بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا بواضح الدليل إلى سبيل معادن العلم والتأويل، وسقانا بكأس رحيق السلسبيل من زلال عيون الوحي والتنزيل، وعرج بنا إلى معارج الهداية والدراية. وفتح لنا مغلقات الأحكام بمحكمات الآية والرواية، وشرح لنا مبهمات الحلال والحرام بلامعات الولاية الدامغة لدلهمات الغواية. والصلاة على مؤسس قواعد الدين بالقواعد الباهرة والبراهين. وآله الرافعين لأعلام ما أسس والمشيدين، صلاة توجب لنا الفوز بجوارهم في أعلى عليين.
(أما بعد) فيقول الفقير إلى ربه الكريم، والمتعطش إلى فيض جوده العميم يوسف بن أحمد بن إبراهيم أصلح الله تعالى له أمر داريه، ورزقه حلاوة نشأتيه، وثبته بالأمر الثابت لديه. ووفقه لتدارك ذنوبه قبل أن يخرج الأمر من يديه، وألحقه بأئمته مع جملة ولده وإخوانه ووالديه: أني كثيرا ما تشوقت نفسي إلى تأليف كتاب جامع للأحكام الفقهية المذيلة بالأخبار النبوية والآثار المعصومية، مشتمل على أمهات المسائل وما يتبعها من الفروع المرتبطة بالدلائل. فيعوقني عن ذلك تلاطم أمواج الفتن والغارات، وتزاحم أفواج المحن والشتات. وتراكم حنادس عوائق الزمان، وتصادم
صفحة ٢
بوائق الحدثان، وانجذام يد الدين المنيف، وخمود صيت الشرع الشريف، في كل ناحية ومكان. وتشتت أهاليه في أقاصي البلدان، بل اضمحلال الفضلاء منهم والأعيان، حتى لقد أصبحت عرصات العلم دارسة الآثار، ومنازله مظلمة الأقطار، وعفت أطلاله ومعالمه، وخلت دياره ومراسمه.
خلت من أهاليها الكرام وأقفرت * فساحتها تبكي عليهم تلهفا وأوحش ربع الأنس بالإنس بعدهم * كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ولم تبق في ساحتها إلا قوم ببلدح عجفى. ولا من عرصاتها إلا دمنة لم تكلم من أم أوفى. وكنت ممن رمته أيدي الحوادث في الديار العجمية، وقذفته في تلك الأقطار منجنيق الرزية، على ما هي عليه من ترادف البلايا بلية إثر بلية، واضمحلال اسم الشرع فيها بالكلية، وتلبس الأغبياء بلباس الأفاضل. وتصدر الجهلاء لافتاء المسائل. فلم تزل تترامى بي أقطارها فأطوي هناك المراحل، وأقصد اليم فتقذفني الأمواج إلى الساحل يوما بحزوى ويوما بالعقيق * وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء حتى أنخت ركابي بدار العلم شيراز. ومن الله تعالى بالإكرام فيها والاعزاز، فبقيت فيها برهة من السنين مع جملة الأهل والبنين. في أرغد عيش وأصفاه، وأهنأ شراب وأوفاه، مشتغلا بمدارسة العلوم الدينية. وممارسة الأخبار المعصومية، فخطر بي ذلك الخاطر القديم. وناداني المنادي أن يا إبراهيم، فبقيت أقدم رجلا وأؤخر أخرى. وارى أن التقديم أحق وأحرى، فكم استنهضت مطي العزم على السير فلم تساعد. وبئس السير على ذلك العير الغير المساعد. إلا أني قد أبرزت ضمن تلك المدة جملة من الرسائل في قالب التحقيق. ونمقت شطرا من المسائل على نمط أنيق وطرز رشيق، حتى عصفت بتلك البلاد ريح عاصف حتت الورق، وفرقت من عقد نظامها ما اتسق. ولعبت بها أيدي الحوادث التي لا تنيم ولا تنام، وسقت أهلها من مرير علقهما كؤوس الحمام، قتلا وسلبا وأسرا وهتكا، كأنهم
صفحة ٣
ممن خلع ربقة الاسلام، واستبدل بها عبادة الأوثان والأصنام، وحيث من الله تعالى بمزيد كرمه بالسلامة من تلك الأخطار، والنجاة من أيدي أولئك الأشرار، ركبت الفرار إلى بعض النواحي، وأغمضت عن عذل العذال واللواحي، واتخذت العزلة عن أشباه الناس وطنا، والوحدة من الدنفاس سكنا، وفي ذلك سلامة الدنيا والدين، والفوز بسعادة الحق واليقين، وضربت صفحا عن الطموح إلى زهرة هذه الدار، وطويت كشحا دون النظر إلى ما أسدته الأقدار، من البأس حلل اليسار أو أطمار الاعسار. وثوقا بضامن الأرزاق والمعطي على قدر الاستحقاق، وعند ذلك هجس بفكري ما كنت أتمناه من ذلك الكتاب، وأن هذه الخلوة أعز من أن تصرف في غير هذا الباب، ورأيت انتهاز الفرصة فإنها تمر مر السحاب، ولم يثن عزمي قلة الطلاب، ولا إشراف شموس الفضل على الغياب، بل صار ذلك أقوى سبب لي على القدوم، لما استفاض عن سدنة الحي القيوم من الحث الأكيد ومزيد التأكيد في إحياء هذا الدين ونشر شريعة سيد المرسلين، وعسى الله سبحانه أن ينفع به بعض الإخوان المؤمنين، والخلان الطالبين للحق واليقين، وقد سميته ب (كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) وإليه سبحانه أرغب في التوفيق سيما للاتمام والعصمة من زلل أقدام الأقلام في ميادين الأحكام، إنه تعالى أكرم من رغب إليه وأكفى من توكل عليه.
وقد رأيت أن أبدأ أولا بتمهيد جملة من المقدمات التي يتوقف عليها الاستدلال، ويرجع إليها في تحقيق الأحوال، ليكون كتابنا هذا كافلا بتحقيق ما يحتاج إليه من أصول وفروع، مغنيا عن الافتقار إلى غيره والرجوع.
المقدمة الأولى غير خفي - على ذوي العقول من أهل الايمان وطالبي الحق من ذوي
صفحة ٤
الأذهان - ما بلي به هذا الدين من أولئك المردة المعاندين بعد موت سيد المرسلين، وغصب الخلافة من وصيه أمير المؤمنين، وتواثب أولئك الكفرة عليه، وقصدهم بأنواع الأذى والضرر إليه، وتزايد الأمر شدة بعد موته صلوات الله عليه، وما بلغ إليه حال الأئمة صلوات الله عليهم من الجلوس في زاوية التقية، والاغضاء على كل محنة وبلية. وحث الشيعة على استشعار شعار التقية، والتدين بما عليه تلك الفرقة الغوية، حتى كورت شمس الدين النيرة، وخسفت كواكبه المقمرة، فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل، لامتزاج أخباره بأخبار التقية، كما قد اعترف بذلك ثقة الاسلام وعلم الأعلام (محمد بن يعقوب الكليني نور الله تعالى مرقده) في جامعه الكافي، حتى أنه (قدس سره) تخطأ العمل بالترجيحات المروية عند تعارض الأخبار، والتجأ إلى مجرد الرد والتسليم للأئمة الأبرار. فصاروا صلوات الله عليهم - محافظة على أنفسهم وشيعتهم - يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم وأخبارهم وتحدى (2) سيرهم وآثارهم.
وحيث إن أصحابنا رضوان الله عليهم خصوا الحمل على التقية بوجود قائل من العامة، وهو خلاف ما أدى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالة على ذلك، لئلا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل، وينسبنا إلى الضلال والتضليل.
فمن ذلك ما رواه في الكافي (1) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت:
صفحة ٥
يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لكم. ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. قال:
ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه).
فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة، ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جواب واحد بما هم عليه، ولما تعجب زرارة من ذلك، لعلمه بفتواهم عليهم السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية، ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر، سخف مذهبهم في نظر العامة، وكذبوهم في نقلهم. ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين، وهانوا في نظرهم، بخلاف ما إذا اتفقت كلمتهم وتعاضدت مقالتهم، فإنهم يصدفونهم ويشتد بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة، وإلى ذلك يشير قوله عليه السلام:
(ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا... الخ).
ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح - على الظاهر - عن سالم أبي خديجة عن أبي عبد الله (ع) قال: (سأله انسان وأنا حاضر فقال: ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلي العصر، وبعضهم يصلي الظهر؟ فقال: أنا أمرتهم بهذا، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا فأخذ برقابهم) وهو أيضا صريح في المطلوب، إذ لا يخفى أنه لا تطرق للحمل هنا على موافقة العامة، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.
صفحة ٦
وما رواه الشيخ في كتاب العدة (1) مرسلا عن الصادق عليه السلام: أنه (سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت؟ فقال: أنا خالفت بينهم).
وما رواه في الإحتجاج (2) بسنده فيه عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قال:
(قلت له: إنه ليس شئ أشد علي من اختلاف أصحابنا. قال ذلك من قبلي).
وما رواه في كتاب معاني الأخبار (3) عن الخزاز عمن حدثه عن أبي الحسن (ع) قال: (اختلاف أصحابي لكم رحمة وقال (ع): إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد). وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال عليه السلام: (أنا فعلت ذلك بكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم).
وما رواه في الكافي (4) بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول. فدخلني من ذلك ما شاء الله، إلى أن قال: فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي. فسكنت نفسي وعملت أن ذلك منه تقية.
قال: ثم التفت إلي فقال: يا ابن أشيم إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود فقال: هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب. وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله
صفحة ٧
فقال: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. فما فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقد فوضه إلينا).
ولعلك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية - بعد العرض على الكتاب العزيز - أقوى المرجحات. فإن جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية (1) ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا رضوان الله عليهم، فظنوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب في أخبارنا، فوضعوا هذا الاصطلاح ليميزوا به صحيحها عن سقيمها وغثها من سمينها، وقوى الشبهة فيما ذهبوا إليه شيئان: (أحدهما) رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق والمشهور بالكذب من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم.
و (ثانيهما) ما ورد عنهم عليهم السلام من أن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه وأمثاله مما يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهم السلام، ولم يتفطنوا نور الله ضرائحهم إلى أن هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت بعد أن سهرت
صفحة ٨
العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان، كما لا يخفى على من تتبع السير والأخبار، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار، فإن المستفاد منها - على وجه لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب - أنه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم (عليهم السلام) إلى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمة، والمسارعة إلى اثبات ما يسمعونه خوفا من تطرق السهو والنسيان، وعرض ذلك عليهم، وقد صنفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلها من أجوبتهم (عليهم السلام) وأنهم ما كانوا يستحلون رواية ما لم يجزموا بصحته، وقد روي أنه عرض على الصادق (ع) كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه، وعلى العسكري (ع) كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فأثنى عليهما، وكانوا (عليهم السلام) يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين، ويأمرونهم بمجانبتهم، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنة النبوية وترك ما خالفهما.
فروى الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال (1) بإسناده عن محمد ابن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن: أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال:
يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الحديث (2)؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول:
" لا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دس في كتب (3) أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله " قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ووجدت أصحاب
صفحة ٩
أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم، وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (ع)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله، وقال: " إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع) لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنا إن تحدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث ولا نقول قال فلان وفلان فيتناقض كلامنا، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا. وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإن لكلامنا حقيقة وعليه نورا، فما لا حقيقة له ولا عليه نور فذلك قول الشيطان ".
أقول: فانظر - أيدك الله تعالى - إلى ما دل عليه هذا الحديث من توقف يونس في الأحاديث واحتياطه فيها. وهذا شأن غيره أيضا كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وأمرهم (عليهم السلام) بعرض ما يأتي من الأخبار من غير المؤتمن على الكتاب والسنة تحرزا من تلك الأحاديث المكذوبة، فهل يجوز في العقول السليمة والطباع المستقيمة إن مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من أئمتهم مثل هذا الكلام أن يستحلوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ولا يعتمدون على حقيقته. بل من المقطوع والمعلوم عادة من أمثالهم إنهم لا يذكرون ولا يروون في مصنفاتهم إلا ما اتضح لهم فيه الحال وإنه في الصدق والاشتهار كالشمس في رابعة النهار كما سمعت من حال يونس، وهذا كان دأبهم (عليهم السلام) في الهداية لشيعتهم. يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى أن يقع في الشريعة من تغيير وتبديل، لأنهم (صلوات الله عليهم) حفاظ الشريعة وحملتها وضباطها وحرستها. ولهم نواب فيها من ثقات أصحابهم وخواص رواتهم، يوحون إليهم أسرار الأحكام، ويوقفونهم على غوامض كل حلال وحرام ، كما قد روي ذلك بأسانيد عديدة، على أن المفهوم من جملة من تلك الأخبار أن تلك الأحاديث المكذوبة
صفحة ١٠
كلها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والأخبار بالغرائب.
فمن ذلك ما رواه في الكتاب المتقدم (1) عن يونس عن هشام بن الحكم: أنه سمع أبا عبد الله (ع) يقول: " كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدس فيها كتب الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي (عليه السلام)، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة. فكل ما كان في كتب أصحاب أبي (عليه السلام) من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم " وبإسناده عن حماد عن حريز قال - يعني أبا عبد الله (ع) -: إن أهل الكوفة لم يزل فيهم كذاب، أما المغيرة بن سعيد فإنه يكذب على أبي - يعني أبا جعفر (عليه السلام) - قال: حدثه أن نساء آل محمد (صلى الله عليه وآله) إذا حضن قضين الصلاة. وكذب والله ما كان من ذلك شئ ولا حدثه. وأما أبو الخطاب فكذب علي وقال: إني أمرته هو وأصحابه أن لا يصلي المغرب حيت يروا الكواكب... " الحديث.
على أن مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمة (صلوات الله عليهم) على من في أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من أن يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح ولا منار لائح، فلا يميزون لهم الغث من السمين، ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين.
ولا يوقفونهم على ما يقع في الشريعة من تغيير وتبديل. وما يحدثه الكذابون المفترون من البدع والتضليل، كلا ثم كلا، بل أوضحوا الدين المبين نهاية الإيضاح. وصفوه من شوب كل كدر، حتى أسفر كضوء الصباح. ألا ترى إلى ما ورد عنهم من حثهم شيعتهم على الكتابة لما يسمعونه منهم. وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم. كما
صفحة ١١
ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الاسلام في جامعه الكافي وغيره في غيره.
وإلى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع وأمرهم بمجانبتهم، وتعريفهم لهم بأعيانهم، كما عرفت فيما تلونا من الأخبار.
ومن ذلك أيضا ما خرج عن الأئمة المتأخرين (صلوات الله عليهم أجمعين) في لعن جماعة ممن كانوا كذلك، كفارس بن حاتم القزويني، والحسن بن محمد بن بابا، ومحمد بن نصير النميري، وأبي طاهر محمد بن علي بن بلال، وأحمد بن هلال، والحسين بن منصور الحلاج. وابن أبي العزاقر، وأبي دلف، وجمع كثير ممن يتسمى بالشيعة. ويظهر المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات والتناسخ ونحوها، وقد خرجت في لعنهم التوقيعات عنهم (عليهم السلام) في جميع الأماكن والبراءة منهم.
وقد ذكر الشيخ (قدس سره) في كتاب الغيبة جمعا من هؤلاء، وأورد الكشي أخبارا فيما أحدثوا. وما خرج فيهم من التوقيعات لذلك. من أحب الوقوف عليها فليرجع إليه. وقد شدد أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الأمر في ذلك، حتى ربما تجاوزوا المقام. حتى أنهم كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك، كما وقع لأحمد بن محمد ابن عيسى مع أحمد بن محمد بن خالد البرقي من اخراجه من برقة قم لما طعن عليه القميون.
ثم أعاده إليها لما ظهر له براءته. ومشى في جنازته حافيا إظهارا لنزاهته مما رمي به، وكما أخرج سهيل بن زياد الآدمي. وأظهر البراءة منه ومنع الناس من السماع عنه. وكما استثنى محمد بن الحسن بن الوليد جملة من الرواة. منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري وغيرهم. وقد عدوا جماعة من الرواة في الضعفاء. ونسبوهم إلى الكذب والافتراء. ومنهم من خرجت التوقيعات فيه عنهم (عليهم السلام) ومنهم من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه، ومنهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة. ومحمد بن سنان. ويونس بن ظبيان. ويزيد الصائغ وغيرهم، وذلك ظاهر لمن تصفح كتب
صفحة ١٢
الرجال واطلع على ما فيها من الأحوال. ومن الظاهر البين الظهور أنه مع شهرة الأمر في هؤلاء المعدودين وأمثالهم، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على رواياتهم، ولا يدونونها في أصولهم إلا مع اقترانها بما يوجب صحتها ويعلن بثبوتها (1) كما صرح
صفحة ١٣
به شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين، وقد نقل الصدوق (قدس سره) في كتاب عيون أخبار الرضا حديثا في سنده (محمد بن عبد الله المسمعي)، ثم قال بعد تمام الحديث ما هذا لفظه: قال مصنف هذا الكتاب: كان شيخنا (محمد بن الحسن ابن الوليد) سئ الرأي في (محمد بن عبد الله المسمعي) راوي هذا الحديث، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي، انتهى. أقول: وكتاب الرحمة لسعد بن عبد الله. فانظر إلى شدة احتياطهم وتورعهم في عدم نقل ما لا يثقون به إلا مع انضمام القرائن الموجبة لصحته وثبوته.
وبالجملة: فالخوض في كتب الرجال - والنظر في مصنفات المتقدمين والاطلاع على سيرتهم وطريقتهم - يفيد الجزم بما قلنا. وأما من أخذ بظاهر المشهور من غير تدبر لما هو ثمة مذكور فهو فيما ذهب إليه معذور. وكل ميسر لما خلق له، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
المقدمة الثانية قد صرح جملة من أصحابنا المتأخرين بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلامة أو شيخه جمال الدين بن طاوس نور الله تعالى مرقديهما. وأما المتقدمون فالصحيح عندهم هو ما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ (قدس سره) في كتاب العدة. وعلى هذا جرى جملة من أصحابنا المحدثين وطائفة من متأخري متأخري المجتهدين كشيخنا المجلسي رحمه الله وجمع ممن تأخر عنه. وقد اتسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الأصول التي تبنى عليها الفروع الفقهية. وبسط كل من علماء الطرفين لسان التشنيع على الآخر، والحق الحقيق بالاتباع ما سلكه طائفة من
صفحة ١٤
متأخري المتأخرين كشيخنا المجلسي (طاب ثراه) وطائفة ممن أخذ عنه. فإنهم سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطى بين القولين ونجدا أوضح من ذينك النجدين (وخير الأمور وسطها) ونحن قد بسطنا الكلام في ايضاح هذا المرام في جملة من مؤلفاتنا ولا سيما كتاب المسائل، فإنا قد أعطينا المسألة حقها من الدلائل، ولا بأس بذكر طرف من ذلك في هذا الكتاب، حيث إنا قد قصدنا فيه ضرب الصفح غالبا عن الكلام في أسانيد الأخبار والطعن فيها بذلك. فربما يظن الناظر الغير العالم بطريقتنا أن ذلك عن عجز أو غفلة أو نحو ذلك، فرأينا أن نبين هنا أن ذلك إنما هو من حيث ثبوت صحة تلك الأخبار عندنا والوثوق بورودها عن أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم).
فنقول: قد صرح شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين وقبله المحقق الشيخ حسن (أعلى الله رتبتهما) في مقدمات كتاب المنتقى بما ملخصه: أن السبب - الداعي إلى تقرير هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة - هو أنه لما طالت المدة بينهم وبين الصدر الأول وبعدت عليهم الشقة وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عن المتقدمين. وضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم.
التجأوا إلى العمل بالظن بعد فقد العلم. لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها، وبسبب التباس الأخبار غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا إلى هذا الاصطلاح الجديد. وقربوا لنا البعيد، ونوعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة. وزاد في كتاب مشرق الشمسين: أنهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان، ثم عد (قدس سره) مواضع من ذلك. هذا خلاصة ما ذكروا في تعليل ذلك. ونحن نقول: لنا على بطلان هذا الاصطلاح وصحة أخبارنا وجوه.
(الأول) ما قد عرفت في المقدمة الأولى من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنما هو التقية من ذوي الخلاف لا من دس الأخبار المكذوبة حتى يحتاج إلى هذا
صفحة ١٥
الاصطلاح. على أنه متى كان السبب الداعي إنما هو دس الأحاديث المكذوبة كما توهموه (رضوان الله عليهم) ففيه أنه لا ضرورة تلجئ إلى اصطلاحهم، لأنهم (عليهم السلام) قد أمرونا بعرض ما شك فيه من الأخبار على الكتاب والسنة فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما، فالواجب في تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة ذلك، وفيه غنية عما تكلفوه، ولا ريب أن اتباع الأئمة (عليهم السلام ) أولى من اتباعهم.
(الثاني) أن التوثيق والجرح الذي بنوا عليه تنويع الأخبار إنما أخذوه من كلام القدماء، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة من المدح والذم إنما أخذوها عنهم، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الأخبار واعتمدوه وضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم، كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي الكافي والفقيه وكلام الشيخ في العدة وكتابي الأخبار فإن كانوا ثقاتا عدولا في الأخبار بما أخبروا به ففي الجميع، وإلا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير كتبهم وأنى لهم به (لا يقال) (1) إن أخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة أو شياع أو شهرة معتد بها أو قرينة أو نحو ذلك مما يخرجه عن محوضة الظن (لأنا نقول) فيه (أولا) إن أصحاب هذا الاصطلاح مصرحون بكون مفاد الأخبار عند المتقدمين هو القطع واليقين وأنهم إنما عدلوا عنه إلى الظن لعدم تيسر ذلك لهم كما صرح به في المنتقى ومشرق الشمسين
صفحة ١٦
(وأما ثانيا) فلما تضمنته تلك العبارات مما هو صريح في صحة الأخبار بمعنى القطع واليقين بثبوتها عن المعصومين (فإن قيل) تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي لا يجب تقليدهم فيه، ونقلهم المدح والذم رواية يعتمد عليهم فيها (قلنا) فيه أن أخبارهم بكون الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك إنما هو أمر اجتهادي استفادوه بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.
(الثالث) - تصريح جملة - من العلماء الأعلام وأساطين الاسلام ومن هم المعتمد في النقض والابرام من متقدمي الأصحاب ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا - بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمة الأبرار، لكنا نقتصر على ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام. فإنه أقوى حجة في مقام النقص والالزام.
فمن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد (نور الله مضجعه) في الذكرى في الاستدلال على وجوب اتباع مذهب الإمامية، حيث قال ما حاصله: أنه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله (عليه السلام) أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف. ودون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام. وكذلك عن مولانا الباقر (ع)، ورجال باقي الأئمة (ع) معروفون مشهورون أولو مصنفات مشتهرة، فالانصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم، إلى أن قال بعد عد جملة من كتب الأخبار وغيرها مما يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقوية: فالانكار بعد ذلك مكابرة محضة وتعصب صرف. ثم قال: (لا يقال) فمن أين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين (ع) وفتواهم عن المطهرين (ع)؟ (لأنا نقول) محل الخلاف أما من المسائل المنصوصة أو مما فرعه العلماء، والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها كما هو بين سائر علماء الأمة، وأما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا، وقلما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه، وقد كانت الأئمة (ع) في زمن تقية واستتار من مخالفيهم، فكثيرا ما يجيبون
صفحة ١٧
السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل إليه من المناوئين، أو يكون عاما مقصورا على سببه أو قضية في واقعة مختصة بها أو اشتباها على بعض النقلة عنهم أو عن الوسائط بيننا وبينهم (عليهم السلام). انتهى.
ولعمري إنه كلام نفيس يستحق أن يكتب بالنور على وجنات الحور، ويجب أن يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر إلى تصريحه بل جزمه بصحة تلك الروايات التي تضمنتها هذه الكتب التي بأيدينا، وتخلصه من الاختلاف الواقع بين الأخبار بوجوه تنفي احتمال تطرق دخول الأحاديث الكاذبة في أخبارنا.
ومن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله تعالى رتبته) في شرح الدراية، حيث قال: " كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم، تداعت (1) الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها: الكافي. والتهذيب.
والاستبصار. ومن لا يحضره الفقيه ".
فانظر إلى شهادته (قدس سره) بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الأصول بعينها (2) وحينئذ فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الأصول. ثم إن الظاهر أن تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه
صفحة ١٨
كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهم - من ظاهر قوله: تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الأصول ولخصها إلى آخره - أن تلخيص تلك الجماعة لها إنما وقع بعد ذهاب معظمها، فإن ذلك باطل (أما أولا) فلأن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو، دون - ثم - المفيدة للترتيب. وأما (ثانيا) فلأن الظاهر - كما صرح به بعض فضلائنا - أن اضمحلال تلك الأصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار، لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا. وإلا فتلك الأصول قد بقيت إلى زمن ابن طاووس (رضي الله عنه). كما ذكر أن أكثر تلك الكتب كان عنده ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته. وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب السرائر. حيث إنه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الأخبار. وبالجملة: فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره إلا معاند جهول.
ومن ذلك ما صرح به المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. حيث قال في بحث الإجازة من العالم ما صورته: " أن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا، فإنها متواترة اجمالا، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا ".
ومن ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (نور الله مضجعه) في وجيزته، حيث قال: " جميع أحاديثنا - إلا ما ندر - ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهم السلام) وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن قال: وكان قد جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا (عليهم السلام) في أربعمائة كتاب تسمى (الأصول) ثم
صفحة ١٩
تصدى جماعة من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الأخبار، فألفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم السلام) كالكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار. ومدينة العلم، والخصال. والأمالي، وعيون الأخبار، وغيرها ".
هذا ما حضرني من كلامهم (نور الله مراقدهم)، وأما كلام المتقدمين، كالصدوق في الفقيه، وثقة الاسلام في الكافي، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته. وعلم الهدى وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشأن.
ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا أنه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم من صحة هذه الأخبار عن الأئمة (عليهم السلام) فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح الحادث؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين. حيث ذكر ما ملخصه: أن اجتناب الشيعة لمن كان منهم ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم السلام) كان أشد من اجتناب المخالفين في أصل المذهب. وكانوا يتحرزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم، فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحتها مع علمهم بحاله. فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق إليه القدح. ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله، كأن يكون سماعة منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق، أو أن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب علي بن الحسن الطاطري، فإنه كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية إلا أن
صفحة ٢٠
الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم. إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة، إلى آخر كلامه (طاب ثراه).
ولقد أجاد فيما أفاد ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم إلى تجديد هذا الاصطلاح. لأن قوله -: كانوا يتحرزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم. وقوله: فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح - يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلها صحيحة.
(الرابع) - إنه لو تم ما ذكروه وصح ما قرروه للزم فساد الشريعة وابطال الدين، لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثق أيضا ورمي بقسم الضعيف باصطلاحهم من البين والحال أن جل الأخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب الكافي أصولا وفروعا وكذا غيره من سائر كتب الأخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد. لزم ما ذكرنا وتوجه ما طعن به علينا العامة من أن جل أحاديث شريعتنا مكذوبة مزورة، ولذا ترى شيخنا الشهيد في الذكرى كيف تخلص من ذلك بما قدمنا نقله عنه دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا.
ولله در المحقق (ره) في المعتبر حيث قال: أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض. فإن من جملة الأخبار قول النبي (صلى الله عليه وآله): " ستكثر بعدي القالة " إلى أن قبل: واقتصر بعض على هذا الافراط فقال: كل سليم السند يعمل به. وما علم أن الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق ولم ينتبه أن ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب. إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل، إلى أن قال: وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسط أقرب، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن
صفحة ٢١