ومع انتشار سلطة العامة وأثرهم، بدأ الرأي العام تدريجيا في لعب دور الرقيب على شرعية صلاحيات الحكومة غير الممثلة للشعب والمنغلقة على نفسها. وعن طريق التحقق مما إذا كانت القوانين والسياسات تخدم الصالح العام أم لا، يستطيع العامة اختبار شرعيتها بفاعلية. ورغم أن الفضاء العام بدأ يمارس وظيفة سياسية واجتماعية، فإنه لا يمكن الخلط بينه وبين أي مؤسسة سياسية محددة أو ربطه بها . فقد كان فضاء غير رسمي للتواصل الاجتماعي يستقر في مكان ما بين المجتمع المدني البرجوازي والدولة أو الحكومة. (2-2) الفضاء العام كفكرة وأيديولوجية
تعتبر النظرية النقدية عند هابرماس، كما هو مبين في «التحولات البنيوية»، تنويعة من النقد المحايث المعروف باسم نقد الأيديولوجية أو النقد الأيديولوجي. ولفهم فحوى هذه النظرية، يجب أولا أن ندرس فكرة الأيديولوجية. يعرف أدورنو الأيديولوجية بأنها «وهم ضروري اجتماعيا» أو «وعي زائف ضروري اجتماعيا»، ويقبل هابرماس في شبابه تعريفا شبيها بذاك التعريف. واستنادا إلى وجهة النظر هذه، فالأيديولوجيات هي الأفكار أو المعتقدات الزائفة التي يتمكن المجتمع بشكل نظامي من حث الناس على تبنيها. لكن الأيديولوجيات ليست معتقدات زائفة عادية، كاعتقادي الزائف بأن ثمة شايا في قدحي بينما يحتوي القدح على القهوة، بل هي معتقدات خاطئة يفترض صحتها على نطاق واسع؛ لأن جميع أفراد المجتمع تقريبا حملوا على الاقتناع بها بشكل ما. علاوة على ذلك، فالأيديولوجيات معتقدات زائفة فاعلة تعمل - لا سيما في ظل انتشارها على نطاق واسع - على دعم بعض المؤسسات الاجتماعية المحددة وعلاقات الهيمنة التي تؤيدها. ومن هذا المنطلق تحديدا نجد أن الأيديولوجيات «ضرورية اجتماعيا».
والأيديولوجية من هذا المنطلق يمكنها أن تلبي وظائف اجتماعية من عدة طرق مختلفة. فمن الجائز أن تشكل في الواقع مؤسسة اجتماعية من صنع الإنسان؛ ومن ثم مؤسسة قابلة للتعديل أساسا، تبدو وكأنها ثابتة وطبيعية. أو قد تشكل مؤسسة تخدم في واقع الأمر مصالح فئة محدودة من الناس تبدو وكأنها تخدم مصالح الجميع. على سبيل المثال، إذا كان الجميع يؤمنون بأن القوانين الاقتصادية توجد بشكل طبيعي ومستقل عن البشر، فأغلب الظن أن يقبل العمال الأجور الزهيدة التي يحصلون عليها لقاء كدهم بدلا من أن يروا في موقفهم إجحافا هيكليا بحاجة إلى إصلاح؛ ولذا، فإن نقد الأيديولوجية نوع من النقد المحايث الذي يفضح هذه الأوهام الضرورية اجتماعيا؛ ومن ثم يجعل، أو هكذا نأمل، موضوع النقد - وهو هنا البنية الاجتماعية المشكلة للوهم - أكثر سلاسة وقابلية للتغير.
وبحسب هابرماس، فإن مفهوم الفضاء العام فكرة وأيديولوجية في آن واحد. فالفضاء العام مساحة يشارك فيها الناس كأنداد في نقاش عقلاني طلبا للحقيقة والصالح العام. فالانفتاح والشمولية والمساواة والحرية كأفكار كانت لا تقربها الشبهات، لكنها في الواقع محض أيديولوجيات أو أوهام؛ وذلك لأن المشاركة في الفضاء العام الموجود في المقاهي والصالونات والدوريات الأدبية في أوروبا القرن الثامن عشر نظريا طالما كانت حكرا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء. وكان الثراء والتعليم شرطي المشاركة الضمنيين. والواقع أن السواد الأعظم من الفقراء وغير المتعلمين، وجميع النساء تقريبا، كانوا مستبعدين من الفضاء العام. ومن ثم، فإن فكرة الفضاء العام ظلت طوباوية وحسب؛ مجرد رؤية شاملة داعية للمساواة بين البشر لمجتمع جدير بأن نسعى لتحقيقه، لكنه لم يتحقق كليا قط. وظل مفهوم الفضاء العام البرجوازي أيديولوجيا بالمعنى الثاني أيضا؛ وذلك لأن فكرة المصلحة العامة أو الصالح العام، التي خلقتها الثقافة المشتركة للجمهور المولع بالأدب وسوق الحجج، طرحت ما كانت في حقيقة الأمر مصالح مجموعة محدودة من الرجال المتعلمين الأثرياء باعتبارها المصلحة العامة للبشر أجمعين.
أهم نقطة في منهج هابرماس هي إثبات أن فكرة الفضاء العام البرجوازي كانت، رغم كل ذلك، تتجاوز الوهم المحض؛ لأن هذا الفضاء كان أساسا مفتوحا؛ فكل من حصل ثروة وتعليما مستقلين، بغض النظر عن مكانته أو حالته الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها أو جنسه، يحق له المشاركة في النقاش العام. ولم يكن هناك من يستبعد «نظريا» من المشاركة في الفضاء العام، مع أن كثيرا من الناس استبعدوا «فعليا». إن نموذج اجتماع عدد من الأشخاص المستقلين على نحو تطوعي مفتوح للجميع، يجتمعون كأنداد للمشاركة في نقاش لا يقيده قيد طلبا للحقيقة والمصلحة العامة، كان لا شك طوباويا، لكنها كانت ولا تزال يوتوبيا جديرة بالسعي إليها. ولفترة وجيزة خلال القرن الثامن عشر، لم تكتسب هذه اليوتوبيا رواجا فكريا فحسب، بل وبدأت تتحقق على أرض الواقع، بشكل عابر وجزئي، في الواقع الاجتماعي والسياسي. (2-3) انحسار الفضاء العام
يرسم الجزء الثاني من «التحولات البنيوية» تفسخ الفضاء العام وانحساره. لما شهدت الصحف والمجلات تدريجيا رواجا كبيرا على نطاق واسع، تحولت إلى شركات رأسمالية عملاقة تعمل على خدمة المصالح الخاصة لعدد قليل من أصحاب النفوذ. وتدريجيا فقد الرأي العام استقلاليته المزدوجة، علاوة على وظيفته النقدية. وبدلا من تعزيز تشكل الرأي العقلاني والمعتقدات الموثوقة، أمسى الفضاء العام في القرنين التاسع عشر والعشرين حلبة يمكن فيها توجيه الرأي العام والتلاعب به. وأمست صحف ومجلات الإعلام الجماهيري والروايات الأعلى مبيعا، إضافة إلى البث الإذاعي والتليفزيوني، عناصر استهلاكية؛ وبدلا من أن تعزز الحرية والرخاء البشري بدأت في واقع الأمر تقمعهما. ولا شك أن مؤسسات الدولة والمؤسسات الاقتصادية والسياسية أصبحت أكثر براعة من ذي قبل في الفوز بتقدير الجمهور وتأييده؛ مما كفل لها غطاء من الشرعية لاحقا. ولكن هذا التأييد قوامه الآراء الخاصة لمستهلكين صاغرين غير ناقدين وتابعين اقتصاديا، لا الرأي العام السديد الذي يتشكل عبر النقاش العام المدروس.
إن هذه النظرة المتشائمة نوعا ما لتطور المجتمع الرأسمالي الغربي في القرن العشرين كانت تتسق مع جزء كبير من رواية أدورنو وهوركهايمر للطريقة التي خلقت بها صناعة الثقافة جمهورا متجانسا بشكل متزايد من المستهلكين الخانعين غير الناقدين. وتبنى هابرماس أيضا تحليل مدرسة فرانكفورت المتشائم نوعا ما، والذي مفاده أن الرأسمالية الاحتكارية وليبرالية دولة الرفاه في الولايات المتحدة الأمريكية أفضتا في نهاية المطاف إلى تضاؤل حرية الإنسان، وتفريغ السياسات الديمقراطية من مضمونها، ولم تقدما بديلا مثمرا للنظام الاجتماعي الهش لجمهورية فايمر الألمانية التي أذعنت للنازية.
لهذه الأسباب كلها، يتصف هابرماس بمزيد من الوضوح والإيجابية مقارنة بما كان عليه أدورنو وهوركهايمر في أي وقت حيال المسار الذي كان ينبغي سلوكه. فالفضاء العام الذي انحسر حقا وتشظى كان ينبغي تعميقه وتوسعة نطاقه واستمراره في ممارسة مهمة النقد وإضفاء الشرعية على النظامين السياسي والاقتصادي، والزج بهما في نطاقات تحظى بالسيطرة الديمقراطية. ويختتم هابرماس حديثه في «التحولات البنيوية» بما يحويه التحليل النهائي؛ ألا وهو تخمين يحدوه الأمل بأن هذا التطور لم يحدث بعد، وقد يطرأ في المستقبل على أساس الفضاءات الحالية للدعاية المدمجة في مؤسسات كالأحزاب السياسية. وفي ظل الظروف السياسية والاجتماعية المواتية، يحتمل سد الفجوة التي لا تفتأ تتسع بين فكرة الفضاء العام والواقع الاجتماعي والسياسي مجددا. (2-4) مفهوم النظرية النقدية عند هابرماس
يهتم هابرماس بمفهوم الفضاء العام؛ لأنه يعتبره أصلا لنموذج إرساء السياسات الديمقراطية، وأساسا للقيم الأخلاقية والمعرفية التي تعزز الديمقراطية وتحافظ عليها؛ ألا وهي المساواة والحرية والعقلانية والحقيقة. ودائما كانت أعمال هابرماس مختلفة عن أعمال أساتذته بمدرسة فرانكفورت؛ إذ كان اهتمامه الشديد بالحرية الفردية دوما مرتبطا باهتمامه بمصير المؤسسات الديمقراطية وبآفاق تجديد السياسات الديمقراطية. ومن ثم، فهو يبدي اهتماما بالبنية المؤسسية الفعلية للمجتمع الديمقراطي أكبر بكثير من هوركهايمر وأدورنو. وهو يرى أن النظرية النقدية كان يجب أن تدلي بدلوها في أنواع المؤسسات الضرورية لحماية الأفراد من مفاتن التطرف السياسي، من ناحية، وعمليات النهب التي يقوم بها الاقتصاد الرأسمالي المتنامي سريعا من ناحية أخرى.
لا يبادر أدورنو، شأنه شأن ماركس من قبله، بالخوض، إلا قليلا، فيما يجب أن يكون عليه المجتمع الصالح أو العقلاني، وشأنه شأن ميشيل فوكو (1926-1984) من بعده، فهو يتعامل بريبة شديدة مع المؤسسات عامة. إن الغاية العملية لنظرية أدورنو النقدية هي تجهيز الأفراد بالقدرات التي تمكنهم من مقاومة الاندماج في مؤسسات المجتمع الرأسمالية التي لا مناص منها، والساعية لدمج الجميع في نسيجها. وأهم هذه القدرات على الإطلاق الاستقلال الفردي الذي يفهم إلى حد ما في سياق إحساس إيمانويل كانط (1724-1804) بما يعرف ب
صفحة غير معروفة