يثبت هابرماس أن المجتمعات الحديثة تتألف من توازن هش بين النظام والعالم المعيش. علاوة على ذلك، لأن النظام مدمج في العالم المعيش ويعتمد عليه حقا، فالأولوية للعالم المعيش. وفقا لهابرماس، العالم المعيش وسط مستقل وذاتي التجدد، في حين أن النظام ليس كذلك. النظام يستحيل أن يعمل إلا على أساس موارد المعنى المستخلصة من العالم المعيش. هذه الأطروحة تجريبية في جزء منها، لكن هابرماس يبنيها أيضا على الحجة المفاهيمية المؤيدة لأولوية الفعل التواصلي. فلأن العالم المعيش يجسد أنماط الفعل التواصلي، ولأن النظام يجسد أنماط الفعل الأداتي، ولأن الفعل التواصلي سابق للفعل الأداتي؛ يجب أن يكون العالم المعيش له أسبقية على النظام.
المشكلة هي أنه رغم أن النظام مدمج في العالم المعيش ويعتمد عليه، يميل النظام إلى تخطي العالم المعيش، وإحلال نفسه محله، بل وتدميره. إن نزوع النظام إلى «استعمار» العالم المعيش يفضي إلى قدر أكبر من الهشاشة، والمزيد من إخلال التوازن أو عدم الاستقرار. وفكرة استعمار العالم المعيش تشير إلى مجموعة مركبة من العمليات التاريخية والاجتماعية المؤذية في نهاية المطاف. بداية، تنفصل وسائل إعلام المال والسلطة الموجهة عن العالم المعيش، ويصبح الاقتصاد الرأسمالي والنظام الإداري منفصمين تدريجيا عن نطاقي الأسرة والثقافة ومؤسسات الفضاء العام كوسائل الإعلام الجماهيرية. ومع ازدياد شبكات الفعل الأداتي من حيث كثافتها وتعقيدها، فإنها تتدخل تدريجيا في العالم المعيش وتستوعب وظائفه. وتترك القرارات الاستراتيجية للأسواق، أو توكل إلى المديرين الخبراء. وشيئا فشيئا تختفي شفافية العالم المعيش، وتحجب أسس الفعل والقرار عن المراجعة العامة والرقابة الديمقراطية الممكنة. وبينما يتضاءل نطاق العالم المعيش، تنشأ مجموعة كاملة مما يطلق عليها هابرماس «الآفات الاجتماعية»، تتضمن - على سبيل المثال لا الحصر - الآثار السلبية للأسواق على النطاقات اللاسوقية التي تستعمرها.
الآفات الناتجة عن استعمار العالم المعيش (1) نقص المعاني المشتركة والفهم المتبادل (اللامعيارية). (2) تآكل الروابط الاجتماعية (التفكك). (3) تفاقم شعور الأفراد باليأس وعدم الانتماء (التغريب). (4) إعراض تبعي عن تحمل الأفراد مسئولية أفعالهم والظواهر الاجتماعية (تثبيط الهمم). (5) إخلال الاتزان وانهيار النظام الاجتماعي (عدم الاستقرار الاجتماعي).
وأخيرا، بما أن النظام يعتمد حقا على العالم المعيش، فإن العملية برمتها تترتب عليها حالات من عدم الاستقرار وأزمات في النظام. وبينما يوصف هابرماس بأنه ليس مناوئا للسوق أو النظام، فهو أيضا على دراية كاملة بالآثار الضارة المحتملة التي يمكن أن تكون للأنظمة (كالاقتصاد الرأسمالي والدولة وغير ذلك من المؤسسات الإدارية) على الحياة الاجتماعية وأفراد المجتمع. (4) هل نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية؟
من بين أهداف هابرماس الأساسية في «نظرية الفعل التواصلي» تقديم بديل أكثر نفعا، وسليم تجريبيا، ومتسق منهجيا للنظرية النقدية لكل من أدورنو وهوركهايمر ؛ ولذا، فإن نظريته الاجتماعية مصممة بحيث تكون نظرية نقدية. ولكن من أي جانب؟ ينكر بعض المعلقين أن نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية من الأساس؛ فهم يرون تحليله قد أسهب في التبرير لنظام الاقتصاد المختلط ودولة الرفاه المؤسسية، واعتذارا لديمقراطية وسط اليسار الاجتماعية الألمانية. ووجهة النظر هذه ليست متشددة وحسب، بل خاطئة أيضا. فنظرية هابرماس عن استعمار العالم المعيش تقدم لنا أجوبة أصيلة ومتعمقة ودقيقة عن السؤال التشخيصي: «ما الذي يعيب المجتمع الحديث؟ ولماذا؟» وتسلط الضوء على قضايا اللامعيارية والتغريب والتشظي الاجتماعي التي أصابت المجتمع الحديث.
وعلى النقيض من نموذج نقد الأيديولوجية، لا تستخدم نظرية هابرماس الاجتماعية الاستراتيجية الانهزامية التي تنسب الأخطاء المتفشية واللاعقلانية إلى الفاعلين كتفسير مفترض لعلة قبولهم مؤسسات وممارسات اجتماعية غاشمة وتأييدهم إياها. بدلا من ذلك، ينسب إليهم هابرماس غايات استراتيجية وأداتية كامنة أو خفية متأصلة في النظام. وتصمد الأنظمة الاجتماعية الغاشمة، ليس لأن الأفراد تلتبس عليهم مصالحهم الشخصية، ولكن لأن أفعالهم تتسم بأنماط راسخة مسبقا ومعقدة من الاستدلال الأداتي. ونظرا لانعدام الشفافية المتأصل في الأنظمة الاجتماعية، تتجاوز أهمية الأفعال قدرة الفاعلين على فهمها وتحمل مسئوليتها.
هل نظرية هابرماس الاجتماعية نقدية انطلاقا من كونها تستطيع تقديم علاج؟ ربما يكون هذا السؤال خاطئا. فهابرماس يقدم نظرية اجتماعية، والنظريات لا تصف علاجات. بالطبع إذا صحت النظرية، فمن الرائع أن تقي العالم المعيش من الاستعمار عن طريق احتواء نظامي المال والسلطة، لضمان وجود نطاقات كافية للحياة الاجتماعية حرة وغير مسوق لها لإحداث التكامل الاجتماعي وطمر نظامي المال والسلطة. الإجابة ليست إلغاء الأسواق والإدارة (ممثلة في الاقتصاد والدولة)، بل احتواؤهما. ولكن، من غير الواضح كيف يمكن، إذا صح ذلك مطلقا، تحقيق ذلك عمليا؟ ومن غير الواضح هوية أو ماهية الملزم بتحقيقه. (من اللافت للنظر أن هابرماس يرى المهمة سياسية أكثر من كونها اجتماعية، وما خلص إليه لا يختلف عن «التحول البنيوي»؛ حيث عقد آماله على التحرر في ضوء إعادة إحياء الفضاء العام.) في «نظرية الفعل التواصلي»، يتحرى هابرماس الصراحة في تقييمه بأنه ما من فاعل، سواء بصفة جمعية أو فردية، يستطيع أن يضطلع بالمهمة. فالدولة، بقدر ما هي ليست جامدة بفعل الاقتصاد، جزء من النظام؛ ومن ثم فهي واحدة من مصادر المشكلة لا الحل. ويطرح هابرماس ما يأمل أن يمتلكه من إصلاح في نظام دولة رفاه ديمقراطية، بقدر ما يمكن أن يتأثر بالمعتقدات الأخلاقية للأفراد، وجماعات الاحتجاج السلمية الموجهة سياسيا.
وتكمن المشكلة في أن مثل هذه الجماعات - التي يطلق عليها أحيانا «الحركات الاجتماعية الجديدة» - لا سلطة بيديها فعليا. وإذا اكتسبت سلطة سياسية، بانتخابها لتتولى مقاليد الحكم، فقد يستحوذ عليها ببساطة النظام الإداري والسياسي. الوسيلة الوحيدة للإصلاح الاجتماعي التي تحددها نظرية هابرماس واهية، ومن المستبعد أن توقف عملية الاستعمار، ناهيك عن إلغائها. ومن بين الاختلافات الكثيرة، يستطيع المرء أن يستشف هنا صدى للتشاؤم الذي يلازم النقد الاجتماعي لهوركهايمر وأدورنو.
هل هذه علامة على أن النظرية الاجتماعية لهابرماس ليست نقدية بالقدر الكافي، أم ببساطة علامة على أنه صادق وواقعي في تقييمه بأنه في العالم الرأسمالي المعاصر لن يقف الكثير في طريق التوسع الذي لا يتوقف للأسواق والإدارة؟ فيما يتعلق بالنقطة الأولى، ينكر هابرماس أن النظريات يمكن، أو حتى يحتمل، أن تكون نقدية بالمعنى الماركسي لإشعال فتيل ثورة. لدى هابرماس مفهوم أبسط بكثير لما يمكن توقع تحقيقه من وراء النظرية الاجتماعية. فالنظريات الاجتماعية ليست هي نفسها محركات التغيير الاجتماعي، بل إنها تقدم ادعاءات بصحة الحقيقة. عمليا، النظريات الاجتماعية في أحسن الأحوال هي أدوات تشخيصية مفيدة تساعدنا في التمييز بين النزعات الضارة والتقدمية في المجتمع الحديث. وبالطبع يريد هابرماس أن يضع نهاية للاضطهاد الاجتماعي، ويمكن فهم حياته وأعماله في ضوء هذه الغاية. يظل هابرماس راديكاليا وإصلاحيا، لكنه واقعي ويعرف أن أغلب ما يمكن أن تحققه نظريته الاجتماعية مباشرة هو مساعدتنا في فهم أسباب الاضطهاد الاجتماعي.
يمكن اعتبار نظرية هابرماس الاجتماعية غير نقدية من منظور مختلف؛ وذلك لأنه يعرض عمدا عن توجيه أي انتقادات أخلاقية صراحة للمجتمع الحديث. على سبيل المثال، يحجم هابرماس عن القول بأن توسع السوق يحيل الناس إلى أفراد قساة القلب ينصب اهتمامهم على أنفسهم وذواتهم، يرون الغير وسائل وحسب لتحقيق غاياتهم الشخصية. وثمة سبب وجيه لذلك. فنظرية هابرماس الاجتماعية، شأنها شأن النقد المتأصل لدى أدورنو وهوركهايمر، من المفترض أن تكون مختلفة عن النقد الأخلاقي. من المفترض أن تكون نظريته منفتحة فيما يتعلق بأسسها المعيارية، على ألا تعول على نظرية أو مفهوم أخلاقي مسبق عن الخير. إن انتقادات هابرماس من هذا المنطلق للمجتمع الحديث وظيفية لا أخلاقية أو خلقية. الاستعمار مؤذ لأنه يعوق القدرة الوظيفية الخيرة للعالم المعيش، ويحرم المجتمع منافع التواصل والخطاب ممثلة في المعاني والمواقف المشتركة، والنظام الاجتماعي، ومشاعر الانتماء، والاستقرار الاجتماعي، وما إلى ذلك.
صفحة غير معروفة