ولما ظهر الهاشميون حدث خط يسمى العراقي، وهو المحقق، ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المأمون، فأخذ كتابه في تجويد خطوطهم، ثم أحدث ذو الرياستين الفضل بن سهل الوزير الكاتب خطا نسب إليه، فسمي القلم الرياسي، ثم ظهر أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم التميمي، معلم المقتدر وأولاده وكان أكتب أهل زمانه، فألف رسالة في الخط سماها «تحفة الرامق»، ثم ظهر أبو على محمد بن على بن مقلة، الوزير الكاتب المتوفى سنة 328، وهو أول من كتب الخط البديع، نقل طريقته من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضل المتقدم، وخطه غاية في الحسن، ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المتوفى سنة 413ه، ولم يوجد في المتقدمين من كتب مثله ولا قاربه، وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة عن الكوفيين، فإن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة، ثم ظهر أبو المجد ياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى 698، وهو أجل الخطاطين غير مدافع، وأحسنهم خطا غير معارض، وبعدئذ اشتهرت الأقلام الستة بين المتأخرين وهي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع، برز في هذه الأقلام جلة من العلماء، ثم ظهر القلم الديواني والدشتي، وبقي الأمر تابعا لرونق الدولة وانخفاض شأنها، حتى آلت الخلافة للأتراك؛ فأحدثوا الخط الرقعة والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرياسة في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا.
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
كانت الكتابة في بداية الإسلام ساذجة بسيطة، فلم يكن القوم يعنون بالنقط والإعجام تمييزا للحروف المتشابهة خطا؛ لأن أهل الصدر الأول أخذوا القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين، ثم لما كثر أهل الإسلام وتوغلوا في الحضارة، واشتدت الحاجة إلى الكتابة، اضطروا إلى النقط والإعجام، غير أن الظاهر - على ما قيل - أنهما موضوعان مع الحروف؛ إذ يبعد أن الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المصحف، وقد روي أن الصحابة جردوا المصحف من كل شيء حتى النقط، ولقد لبث الناس يقرءون في مصحف عثمان - رضي الله تعالى عنه - أربعين سنة ونيفا إلى أيام عبد الملك بن مروان حتى كثر التصحيف وانتشر في العراق؛ ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فوضعوا النقط أزواجا وأفرادا بعضها فوق الحرف وبعضها تحته، فغبر الناس زمانا لا يكتبون إلا بالنقط، ولكنهم مع ذلك كانوا يصحفون في كتبهم، فتلافى العلماء هذا التصحيف بوضع الإعجام (الحركات).
كان النقط في الأول بوضع نقطة فوق الحرف دليلا على الفتح، وإلى جانبه دليلا على الضم، وتحته دليلا على الكسر، وبوضع نقطتين دليلا على التنوين مع الحركة، وذلك في خلافة معاوية، ثم صار الناس يصحفون في الحروف المتشابهة، فرجعوا إلى تمييز بعضها من بعض بالنقط، واختاروا للفتحة ألفا صغيرة (ا)، ثم جعلوها مستقيمة (-)، ومثلها للكسرة من تحت، والضمة شبه واو صغيرة، وكذلك في الفتحتين والكسرتين والضمتين، وذلك في أيام الحجاج، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض فأتم بقية علامات الإعجام؛ أي الشكل أو الحركات، والظاهر من أصل كلمة إعجام أن هذه الحركات وضعت لهداية العجم إلى قراءة كلام العرب، وكان إذ ذاك النقط والإعجام واجبين في المصحف، أما في غيره فعند خوف اللبس؛ لأنهما ما وضعا إلا لإزالته، أما مع آمن اللبس فتركه أولى على ما ذهب إليه المتقدمون، وإن كنت أخالفهم في ذلك. لهذا السبب يرون النقط لذوي الفهم والإدراك معيبا مذموما في ذلك الزمان، ولكن الأحوال في زماننا تقضي بخلاف ذلك، ولكل زمن لوازم وحاج.
ولقد كان الكاتبون في الصدر الأول يغلطون في اليسير دون الكثير، ويصحفون في الدقيق دون الجليل لكثرة العلماء وعناية المتعلمين، فلما اضمحل الأمر، صار ما يصحفون فيه أكثر مما يصححون، وما يسقطون أكثر مما يضبطون. وإذا تدبر الإنسان وجد أن التصحيف من أكبر الآفات في اللغة العربية، فيكفي أن رجلا له مكانة يقرأ الكلمة على وجه آخر ليصبح هذا الوجه رواية ثانية أو قولا ثانيا، وهكذا وبهذه المثابة صارت الاختلافات اللغوية كثيرة في الكلمة الواحدة، فصارت كلمات ضم بعضها إلى بعض فأفعمت متن اللغة والأشعار والأحاديث ونحو ذلك، فكانوا في بعض الأحيان يتكلفون الكتابة بوضع النقط والإعجام، فكان ذلك يصعب عليهم؛ ولذلك كانوا إذا أغفلوا استقصاء هذه الشروط في الكلمة، تطرق إليها التصحيف بسهولة، فكان ذلك مدعاة للأخذ عن أفواه الرجال والحفظ في أعماق الصدور.
ولقد كان القرآن محفوظا في صدور الرجال وفي الرقاع
1
واللخاف
2
والعسب
صفحة غير معروفة