تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

محمد إسماعيل المقدم ت. غير معلوم

تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

الناشر

دار طيبة

رقم الإصدار

العاشرة

سنة النشر

١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م

مكان النشر

مكة المكرمة

تصانيف

تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب تأليف: محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم توزيع دار طيبة - مكة المكرمة ت: ٥٥٨٩٠٢٧

1 / 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

1 / 2

تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

1 / 3

حقوق الطبع محفوظة الطبعة العاشرة ١٤١٤ هـ - ١٩٩٣ م توزيع دار طيبة - مكة المكرمة ت: ٥٥٨٩٠٢٧ الرياض ت: ٤٢٥٣٧٣٧

1 / 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، سيما عبده المصطفى. وبعد: فقد طُبعت هذه الرسالة من قبل ملحقة بكتاب " أدلة تحريم حلق اللحية " باعتبارها امتدادًا لمادته، وقد نصح كثير من الفضلاء بإصدارها منفردة تعميمًا للفائدة، في وقت ارتفعت فيه نعرة تقسيم الدين إلى قشر ولباب، يعقبها المناداة بنبذ ما أسموه قشرًا بدعوى الاهتمام باللب، مما يعني تزهيد الناس في التمسك بهدى رسول الله ﷺ، ذلك الهدى الذى سَوَّلَتْ لهم شياطينهم، وطوَّعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفًا، والله ﷾ يقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ويقول ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وحينما نردد بين الحين والحين شعارنا المقدس: "خير الهدى هدى محمد ﷺ " فإننا نعنيها، ونستحضر كلما رفعنا عقيرتنا بها أنها تعنى الاعتزاز بهذا الهدى، والاستعلاء به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه. إن التمسك بهدى رسول الله ﷺ الظاهر والباطن ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه ﷺ من حبه وتعزيره وتوقيره، وما يتنادى به بعض المرجفين لا يعدو أن يكون جهلًا بالشرع، أو ضربًا من العبث والتحلل من البعض، أو سوء نية وخبث طوية من البعض الآخر، وقانا الله وسائر المسلمين شرهم.

1 / 5

وهذه الرسالة ترد على الفريقين كل بحسبه، وتبين أن مصطلح " القشر واللب " ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قِبَلِهِ العذاب، ولذا انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا الطعم، فاستحسنوه، وصاروا يروِّجون له، دون أن يدركوا أنه قناعٌ نفاقى قبيح، وأنه من لحن قول العالمانيين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشرائع الإِسلام دون أن يُخْدَش انتماؤهم إليه، نعم تتوقف القضية عند حسنى النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما أسموه قشرًا، لتركيز الاهتمام على ما دَعَوه " لبًّا "، ولكنها عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الِإسلام من جذورها، مجرد مدخل إلى نبذ اللب والقشر معًا، تمامًا كما يرفعون شعار الاهتمام " بروح النصوص وعدم الجمود عند منطوقها "، ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء، وطبَّقه الأسوياء، لكنه خطير إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية، والمشوهون عقديًّا؛ إذ يكون مقصودهم حينئذ هو " إزهاق " روح النص، بل اطِّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه -بعد تحريفه عن مواضعه- لخدمة أهدافهم الخبيثة (١). إنهم يريدون دينًا ممسوخًا كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شىء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء حيًّا على هامش الحياة، محبوسًا في الأقفاص الصدرية، لا يترك أى بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم. إنهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (٢). ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٣). والحمد لله رب العالمين. الِإسكندرية في الجمعة ١١ شوال ١٤١٣ هـ الوافق ٢ أبريل ١٩٩٣ م

(١) انظر: " العقلانية هداية أم غواية " للأستاذ عبد السلام بسيوني ص (٨٧ - ٩٤). (٢) التوبة: (٣٢ - ٣٣). (٣) يوسف: (٢١).

1 / 6

بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ (١). قال الِإمام الحافظ ابن كثير ﵀: (يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الِإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك) (٢) اهـ. ثم نقل عن ابن عباس وغيره أنهم قالوا: ﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ﴾ يعني: الِإسلام، ﴿كافة﴾ يعني: جميعًا، وقال مجاهد " أى اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر "، وقال الألوسى ﵀: (والمعنى: ادخلوا في الِإسلام بكليتكم، ولا تَدَعُوا شيئًا من ظاهركم وباطنكم إلا والِإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره) (٣) اهـ. وقال أيضًا: (وقيل: الخطاب للمسلمين الخُلَّصِ، والمراد من " السِّلْم " شعب الِإسلام، و" كافة " حال منه، والمعنى " ادخلوا " أيها المسملمون المؤمنون بمحمد ﷺ في شعب الِإيمان كلها، ولا تُخِلُّوا بشىءٍ من أحكامه) اهـ.

(١) (البقرة: ٢٠٨). (٢) " تفسير القرآن العظيم " (١/ ٣٦١). (٣) " روح المعاني " (٢/ ٩٧).

1 / 7

تقسيم الدين إلى قِشْرٍ ولُبٍّ بِدْعةٌ وضلالة نبغ في هذا العصر أقوام تلقوا هدى الِإسلام من واقع حياتهم أولًا، ولم يحيوا في جو علمى يتأثرون به في حكمهم على الأمور، فراحوا يحتجون ببعض النصوص لِإثبات عكس ما وضعت له، ويسمون الأشياء بغير اسمها. ويتضح هذا جليًّا فيمن لا يهتمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها (شكليات) أو (قشورًا) ويدندنون فقط حول التمسك (باللباب). يقول الشيخ محمد إبراهيم شقرة حفظه الله ما ملخصه: [لقد صارت هذه المقولة المغرضة شعارًا له أنصار ودعاة وأقلام وصحف ومناهج وعقول. - وبالرغم من هذا الحشد الذى التف حول هذا الشعار فإننا لم نجد حتى الآن ترجمة واضحة له، أو تحديدًا دقيقًا لمعناه، فإن القائلين بهذه المقولة الحادثة، رغم تأكيدهم عليها، والِإكثار من الحديث عنها، فإنهم لم يضعوا تعريفًا أو حَدًّا لما سموه قشرًا، أو لما يسمى لبابًا، ينتهى إليه الراغب في العمل باللباب وحده دون القشر. وما ذاك إلا لأنها مقولة حادثة مبتدعة، لم يعرفها سلف الأمة ومن تبعهم بإحسان، وإنما هي من نتاج أفكار المهزمين المستعبدين للشرق أو الغرب. * وإذا حاولنا أن نضع حدًّا تقريبيًا، فلنقل: " اللباب في المأمورات الشرعية هو ما يدخل تحت الحكم الواجب، والقشر هو ما جاوز دائرة الحكم الواجب، واللباب في النواهي هو ما يدخل تحت الحكم الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصريح في النواهي " وعلى ذلك: فالقشور في المأمورات: كل مندوب أو مباح، وفي النواهي: المكروهات، وبناءً عليه يجتمع لدينا من القشور ما يزيد على نصف الدين،

1 / 8

ويبقى من لبابه أقل من النصف، فهل يعقل أن ندع أكثر من نصف الدين قشورًا لنأخذ أقل من نصفه لبابًا؟ ٍوأين سيضعون المسائل المختلف عليها بين الواجب والمندوب كصلاة الوتر مثلًا؟ * أضف إلى ذلك أنه ليس شىء من القشور أو اللباب -على حد تعبيرهم- إلا ويدخل تحت حكم الله وخطابه المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل التخيير أو الطلب تركًا أو فعلًا، وبالتالي لا يصح تسميته قشرًا على سبيل الاصطلاح الذى افترضناه، ولا على سبيل التهوين والغض من شأنه. لقد أنزل الله سبحانه دينه على نبيه ﷺ ليبنى به الِإنسان المسلم، فيسعد به في الدنيا والآخرة، ولا يخفي على ذى عقل أن كل أمر ونهي من أوامر هذا الدين ونواهيه تسهم إسهامًا فعَّالًا في بناء هذا الِإنسان، سواءً أكانت من المندوبات أم من المباحات أم من الواجبات، وسواءً أكانت من المكروهات أم من المحرمات؛ لأن جميع هذه الأحكام هي شعب الِإيمان التي قال فيها ﵊: " الِإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الِإيمان " (١)، فأَيُّما شعبة نقصت منها كانت نقصًا من الِإيمان، وأيما شعبة التزمها المسلم كانت زيادة في إيمانه؛ لأن الِإيمان يزيد وينقص بالقول والعمل، وهذا من شعائر أهل السنة، وهو مذهب السواد الأعظم من الأمة، قال رسول الله ﷺ: "لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الِإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها: فأولهن نقضًا الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ

(١) البخاري في الِإيمان: باب أمور الِإيمان (١/ ٤٨، ٤٩): بلفظ: " الِإيمان بضع وستون شعبة "، ومسلم فيه: باب بيان عدد شعب الإيمان رقم (٣٥)، وأبو داود في السنة: باب في رد الإرجاء رقم (٤٦٧٦)، والترمذي في الِإيمان، والنسائي فيه: باب ذكر شعب الِإيمان (٨/ ١١٠)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة رقم (٥٧) بلفظ: " الايمان بضع وستون أو سبعون بابًا ".

1 / 9

الصلاة" (١). قال رسول الله ﷺ: " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " (٢)، والاستطاعة في إنفاذ الأمر إما أن تكون في الفعل الواحد، كالصلاة مثلًا، فإذا لم يستطع المسلم أن يصليها وهو قائم، وجب عليه أداؤها على الوجه الذي يستطيعه من قعود أو اضطجاع أو غير ذلك. وإما أن تكون الاستطاعة في مجموع الأفعال، فقد لا يستطيع المسلم أن يصوم لمرض، في حين يكون قادرًا على أداء الصلاة على كل حال، فوجبت الصلاة في حقه، وسقط عنه الصيام إن كان مرضه مزمنًا، وإلا صام حين شفائه، وقد لا يقوى المسلم -لعذر من الأعذار- أن يصلي في المسجد، وهو مأمور بأدائها فيه، فلا يقال: ما دام أنه لا يستطيع أن يصليها في المسجد فلا يصليها، بل يقال: يفعل ما يقدر عليه، ويُعذر فيما لا يقدر عليه. أما النهيات، فقد أمر النبي ﷺ أمته أن تجتنبها كلَّها، من غير فرق بين واحدٍ وواحد، فكما أنه نهى عن الزنا، نهى عن النظر المحرم إلى المرأة، وكما أنه نهى عن شرب الكثير من الخمر، نهى عن شرب القليل منها، وكما أنه نهى عن سرقة المال الكثير، فإنه نهى عن سرقة الدرهم والدرهمين، وكما أنه نهى عن الكذب على الأمة كلها، فإنه نهى عن الكذب على الرجل الواحد، فلا يقال هنا: يجتنب ما يستطاع اجتنابه، بل يجب اجتناب كل ما نهى

(١) رواه من حديث أبي أمامة ﵁ الِإمام أحمد (٥/ ٢٥)، والحاكم (٤/ ٩٢)، وقال: " إسناده صحيح، ولم يخرجاه "، ورواه ابن حبان (موارد: رقم ٢٥٧)، ص (٨٧)، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (٥/ ١٥). (٢) رواه من حديث أبي هريرة ﵁ البخاري (١٣/ ٢١٩، ٢٢٠) في الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، ومسلم -واللفظ له- في الفضائل (٧/ ٩١)، والنسائي (٥/ ١١٠ - ١١١) في الحج، وابن ماجه رقم (٢) في المقدمة - والمقصود أنه ﷺ زجر عن النواهي مطلقًا ولم يفرق بين قشر ولب، وعلق امتثال الأوامر على الاستطاعة، ولم يعلقه بكونها قشرًا أو لبًّا على زعمهم.

1 / 10

عنه، ولا يعفي إلا عن الناسي أو المخطيء أو المكره] (١) اهـ. وتقسيم الدين إلى " قشر ولب " تقسيم غير مستساغ، بل هو محدث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير والنجاة في اتباعهم واقتفاء آثارهم ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ (٢) وهذه القسمة إلى قشر ولب، ظاهر وباطن -يتبعها المناداة بإهمال الظاهر احتجاجًا بصلاح الباطن- تلقى رواجًا عند المستهترين والمخدوعين، حينما يرون القوم يسمون المعاصي بغير اسمها فيقولون -مثلًا- إن إعفاء اللحية من سنن العادة، بل عدَّ بعضهم إعفاء اللحية وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة وبيان الشرع، وعد ذلك من قبيل المندوب بل في ثالث مراتبه بعد السنن المؤكدة وغير المؤكدة، بل قال: (ومن أخذ به على أنه جزء من الدين، أو على أنه أمر مطلوب على وجه الجزم فإنه يبتدع في الدين ما ليس منه) (٣) اهـ.

(١) من " تنوير الأفهام لبعض مفاهيم الِإسلام " للأستاذ محمد إبراهيم شقرة ص (٣٥: ٤٤) ملخصًا. (٢) (النجم: ٢٣). (٣) والقول بأن إعفاء اللحية من العادات التي قد تجري بها أعراف الناس باطل، لأن ما تجري به العادة قسمان: قسم سكت عنه الشارع، ولم يتعرض له بوجوب ولا تحريم فهذا مباح لا لوم على فاعله، والثاني: ما أوجبه الشارع وأمر به أو حرمه ونهى عنه، فهذا القسم لما تعرض له الشارع بالِإيجاب أو التحريم صار من الدين، وما أكثر الأعمال التي كانت تجري مجرى العادات قبل البعثة، ثم دخلت في حدود المناهي التي حرمها الشارع فأصبح اجتنابها من الدين، كالوشم والتنميص ووصل الشعر والنياحة والميسر وغير ذلك، وهب -جدلًا- أن إعفاء اللحية عادة فلم لا نتأسى بعادة النبي محمد ﷺ والخلفاء الراشدين والصالحين من هذه الأمة المحمدية؟! وقد نقل ابن الحاج عن الغزالي ﵀ قوله في " كتاب الأربعين ": (اعلم أن مفتاح السعادة: في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله ﷺ في جميع مصادره وموارده، =

1 / 11

وقسمة الدين إلى قشر ولب تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي سميت قشورًا، فلا تلتفت قلوبهم إليها، فتخلو من أَضعف الإيمان ألا وهو الِإنكار القلبي الذي هو فرض عين على كل مسلم تجاه المنكرات. والتفريط في مُحَقَّراتِ الأعمال يؤدى إلى التفريط في عظائمها، لأن استمرار هذا التفريط يتحول مع الزمن إلي عادة تنتهي بصاحبها إلى قلة الاكثرات بأمور دينه، والتهاون بها. ونحن إذا تسامحنا معهم في هذه القسمة إلى قشر ولب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار من حيث إن لكل منهما قشرًا ولبًّا، وظاهرًا وباطنًا، لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خُلِقتْ عبثًا، حاشا وكلا، بل لحكمة عظيمة وهي المحافظة على ما دونها وهو اللب نفسه، وهذا محملنا على أن لا نستهين بالقشر من حيث كونُه حارسًا أمينًا على اللب، وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة. ومن هذا القبيل: تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فإن العلماء الذين فعلوا ذلك لا يظن بهم أنهم قصدوا بذلك التقسيم إيجاب الاتفاق على الأصول، ثم التسامح مطلقًا في الفروع، كما يظن بعض متفقهة هذا الزمان، فتراهم يميعون كل قضية فرعية بدعوى أن اختلاف الأمة ما دام في الفروع فهو رحمة، وهذا أصل قولهم: " مَنْ قَلَّدَ عالمًا لقى الله سالمًا ".

= وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه، ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه فقط، لأنه لا وجه لإهمال السنة الواردة فيها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يحصل الاتباع الطلق، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١]، وقال تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] ... فلا ينبغى التساهل في امتثال ذلك، فتقول: " هذا مما يتعلق بالعادات، فلا معنى للاتباع فيه "، فإن ذلك يغلق عنك بابًا عظيمًا من أبواب السعادات) اهـ من " المدخل " (١/ ١٤٣، ١٤٤).

1 / 12

وهذا بدوره قد أدى ببعضهم إلى اتباع الهوى والترخص دون تحري الدليل، ويلزم من ذلك القول بأن الاتفاق سخط، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولو أنهم كانوا يرون أن " الخلاف شر " كما قال ابن مسعود ﵁ وغيره، بل كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، لَسَعَوْا إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في كثير من هذه المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها، إلا بِرَدِّ بعضِها الخالفِ للدليل وقبولِ البعضِ الآخر الموافقِ له، وإلا فقد نسبوا إلى الشريعة التناقضَ، والله ﷿ يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (١). فإذا كان الاختلاف ليس من الله فكيف يصح جعلُه شريعةً متبعةً، ورحمةً منزلة؟ فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن، أو تضييق دائرته عملًا بقوله ﷺ: " سَدِّدُوا وقاربوا " (٢)، وهذا ممكن في كثير من المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يُعرف بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، ثم بعد تحري الدليل والعجز عن التخلص من الخلاف يعذر بعضهم بعضًا فيما قد يختلفون فيه (٣): والذين قسموا الدين إلى قشر ولب ركبوا مطايا الخير للشر، فاستدلوا على بدعتهم ببعض النصوص: * منها: ما رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ قال: سمعت

(١) (النساء: ٨٢). (٢) البخاري في المرض (١٠/ ١٠٩)، باب تمني المريض الموت، وفي الرقاق (١١/ ٢٥٢ - ٢٥٤)، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم رقم (٢٨١٦) في صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، والنسائي (٨/ ١٢١، ١٢٢) في الإيمان، باب الدين يسر. (٣) انظر: " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم (٥/ ٦٤، ٦٧، ٦٨)، " إعلام الموقعين " (٣/ ٣٥٩)، " جامع بيان العلم " (٢/ ٨١ - ٨٩)، " المسودة " لآل تيمية ص (٤٩٧).

1 / 13

رسول الله ﷺ يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى " (١) الحديث. * ومنها: ما رواه النعمان بن بشير ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن الحلال بَيِّنٌ، وإن الحرامَ بَيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتعَ فيه، ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صَلُحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب " (٢). * ومنها: ما رواه أبو هريرة ﵁ قال رسول الله ﷺ: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " (٣).

(١) رواه البخاري (١/ ٧ - ١٥) في بدء الوحى، وفي الِإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امريء ما نوى، وفي العتق باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، وفي فضائل أصحاب النبي ﷺ، باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة، وفي النكاح، باب من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة فله ما نوى، وفي الأيمان والنذور، باب النية في الأيمان، وفي الحيل، باب في ترك الحيل وأن لكل امريء ما نوى، ومسلم رقم (١٩٠٧) في الِإمارة، باب قوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنية"، وأبو داود رقم (٢٢٠١) في الطلاق، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، والترمذي رقم (١٦٤٧) في فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، والنسائي (١/ ٥٩، ٦٠) في الطهارة، باب النية في الوضوء. (٢) رواه البخاري (١/ ١١٦، ١١٩) في الِإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، وفي البيوع: باب الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات، ومسلم (١٥٩٩) في المساقاة: باب لعن آكل الربا ومؤكله. (٣) أخرجه مسلم (٢٥٦٤) (٣٤) في البر والصلة باب تحريم ظلم المسلم وخذله، وأخرجه الِإمام أحمد (٢/ ٢٨٥، ٥٣٩)، وابن ماجه (٤١٤٣) في الزهد: باب القناعة.

1 / 14

قالوا: فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على أن العبرة بصلاح الباطن وصفاء النية وسلامة القلب، ولا التفات بعد ذلك إلى القشور الظاهرة. وجواب ذلك: ما قاله شيخ الِإسلام ابن تيمية ﵀: (أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله)، وهذه من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين. فقوله ﷺ: " إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى " لا يدل بأي وجه من وجوه الدلالات على إهدار العمل الظاهر، وعدم اعتباره، ولكنه يرشدنا إلى أحد شَرْطَيْ العبادةِ الصحيحة، وهما شرط في الظاهر، وشرط في الباطن، فأما شرط الظاهر: فأن يكون العمل موافقًا لسنة النبي ﷺ منافيًا للبدع، ودليل هذا الشرط قوله ﷺ: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " (١) وفي رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وأما شرط الباطن فهو إخلاص النية لله ﷿ المنافي للرياء ودليله قوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات". وقد جمعهما الله ﵎ في قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (٢). وقال الفضيل بن عياض ﵀ في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ (٣) قال: " أخلصه وأصوبه "، وقال: "إن العمل إذا كان خالصًا

(١) رواه من حديث أم المؤمنين عائشة ﵂ البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (٤/ ٢٩٨) في البيوع: باب النجش، ووصله في الصلح (٥/ ٢٢١) باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم رقم (١٧١٨) في الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، وأبو داود في السنة: باب لزوم السنة (٢/ ٥٠٦)، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة: باب تعظيم حديث رسول الله ﷺ رقم (١٤). (٢) (الكهف: ١١٠). (٣) (الملك: ٢).

1 / 15

ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا"، قال: " والخالص إذا كان لله ﷿، والصواب إذا كان على السنة "، فالحديث دليل على خطر النية وعظم شأنها، ولا يدل بحال على إسقاط شعائر الِإسلام الظاهرة، وقوله ﷺ " الأعمال بالنيات " تقديره (الأعمال الواقعة بالنيات) أو (الأعمال حاصلة بالنيات) (١) أي الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سببب وجودها وعملها، ثم يكون قوله: " وإنما لكل امريء ما نوى " إخبارًا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله بنيته فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره). بل في الحديث ما يدل على خطرها أيضًا، وهو قوله ﷺ بعد ذلك: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". فهذا مَثَلٌ من الأعمال التي صورتها في الخارج واحدة، ويشترك فيها المؤمنون والمنافقون، ويختلف صلاحُها وفسادُها باختلاف النيات، فهل يستقيم أن يستنبط إنسان من هذا التنفير عن الهجرة من دار الحرب إلى دار

(١) وفي رواية (إنما العمل بالنية)، (ال) للعهد، وليست للاستغراق والشمول يراد منها: الأعمال الصالحة، قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: " إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، والنية الحسنة لا تجعل الباطل حسنًا؛ لأن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، فلا بد أن ينضم إليها التقيد بالشرع " اهـ. من " مدارج السالكين " (١/ ٨٥) فمِن ثَمَّ قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ راوى حديث النيات: " إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا صدقناه، وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: " إن سريرته حسنة ") رواه البخاري (٣/ ٢٢١) في الشهادات: باب الشهود العدول.

1 / 16

الاسلام اعتمادًا على صدق النية، ألا يكون تخاذله عن هذه الهجرة من باب أولى أعظم دليل على فساد قلبه وسوء نيته؟! مصداقًا لقوله ﷺ: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " (١). وما قيمة هذه النية المزعومة إذا لم ينبثق عنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي؟! ونظير ذلك نصوص كثيرة تربط بين كافة الشرائع الظاهرة وبين النية، وتُعَلِّقُ الفلاح على صلاح النية وصلاح العمل - قال مطرف بن عبد الله: " صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية ". * من ذلك: قوله ﷺ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى " (٢) فقوله ﷺ: " وحسابهم على الله ﷿ " يعني أن الشهادتين مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي أعمال ظاهرة؛ تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا بأن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله ﷿ فإن كان صادقًا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبًا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفي بعض روايات مسلم: ثم تلا: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢١ - ٢٦]. ومن ذلك: ما رواه أبو سعيد الخدري ﵁: (أن خالد بن الوليد ﵁ استأذن النبي ﷺ في قتل رجل، فقال: "لا، لعله أن يكون

(١) تقدم تخريجه ص (١٤). (٢) رواه من حديث عبد الله بن عمر ﵄ البخاري (١/ ٧٠، ٧١) في الإيمان: باب " فإن تابوا وأقاموا الصلاة "، ومسلم فيه أيضًا: باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، رقم (٢٢).

1 / 17

يصلي" فقال خالد: وكم من مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله ﷺ: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم " (١). * ومن ذلك: ما رواه عبادة بن الصامت ﵁ قال رسول الله ﷺ: " من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عِقالًا فله ما نوى " (٢). ومنه: ما رواه كعب بن مالك ﵁ قال رسول الله ﷺ: "من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله النار" (٣). فهذه كلها وأمثالها كثير، نصوصٌ تنبه على خطورة الِإخلاص واشتراطه

(١) رواه البخاري في المغازي، باب بعث على بن أبي طالب ﵇ وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم (٤٣٥١)، ومسلم في الزكاة -باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الِإسلام وتَصَبُّر من قوى إيمانه (٣/ ١١١)، والِإمام أحمد في " مسنده " (٣/ ٤)، ومع أن الله ﷾ ينظر إلى القلوب، إلا أنه شرع لنا ما يناسبنا، ويقع في مكنتنا؛ وهو التعامل بالظاهر، وفي الحديث: " إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا؛ فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة " متفق عليه. (٢) أخرجه الِإمام أحمد (٥/ ٣٢٩) والنسائي (٦/ ٢٤، ٢٥) في الجهاد: باب من غزا في سبيل الله، ولم ينو من غزاته إلا عقالًا، وفي سنده يحيى بن الوليد حفيد عبادة بن الصامت ﵁، لم يوثقه غير ابن حبان. (٣) أخرجه الترمذي رقم (٢٦٥٦) في العلم، باب فيمن يطلب بعلمه الدنيا، وفي سنده إسحق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التميمي، قال الحافظ في " التقريب ": (ضعيف)، ولذا قال الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسحق بن يحيى بن طلحة ليس بذاك القوي عندهم، تكلم فيه من قبل حفظه) -لكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها- انظر ابن ماجه رقم (٢٥٣) عن ابن عمر ﵄، و(٢٥٤) عن جابر ﵁.

1 / 18

في الأعمال الصالحة، وأن القول بإهدار الأعمال الظاهرة قول ساقط يؤدي إلى ضياع الدين واستحلال المحرمات احتجاجًا بالنية الصالحة المزعومة (١)، وكذبوا، لو حسنت نياتهم لحسنت أعمالهم، وكذلك قوله ﷺ: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب " فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للحرمات واتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباعُ الهوى، وطلبُ ما يحبه -ولو كرهه الله- فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك. والحاصل أنه يمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بمدى ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الِإسلام، فلا يتصور قلب صالح عامر بالعلم والِإيمان ينضح منه معاندة الشرع، إذ إن الظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه أو فساده - فاللحية مثلًا من الجسد الذي هو مرآة القلب فمن استأصلها بغير عذر محتجًّا بصلاح قلبه كذَّبه ظاهرُه، ومن امتثل أوامر

(١) إذ يلزم منه مفاسد لا حصر لها: من استباحة ترك ما فرض الله من وقوف وركوع وسجود في الصلاة، وتوجه إلى القبلة، والتزام بطلوع الفجر للبدء بالصيام، وغياب الشمس لانتهائه، وإذن لاستبيح ترك شعائر الحج من إحرام وهَجْر مَخيط ومصبوغ من الثياب، وطواف بالكعبة، وسعي بين الصفا والمروة، ووقوف بعرفات، إلى غير ذلك من رمي جمار ونحوه، بل لو صح هذا لاضطرب التكليف جملة، ولا يقول بهذا مسلم.

1 / 19

الشرع بإعفائها؛ كانت قرينة ظاهرة في الدنيا على امتثاله لشرع الله في الظاهر، وحسابه على الله في الآخرة. والله نسأل أن يجعل سرائرنا أصلح من ظواهرنا، وهو وحده ولي التوفيق. وأما استدلالهم بقوله ﷺ: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " فهو حق يراد به باطل، بل هو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه ﷺ لم يقل: " ولكن ينظر إلى قلوبكم " حتى عطف عليها " وأعمالكم " يعني التي تنبثق من تلك القلوب، والتي لا بد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله ﷿ مرجوًّا بها وجهُه سبحانه (١). وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (٢).

(١) كما أن الحديث يعني أن المعتبر عند الله ﷿ التقوى، قال جل وعلا: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، والتقوى محلها القلوب، قال ﷺ: " التقوى ههنا " ثلاثًا، وأشار إلى صدره الشريف ﷺ، ويفهم من قوله ﷺ: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم " إهدار اعتبار المظاهر الجوفاء، والصور الجميلة، والثياب الرفيعة عند الله جل وعلا، فهذا يوسف ﵇ يقول: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ ولم يُدِلَّ بحسن صورته، وجمال خلقته، في حين قال سبحانه في المنافقين ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾، وفي صحيح مسلم: " كانوا رجالًا أجملَ شيء، كأنهم خشب مسندة "، فشبههم بخُشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون، ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام، وانظر ص (٤٦ - ٥١). (٢) الأنفال: (٢ - ٤).

1 / 20