حضارة العرب في الأندلس: رسائل تاريخية في قالب خيالي بديع
تصانيف
25
يتغطى عن الأندلسيين عند المباحثة والمناظرة ويقول لهم: «إن علمي علم رواية وليس علم دراية، فخذوا عني ما نقلت؛ فلم آل لكم أن صححت.»
26
ثم فرط منه قول ذهب فيه إلى تفضيل شعراء المشرق على شعراء المغرب، فانتدب له أحد الأدباء ممن كانوا في هذا الركب، وقال: «إن أهل الأندلس أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكئوس، لا ينازعهم أحد في هذا الشان. أما إذا ذهب نسم، ودار كأس في كف ظبي رخيم، ورجع بم وزير.
27
وصفق للماء خرير، أورقت العشية، وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهبية، أو تبسم عن شعاع ثغر نهر، أو ترقرق بطل جفن زهر، أو خفق بارق، أو وصل طيف طارق، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح، وبات مع من يهواه كالماء والراح، إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها، أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها، فأولئك هم السابقون السابقون، الذين لا يجارون ولا يلحقون، وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح، وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح، وبنت الحرب من العجاج سماء، وأطلعت شبه النجوم أسنة، وأجرت شبه الشفق دماء. وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة.» فقال أبو علي:
28
نعم، وفي الحق ما تقول؛ بيد أن شعراء المشرق، فضلا أن شعرهم أصفى ديباجة، وأكثر ماء وطلاوة، وأسد مسلكا، وأوضح منهجا، وأشكل في مبناه بالشعر القديم حتى لا يكاد يشذ عنه قيد شعرة، وفضلا أنه في الأعم الأغلب رصين متماسك جزل قوي غير مهلهل النسج؛ تراهم مع ذلك ذهبوا به كل مذهب من القول، وأفتنوا في مناحيه أيما افتنان، وغاصوا على المعاني غوصا حتى بلغوا في ذلك المبالغ، ووصلوا إلى الغاية التي لا وراءها.
وإني لا أظن أن لعلي بن العباس الرومي أو بشار بن برد أو أبي نواس أشباها ونظائر في هذه البلاد، على أني مع ذلك لست أنكر على الأندلسيين ذكاءهم وتوقدهم، وأنهم - كما رأيت وكما وصفوا لي - «عرب في العزة والأنفة، وعلو الهمة، وفصاحة الألسن، وإباء الضيم، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع والاستخذاء، هنديون في فرط عنايتهم بالعلوم ورغبتهم فيها وضبطهم لها، بغداديون في نظافتهم وظرفهم، ورقة أخلاقهم، وذكائهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وتدبيرهم لتركيب الشجر، وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر، وصنوف الزهر، صينيون في إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن الصورية، تركيون في معاناة الحروب، والحذق بالفروسية، والبصر بالطعن والضرب.»
كبرت حول ديارهم لما بدت
صفحة غير معروفة