وجعل عللهم في منزلة بين التعليلين: الكلامي والفقهي، فهي متأخرة عن علل المتكلمين، متقدمة علل المتفقهين.
9
وما نقف هنا لنرى رأيا في فقهية هذه الأصول النحوية، أو كلامية العلل النحوية، فربما اطمأننا إلى غير ذلك كله حينما نعرض للبحث النظري فيه تحقيقا للمنهج النحوي وما حوله، وإنما مهمتنا هنا - كما قدمنا - عملية، نلزم النحاة فيها بقولهم، وأول هذا أن نسجل عليهم ما التزموه وقرروه، من حمل أصول اللغة على أصول الشريعة حملا، وأخذها منها أخذا، بل نقدر مع ذلك أنهم تحروا تأليف كتبهم في النحو على غرار ما ألف الفقهاء في فقههم،
10
فننظر أولا مكان: (3) اللغة والشريعة في الحياة
من حيث اتصال كل واحدة منهما بهذه الحياة، ثم من حيث تأثر كل واحدة منهما بها.
فكل من الشريعة واللغة مظهر قديم من مظاهر حياة الجماعات البشرية، ثم اللغة من أقدم هذه المظاهر - إن لم تكن أقدمها - في تقدير أصحاب الاجتماع، وهما متصلتان بالحياة العامة اتصالا وثيقا، بل عنيفا، وربما كانت اللغة في هذا المعنى أشد وثاقة وأقوى ارتباطا؛ لأن بعض التشريع قد يغني عنه القانون الخلقي، ولا غنى لجماعة متقدمة - إلى الآن - عن اللغة، والشريعة تنظم ناحية من نواحي معايش الناس، على حين تتصل اللغة بكل النواحي.
وأما من حيث تأثر الشريعة واللغة بالحياة وواقعها، فإنا نعرف أن الشريعة تعتبر العرف، وهو تركز اجتماعي بطيء التكوين بطيء التغيير، فهي إن لاءمت الزمان والمكان وجعلت أحكامها تناسبهما، إلا أنها في ذلك بطيئة الخطى بطيئة التغيير نوعا ما، ولعله بهذا انخدع الفقهاء حين أقفلوا باب الاجتهاد، وتصوروا أن يجعلوا إقفاله أبديا.
أما اللغة فهي - على ما سمعتم من قول الاجتماعيين عنها - أشد المظاهر الحيوية لينا وأقلها تصلبا وتحجرا، وأطوعها للتطور. وقدماؤنا أنفسهم يدركون هذا واضحا حين يتحدثون عن تهذيب اللغة وعوامله، وحين يقررون أن الاستعمال يحيي ويميت، ويقبح ويحسن، وحين يصفون تداخل اللغات وتحول اللسان، وما إلى ذلك من دلائل الشعور بتأثر اللغة بالحياة تأثرا قويا.
وإذا ما كانت تلك هي صلة كل من الشريعة واللغة بالحياة، وحظ اللغة منها أقوى، ثم إذا ما كان هذا مدى تأثر كل من الشريعة واللغة بالحياة، ونصيب اللغة منه أوفر وأظهر، فإن من حقنا حين نحاول شيئا من تطويع اللغة للحياة أن ننظر أولا في: (4) صنيع أصحاب الفقه اليوم
صفحة غير معروفة