وإنما بدأت بالإشارة إلى الفقه لأدل بذلك على خطة من الخطط في بحث مسألة النحو؛ إذ إن للبحث فيه أكثر من خطة؛ فقد يأخذ متناوله بالحرية المسرفة فيقول لكم: إن اللغة - في نظر الاجتماع - أشد التقاليد الاجتماعية لينا، وأقلها صلابة وتحجرا، وأطوعها للتطور، وأكثرها تأثرا بالعوامل المختلفة، وانقيادا لسائر ظواهر الاجتماع وأنظمة المجتمع؛ ومن هنا تعددت اللغات بتعدد الجماعات، ثم تفرعت اللهجات باختلاف البيئات، في وطن الجماعة الواحدة الجنس والإقليم؛ ومن هنا أصابت اللغات الحية ألوانا من التطور حفظت بها حيويتها واستجابت لطلبات الجماعة منها، فكذلك ينبغي أن نتناول لغتنا بإصلاح حر طليق، إذا ما أردنا لها أن تكون في حياتنا، كما يجب أن تكون اللغات في حياة الأمم.
ولا تحسبوا أن هذا الذي أصفه هو احتمال فرضي، أو رأي نظري، فقد كان قولا يقال وينشر في الجيل الماضي، مع أنه حديث عهد بتجدد، فكان من رجاله من أشار بالتخلص من هذا النحو وإعرابه بالوقف مثلا، كما كان من رجاله - وإن لم أثبت اسمه - من قال ما معناه: «إن كانت هذه اللغة التي تريدون أن نعيش بها، ميراثا آل إلينا، فلنا فيه ما للمالك في ملكه من تصرف، فدعونا نتصرف فيها بما يصلحها، وإن كانت عارية لا غير، فخذوها ودعونا نبحث عن لغة غيرها، نستطيع التصرف فيها بما يدفع حاجة الحياة.»
وسواء أكان هذا قولا لشخصي بعينه «هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا»، فيما نقل إلي، أم كان صرخة كل فرد مكظوم حين يعاني هذه الصعوبات، فإن واقع الحياة لا يغفل تقديره.
ولكنا - رغم هذا كله - لن نأخذ هنا بشيء من تلك الحرية التي تبدو مسرفة، بل ندع الآن هذه الخطة التي لا تتمسك إلا بحقها في التصرف، دون أن تقيم هذا التصرف على أساس تعينه، ندعها هنا لنأخذ بخطة مسرفة في عكس ما أسرفت فيه الأولى من حرية، مسرفة في الرجوع إلى القديم، والتعمق في البحث عنه، فهي خطة معتدلة محافظة، تقيم نظرها في مسألة النحو، على ما يتكشف لها من تقدير لأصوله البعيدة التي أقام النحاة عليها بناء قواعده، وللنحو أصول كأصول الفقه وأصول القانون، صنعها أصحاب النحو على وجه يبين في تاريخه، والفحص لمناهج درسه، وما دام للنحو أصول فإن الرجوع إليها أمر لا بد منه في فهم كيانه فهما يعين على التحدث فيه عن بصيرة، ويدل على تقدير أصحاب هذه القواعد لها، ومدى ما يجيزونه من التصرف فيها بنفي أو إثبات.
والناظر في هذه الأصول يرى النحاة منذ أول الدهر، قد ربطوا أصولهم بأصول الفقه، بل حملوها عليها؛ فهذا ابن الأنباري - المتوفى سنة 577ه - حين يعد علوم الأدب، يذكر أنه ألحق بها علم أصول النحو، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه، من قياس العلة، وقياس الشبه، وقياس الطرد، إلى غير ذلك على عد أصول الفقه، فإن بينها من المناسبة ما لا يخفى؛ لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول، ويعلم هذا حقيقة أرباب المعرفة بهما.
1
ثم هذا الجلال السيوطي بعده - في القرن العاشر الهجري - إذ يزعم أن صنيعه في كتابه «الاقتراح في أصول النحو» صنيع مخترع، وتأصيله وتبويبه وضع
2
مبتدع، لا يلبث أن يقول هو بنفسه عن هذا الاختراع أنه رتبه على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم ...
3
صفحة غير معروفة