إنني طلبت منك الكتمان، ولم أطلبه طمعا بالاحتفاظ بمكانة أو بثروة أو بمظهر، أو خوفا على حياتي، فأنا زاهد على ما تعلم، وحياتي أهون شيء لدي، وإنما مصلحة المملكة تقضي بالكتمان، وأنت بصفتك وليا للعهد يجوز لك - بل يجب عليك - أن تكتم أمورا كثيرة عن والدك الملك الأب الأول، فللأب الثاني وهو المجتمع حقوقه، وهي فوق حقوق أبيك الملك، والكيس من يكون برا بالوالدين، يعطي كلا منهما حقه.
شعر ولي العهد بأنه أصبح في عالم غير عالمه، وكاد يضيق بذاته، وفيما كان يهم بإلقاء سؤال جديد حضر حاجب الملك، ودعا الحكيم الفيلسوف إلى الاجتماع بجلالته على جناح السرعة.
قام الحكيم ملبيا الدعوة واعدا تلميذه بالعودة إليه، فوعده هذا بأنه لن يبرح مكانه.
وها هو الآن واقف أمام نافذة ردهة الاستقبال، ينظر إلى مكانه ذاك مع أستاذه، ويتأمل في الحديقة وفيما سمع آنذاك، إنه واقف أمام النافذة وكأنه في الحديقة لا يزال ينتظر عودة الحكيم.
الفصل الثاني عشر
قال الراوي: كان الملك واقفا بجسده أمام النافذة المطلة على الحديقة، ولكن روحه كانت في تلك الحديقة ذاتها جالسة على ذلك المقعد الرخامي - الشاهد العدل على تلك الحوادث والأحاديث - تنتظر عودة الحكيم الشيخ، وتتأمل فيما سمعته منه قبل تلبيته دعوة الملك، الأمر يتعلق بمصلحة المملكة وبك أنت، إنك ولي عهد ولست ابن الملك وحسب، أبوة الملك وأبوة المجتمع، وأبوة المجتمع فوق أبوة الملك، سر رهيب يجب أن أكتمه، وأن أتناساه إذا لزم الأمر، ما هذه الألغاز؟! ألا يكفينا ما أصابنا من استيلاء شداد - ذلك الملك الشاب الجبار - على بعض مدن الحدود، وفرضه الجزية يدفعها الملك صاغرا؟ هل انقلب هذا الأستاذ على ملك أحبه واحترمه واختاره مربيا لابنه وولي عهده؟! هل أصبح من اعتقدنا فيه الوفاء ناكرا للجميل، بتآمر على الملك مع الموتورين المتألبين المفسدين ويخون عهده؟ مسكين أنت يا أبي، وفيما كان ولي العهد غارقا في هذه التأملات شعر بيد تربت على كتفه، فإذا الشيخ يعود، وأمارات الاهتمام على وجهه.
جلس الشيخ في مقعده الأول، وقد أدرك من استقبال ولي العهد خفايا تأملاته، فابتسم، وبادره بقوله: علك أسأت بي الظن، وكان احمرار وجه الشاب في صمته جوابا.
ح :
أنا لا أعتب عليك سوء ظنك بي، ولكن ثق أنني كنت - ولا أزال - الوفي الأمين، ولولا خطورة الحال وأهمية الوضع لما أجزت لنفسي أن أستمر في الحديث، ملحا في أن أحصل منك على ذلك الوعد، وأنا الواثق بشرفك لطيب أرومتك ومروءتك.
و :
صفحة غير معروفة