حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
تصانيف
98
وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية، وهي كثيرة العمائر والضياع، وأرضها طيبة المنابت، وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة، ولها أنهار غزيرة عليها أرحاء جمة.
99
ولما نزلت هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين، وقصدت معه إلى أحد الفنادق، فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مطل على المدينة، وكان لأحد مغاربة أفريقية، فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي، واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته، وطيب أنسه، مجاشم السفر، وذل الاغتراب. وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف، وكان قد نهد - حفظه الله - من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي، فكمل أنسي به، وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان، ولا يروم اطلاع فجه لسان، ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أنه ينتوي الذهوب إلى الأندلس، وهي منتواي ومقصدي.
ولما رأيت أبا عبد الله - وكنت لم أره قبل ذلك، بيد أني سمعت بفضله الجم، وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته، والأذن تعشق قبل العين أحيانا - رأيت منه رجلا تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلفي لديه مفصل السداد في علوم الحكمة والدين:
من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره، وواحد قطره، وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله، وقد حذق اللسان الإغريقي، وأحكم معرفته، حتى كأنه من أهله، وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفلك، وبكر عطارد.
صفحة غير معروفة