196

حضارات الهند

تصانيف

والبدهية أتت العالم الآسيوي الهرم بروح المحبة وبما لم يعرفه هذا العالم من الأدب العالي، وقول العالم الفاضل المتدين مكس موللر جاء مصدقا لما قاله المبشرون فورد فيه: «دعا إلى الأخلاق الفاضلة، قبل ظهور المسيح، أناس اعتقدوا أن الآلهة أشباح باطلة فلم يقيموا هيكلا حتى للرب غير المعروف.»

وتؤيد الجملة الأخيرة من هذا القول آراء الأوربيين الخاطئة في البدهية، وسأثبت عما قليل أنك لا تجد ديانة، كالبدهية، ذات أرباب متعددين مستندا في ذلك إلى المباني، ومن الصحيح إشارة تلك العبارة إلى سمو الأدب البدهي، فلا تجد، بالحقيقة، ديانة، أنقى من البدهية أدبا ولا أعذب منها قولا ولا أكثر منها رحما، فبدهة بحث عن الوسائل التي ينقذ بها الناس من مصيرهم القاسي فلبى الناس دعوته، وهو ابن الملك الذي غدا سائلا ليشاطر الجماهير بؤسها ويعلمها المحبة، فكان من أعظم من عرفتهم الدنيا أخذا بمجامع القلوب، وهو الذي اعتنق الناس دينه الحامل لاسمه حيث غرس، وهو الذي اكتسب دينه الناس بما تحلى به دعاته من الحلم والمحبة وإنكار الذات، وهو الذي ألان دينه الطبائع في آسيا وحول البرابرة السفاكين إلى رجال هادئين، ومن هؤلاء نذكر أجلاف المغول الذين أقاموا أهراما من رءوس البشر فأصبحوا بتأثيره قوما مهذبين مثقفين.

وغاية القول أن البدهية تشتمل على أرقى المعارف الدينية التي عرفها العالم لو لم تحن الكواهل للاستعباد أكثر من أي دين.

ومما تقدم ترى أن البدهية تختلف عن البرهمية بسمو الأدب وروح التسامح والمحبة أولا، وبالمكان الواسع الذي جعلته للإنسان في الكون فلم تعطه ديانة أخرى مثله ثانيا، فالطبيعة إذ إنها تتغير بلا انقطاع وتبدع صورا سائرة إلى الكمال مؤدية بالتدريج إلى ظهور الإنسان الذي يستطيع أن يصبح بفضله وعزمه أكثر من إله، أي أن يصبح بدهة الكائن الكامل الذي هو الأصل والغاية، والجمع والصفر، والعظم والعدم، ومعنى الكون، فإنها، كالكون، سلسلة أحوال زائلة وشعور واهم ، والكائن ذلك، إذ إنه عظيم مبهم، فإن من عدم الصواب أن يحدده من ليس عنده إقدام لاهوتيي الهندوس وهيامهم باختراع الصور الجسيمة والأعداد الضخمة.

ولم يبصر أتباع بدهة، الذين يعدون بالملايين بتعاقب القرون فكانت أكثريتهم الساحقة من الدهماء والجهلاء والصغراء والوضعاء، تلك التأملات الهائلة التي تقلب دماغ الأوربي، فكان هؤلاء يدخلون معابده مفتخرين بالسجود مع البراهمة المتكبرين أمام صورته المقدسة وعبادة ذخائره والاحتفال بأعياده الرائعة تكريما لإنائه الخاص بالصدقات، وكانوا لا يعرفون عنه سوى المحبة العذبة ذاكرين، ناعمي البال، أن أحد أصحابه

9

سأل أحقر امرأة أن تسقيه فقالت، وهي تعلم أن ابن الطائفة يفضل الموت على تناول قطرة ماء من يدها: «مولاي! إنني جندالية.»

فأجابها برفق: «لا أسأل عن أنك جندالية أو غير جندالية، وإنما أقول إنني ظمآن، فأطلب منك أن تسقيني.»

ذلك أمر بسيط في الظاهر، ولكنه معجزة المحبة عند الهندوسي وآية بعث لدى جموع من الخلائق البشرية.

تلك هي البدهية، وليس بضائرها أن تغرق فلسفتها بعد زمن في بحر من المجردات القريبة من الهوس وأن تغرق عباداتها في طقوس البرهمية ورموزها ما كانت ديانة محسنة مصلحة قوية مؤثرة تأثيرا لا يعدله شيء في تاريخ الإنسان. (4) البدهية كما جاءت في المباني

صفحة غير معروفة