لكن هذه الاعتراضات الشكلية، لا ينبغي أن تحجب عنا جانب الصدق فيما زعمه «هيوز»، فأديب الخيال إذا أخلص لفنه، انصرف إلى الجانب الذي اختاره من حياة الناس الفعلية؛ ليصوره سلوكا يتفاعل بعضه مع بعض، كأنه يشاهد مسرحا من بعيد، فلا يقحم نفسه بأحكام يصدرها من عنده؛ ليقذف بها داخل النسيج الحي، الذي تصدى لتشريح لحمته وسداه، أريد أن أقول إن الأمر في الأدب المعتمد على تكوينات الخيال، يختلف عما يشيع على ألسنة الناس، حين يقولون إن «الأديب يعبر عن نفسه.» فيما يكتب، وحقيقة الأمر هي أن الأديب الحق أقرب إلى «التنصل» من نفسه، منه إلى «التعبير» عن تلك «النفس»، إنه يتنصل من نفسه ليخرجها من تفاعلات الموقف، الذي تصدى لتشريحه وتصويره، حتى لا تتدخل أهواؤها في تركيب تلك التفاعلات، فتنسكب في مجراها الطبيعي، ولو كان مدار الأدب هو «نفس» كاتبه؛ لما كان للأدب عند الناس من وزن، إلا الوزن الذي يمكن أن تزنه نفس واحدة، وإنه لوزن ضئيل مهما بلغت تلك النفس الواحدة من عظمة ورجحان.
شوامخ الأدباء
وها هو ذا تاريخ الأدباء في أي لغة نختارها، نستعرض شوامخ الأدباء فلا نجد - باستثناء الشعر الوجداني الفردي - إلا رجالا أقاموا بناءاتهم الأدبية، حاجبين «أنفسهم» بين أقواس تحصرها حتى لا تقتحم، ما لا يجوز لها أن تتدخل فيه لتغير من طبيعته، هل عبر «الجاحظ» عن «نفسه» وهو يرسم البخلاء بخيلا بخيلا، رسما أقامه على أفعالهم هم وأقوالهم؟ هل عبر «دانتي» عن «نفسه» وهو يصور أهل الجحيم والأعراف والفردوس؟ هل عبر شكسبير عن «نفسه» وهو يقدم هذا الحشد الهائل من صنوف البشر؟ إن هؤلاء جميعا لم يفعلوا شيئا سوى أن فتحوا أمام أبصارنا وأسماعنا نوافذ؛ لنرى خلالها «الإنسان»، لنرى «الناس» يتعاملون ويتفاعلون ويتبادلون عوامل الدفع والحركة، ولنا نحن بعد ذلك أن نصدر ما استطاعت عقولنا أن تصدره من أحكام، بناء على ما رأيناه وما سمعناه، وكثيرا ما يحدث - بل لا بد أن يحدث - للقارئ البصير - إذ هو يرى ما يراه ويسمع ما يسمعه عند قراءته لقطعة أدبية - أن يستخلص مشكلات تثيرها الأحداث التي عرضتها عليه القصة أو المسرحية أو قصيدة الشعر. إن الكاتب الأديب لم يقل له صراحة: هذه هي المشكلة، وذلك هو علاجها. بل اقتصر الكاتب على عرض الناس إذ هم يتفاعلون في حياة، والأمر متروك لنا - نحن القراء - أن ندرك لأنفسنا بأنه إذا كانت هذه هي الطريقة التي يحيا بها الناس، فهنالك إذن مشكلات حادة تتطلب العلاج: مشكلات في بناء الأسرة ووضع المرأة فيها، أو مشكلات في ظروف العمل والعاملين، أو مشكلات في تنظيم العلاقة بين الحكومة والناس، أو غير ذلك من مشكلات الحياة كما رأيناها مصورة، وعندئذ قد ينهض كاتب من أصحاب الفكر النظري - في صورة التأمل الفلسفي أو في صورة البحث العلمي - ليضطلع بعمليات التحليل التي قد تكشف عن وسائل الخروج من تلك المشكلات التي أطلعنا عليها الأدب، عند تصويره للحياة كما هي واقعة، متوسلا إلى تصويره ذاك بوسائل يعرفها الأدباء.
أسئلة عن حياتنا
والذي أنا زاعمه هنا، هو أن حياتنا الثقافية الحديثة قد شهدت أدبا أثار فينا أسئلة عن حياتنا الواقعة، أكثر جدا مما شهدت فكرا يحاول الإجابة عنها، وأريد قبل أن أعرض لزعمي هذا، أن أذكر مثلا مما أتصور حدوثه، لو أن كيان حياتنا الثقافية قد استقام واكتمل، فرجال الأدب في أوروبا وأمريكا بصفة عامة وخلال نصف القرن الذي يبدأ من العشرينيات وحتى لحظتنا الراهنة، يطالعون الناس بصور عن حياتهم، من شأنها أن تثير فيهم الريبة عن حضارة العلم التي يحيون تحت جناحها، وأن تحرك فيهم الفزع مما هم مقبلون عليه، لو أن أوضاعهم الحاضرة لبثت قائمة، واطردت في سيرها على النحو الذي تسير به، وأقرب الأمثلة لذلك هو الشاعر إليوت «وهو شاعر محظوظ عند قراءة العربية؛ لكثرة ما كتب عنه الناقدون هنا.» فيكفي أن نذكر له «الأرض اليباب» وحدها؛ لنرى نظرة الأدب في الغرب إلى حضارة هذا العصر، فما تلك الأرض اليباب إلا ظروف الحياة المعاصرة، كما تصورها الشاعر فصورها، ويمكن أن نضيف إلى إليوت كثيرين غيره، يختلفون في طريقة القول، لكنهم يتفقون فيما يريدون أن يقولوه، وهو أن الحياة في عصر الصناعة والعلم، قد تؤدي بنا إلى ركام من حطام، وإلى حالة من اليأس والضياع.
كان ذلك ما أظهره الأدب في الغرب؛ فلم تكن مصادفة أن ينهض كاتبون، ليحللوا هذه الحضارة المتهمة إلى خيوطها وعناصرها، لعلهم يرون مواضع الداء أين تكون؟ إن «فلسفة التاريخ» وحدها - ودع عنك سائر فروع التفكير - قد شهدت عددا من الأعلام الذين تصدروا للبحث على نطاق واسع؛ فشهدت شبنجلر، وتوينبي، وسوروكين، وغيرهم، كل يحلل ويعلل؛ متى وكيف تنهار حضارة أو تنشأ حضارة، محاولين بذلك أن يهيئوا للناس ضوءا يهديهم إلى سبيل النجاة، مما أوحى لهم الأدباء بأنه وشيك الوقوع. شيء كهذا التجاوب والتكامل بين جانبي الحياة الثقافية - جانب الأدب وجانب الفكر - هو ما يدور بذهني عندما أتصور حياتنا نحن الثقافية الحديثة، فلا أجد فيها توازنا بين الكفتين، فبينما الأدب عندنا قد اضطلع بكثير جدا مما يراد للأدب أن يؤديه، نرى الفكر في حالة من القصور تشبه العجز، لا يقدم لنا إلا قليلا مما يعيننا على مواجهة المشكلات التي أثارها الأدب، ولا تعجب إذا وجدت النقد عندنا، كلما عرض عليك خمسين قصة أو مسرحية أو ديوانا من الشعر، لم يجد ما يعرضه من نتاج الفكر إلا كتابا أو كتابين، فإذا أضفت إلى هذه النسبة الضئيلة، عاملا آخر يزيدها ضآلة، وهو أن النقاد يحجمون عن التعرض لنتاج الفكر، ويستسهلون أن يشغلوا أنفسهم بالنتاج الأدبي وحده، أقول إنك إذا أضفت هذا العامل، رأيت لماذا تخلو - أو تكاد تخلو - حياتنا الثقافية من محاولات على مستوى الفكر النظري لحل مشكلاتنا، حلا يتكافأ مع الأسئلة التي استثارها الأدب في نفوسنا.
ولأضرب لك مثلا أو مثلين: هنالك سؤال عن موقفنا من حضارة العصر كيف يكون؟ ففي الأدب عندنا صور لأشخاص ظفروا بنصيب من علوم العصر، كالطب أو الهندسة، لكنهم حين أرادوا أن يحيوا كما يحيا أهل العصر، تنكر لهم مواطنوهم؛ تلك إذن مشكلة قوامها صراع بين مجموعتين من القيم، عرضها علينا الأدب في تصويره لحياتنا، فكم نالت هذه المشكلة من البحث الفلسفي الذي يضيء لنا الطريق؟ هنالك بالطبع إجابات سهلة وساذجة، يقذف بها رجال من حولنا هنا وهناك؛ إذ يحيلوننا على العودة إلى ما كان عليه الأسلاف، وكان الله يحب المحسنين، كأنه لا صراع بين الضلوع ولا اصطراع!
تفاوت بين الناس
خذ مثلا آخر تراه شائعا في كل قصة وفي كل مسرحية، مما يقدمه لنا الأدب تصويرا لحياتنا: التفاوت بين الناس بالفعل، مهما قال القائلون في ذلك، وخطب الخطباء بأن الناس سواسية، وبأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل، فالتفاوت قائم بالفعل، حتى لتجد المبشر نفسه الذي يبشر بهذه المساواة المطلوبة بالكتابة أو بالخطابة؛ تجده وهو في عملية التبشير نفسها، يفكر كيف يخرج لنفسه من هذا كله بما يميزه عن سواه، كيف يرسل أبناءه إلى المدارس الخاصة، حتى لا يخالطوا من لا يود لهم أن يخالطوهم، كيف يبني لنفسه مسكنا يمتاز به عن مساكن الناس، وكيف يحصل لنفسه ولأسرته على الثياب، التي لا يحصل على مثلها إلا المقربون؛ وإذن فلم يكن ذلك الكاتب أو الخطيب مؤمنا بالمساواة التي قام ليبشر بها، وهكذا نحس عند قراءتنا للأدب بضروب، لا تنتهي من ألوان النزاع بين رجل يتوهم أنه الأعلى، ورجل آخر يكافح حتى لا يظن الناس بأنه الأدنى، فكم وجدت مشكلة المساواة بين المواطنين التي تراود أحلامنا، وصراعها مع التفاوت الذي يكتنف حياتنا الواقعة؛ كم وجدت هذه المشكلة من عناية الكاتبين، الذين يخلصون للفكر ولا يراءون باللفظ، الذي يقف عند الشفاه؟ خصوصا إذا تذكرنا أن في تراثنا الشائع بيننا، أقوالا متضاربة بين قبول هذا التفاوت ورفضه؛ مما يستوجب النظر الجاد؛ لعلنا نجد الصيغة المناسبة.
أسئلة كثيرة تنبثق من واقع حياتنا، كما يصورها لنا الأدب، ما زالت في حياتنا الثقافية معلقة - أو هي كالمعلقة - لم تجد لها فكرا يجيب.
صفحة غير معروفة