أما الكتابة من حيث الاصطلاح: فهي على تعريف علماء الإسلام صناعة روحانية، تظهر بآلة جثمانية، والمراد من الروحانية: الألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه، ويصور من ضم بعضها إلى بعض صورة باطنة قائمة في نفسه، والمراد من الجثمانية: الخط الذي يخطه القلم، فذلك التعريف يشمل جميع ما يسطره القلم مما يتصوره الذهن ويتخيله الوهم، فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي.
وأما تعريفها عند الفرنج: فهي صناعة يعبر بها عن الأفكار بعلامات منظورة، وهي تشمل كل ما اصطلح عليه البشر للتعبير عن أفكارهم، سواء كان بالصور كما شاع قديما، ولا يزال باقيا بين كثيرين من البرابرة الآن، أو بالأرقام، أو بالحروف، أو بغيرها من العلامات المصطلح عليها بين طائفة من الناس.
ونحن إذا نظرنا في جميع أنواع الكتابة المعروفة، نجد أن العلامات المستعملة فيها تنقسم إلى قسمين ممتازين؛ أولهما: علاماته صورية، تمثل الأشياء المراد التعبير عنها، وتسمى بالكتابة الصورية أو التمثيلية، وثانيهما: علاماته رموز للألفاظ لا للأشياء، وتسمى بالكتابة الحرفية، والوجدان والواقع يشهدان بأن الكتابة كانت في أول الأمر صورية تمثيلية، ثم تدرجت من باب التسهيل والتيسير والتقريب حتى صارت حرفية.
وأقدم رموز للكتابة الصورية هو الخط البربائي أو الهيروغليفي، فقد كانت الصور في أول الأمر تشابه الأشياء التي تدل عليها مشابهة تامة، فصورة الرجل تدل على الرجل، وصورة الفرس تدل على الفرس، ونحو ذلك، ثم تنقلوا بالتدريج من الحقيقة إلى المجاز، فصارت صورة الرجل يضرب رأسه بالفأس تدل على الإنسان الشرير، باعتبار أن الانتحار أعظم الشرور وأكبر الآثام، ثم ارتقوا فاشتقوا منها حروف الهجاء المعروفة الآن، وقد لا يكون بين الكتابة وبين المدلول عليه بها أدنى مشابهة صورية، ولكن بينهما علاقة ملازمة تامة، مثال ذلك أن المصريين الأقدمين يعبرون عن مصر العليا بصورة نبات البردي لكثرته فيها على عهدهم، وعن مصر السفلى بنبات البشنين لكثرته فيها كذلك، وبضم هذا الاصطلاح إلى التسهيل والتقريب الذي توخاه الناس في الكتابة الصورية، التي من نوع الأول، توصلوا إلى استخراج حروف الهجاء المعروفة قديما وحديثا.
وذلك أن الكتابة البربائية أو المقدسة اختصرها الكهنة، فجعلوا منها الكتابة الخاصة المسماة بالهيراطية؛ لأن الأولى كانت كثيرة التعقيد، وهي التي على الآثار والأحجار.
فأما الثانية فاختصرها الكهنة المصريون منها، وصاروا يكتبون بها على دروج البردي، وذلك أول تسهيل في شئون الكتابة؛ حتى إذا اتسع نطاق المعارف وأخذ الناس منها قسطا وافرا، اختصروا من الكتابة الثانية نوعا جديدا في غاية السهولة، وسموه بخط العامة
Domotique ، ومن هذا الخط أخذت الأمم كلها حروف الهجاء، وعن يد الفينيقيين كما سيأتي بيانه.
وهذا القسم الأول هو الذي ظهر واصطلح عليه الناس في الأيام الأولى من عصور التاريخ الخالية.
أما القسم الثاني، وهو الكتابة الحرفية، فقد تكون العلامة المصطلح عليها دالة على لفظه بتمامها، كما في الخط المكسيكي الذي كان مستعملا في أمريكا عند افتتاحها، وكما في الخط الصيني في آسيا، وهو لا يزال مستعملا إلى الآن؛ ولذلك لا يتيسر للإنسان أن يتعلم حروف الهجاء الصينية إلا بعد أن يبلغ الأربعين من عمره وأكثر، وحينئذ يكون قد بلغ من العلم درجة عالية. وقد تكون العلامة لمقطع واحد مركب من حرفين فأكثر كما في الخط الحبشي، وإما أن تكون موضوعة للمفردات التي يتألف منها المقطع الواحد، كالحروف الهجائية التي هي الثمرة البالغة اليانعة لكل ما سبقها من الممهدات في إبراز الأفكار في صورة تقرؤها الألوف وألوف الألوف من الناس على نمط واحد، كما هي الحال في الحروف العربية والحروف المستعملة عند بقية الشعوب الممدنة.
والذي ثبت أن الكتابة إنما استنبطها أجدادنا المصريون ، ثم أخذها عنهم أبناء عمنا الفينيقيون، فنشروها في سائر أقطار المسكونة، وكان اليونان أول من أخذها عنهم، وساعدتهم حضارتهم على تعميمها في سائر أنحاء المعمور.
صفحة غير معروفة