملق، وتهليل الغطرسة والكبرياء، قد تبدأ الثورة شغبا، ولا تزال ترتفع عن إسفاف الشغب حتى تبلغ حقيقتها، وتؤتي أكلها، وليس في هذا التطور خطر ما دام في طبيعة سيره، ولكن الخطر يكون قاتلا إذا ما عادت الثورة شغبا تدمر ما بنت، وتهدم ما شيدت في المدن والأمصار، بل هذا هو الأهم في نفوس الشعب عماد الثورة ومغذيها.
لذلك لا تنتهي الثورة عند أمجادها بل تستمر؛ لتستقر في النفوس ولتتوارث روحها الأجيال، ولا يبقيها في نفوس الشعب سوى العدل، عندما يحكم الثائرون، وهذا ما كان حققه الملك الجديد بعد أن ظفر، فلقب بالملك العادل، وإنه لا يزال يذكر قول أستاذه الحكيم بعد أن ظفر بالعرش منقذا، وبعدوه شداد منتصرا، إن ذلك الشيخ الوقور كان على فراش الموت يحتضر حين قال له: اعلم يا بني أن الثورة هي الثورة ما دامت تقاوم الفساد وتكافحه، سواء أكانت ثورة شعب على حاكمه، أم ثورة حاكم على شعبه، ويخطئ من يعتقد أن الثورة هي ثورة الشعب المظلوم على حاكم جائر وحسب، بل قد يتبدل وضعها، فتصبح ثورة حاكم صالح عادل على شعب متخاذل فاسد، فبعد أن كنت في المعركة مع الشعب الثائر، وأصبحت بفضل الثورة ملكا، كن الآن ذلك الملك الثائر، فروح الثورة ، وقد اختبرت أصالة التفكير في لهيبها، هي خير مستشار لك، وخير صديق تعتمد عليه في إصلاح الرعية، وإلا فإنني أخشى أن تنقلب الثورة عليك، كما سبق وانقلبت وبك أنت على أبيك.
صفحة غير معروفة