وعلى ذلك لم تكن رسائلي بنات أفكار يفتخر بها، بل بنات قلوب يحن إليها الفؤاد، ويحسن وقعها في القلوب لا في الآذان، وكنت أحاول فيها أن أصور شعائر قلبي كما هي فيخونني ضيق اللغة، وقلة ألفاظها، وقصر تراكيبها عن الغاية التي يبلغ إليها الفكر، فأصبح وإياها في نزاع شديد كأنني أحاول غصب المعاني منها فلا تعطي مقادا، ولا يتسع بها لفظ يمثل أنات قلبي وما أنا فيه من حالة الوجد والهيام، فأتضايق منها وأشد على القلم في يدي حتى ينكسر رأسه على القرطاس، فيخرج من كسره الصوت الذي يشبه أنة القلب، وكنت أرجوه في مداده لا في انكساره كضارب الآلة لا يزال يشد وترها يبتغي منه النغم العالي حتى ينقطع في يده، فلا يخرج منه ذلك النغم إلا بانقطاعه، ثم أنهض بعد فراغي من الكتابة وأنا أتصبب عرقا كمن يخرج من قتال عنيف، وقد تركت على صفحات تلك الرسائل آثار دموع ذرفتها هي أفصح لغة وأبلغ بيانا من كل ما كتبت.
أما رسائلها إلي فكانت أطلى من رسائلي كلاما وأسمى عبارة، أو كنت أحسبها كذلك؛ إذ كنت إخال منها أنها أقدر مني على بيان الشعائر وجلاء الوجدانات، حتى كنت إخال عند قراءة كتبها أنها ماثلة لدي وأنني أرى خيال جمالها وأسمع رنة صوتها من خلال السطور؛ لأنها لم تكن تستعمل التراكيب الفصحى، ولا تنتقي الألفاظ انتقاء كما تفعل الكتاب، بل كان كلامها سهلا مرسلا لا يمكن أن يأتي به إلا أمثالها من النساء.
وماذا عساني أصف ما كان فيها من حدة المطالع، ورشاقة الألفاظ، ورقة المعاني، وانسجام العبارات، وامتزاج الشوق بالحنو، واتحاد الحب بالنصح كما يمتزج الماء والنار في الحجر الكريم ويتحد السرور والحياء على جبين العاشقة العذراء؟
الفصل السادس
حلاوة اللقاء
ومرت بي الأيام على تلك الحال حتى دنا ميعاد رحيلي، واقتربت ساعة سعادتي، فأخذت ما كان لي من المال، ووهبتني أمي آخر خاتم بقي لها، وكنت قد نظمت بعض القصائد والمقطعات في خلواتي، ورجوت أن أجد في باريز من يطبعها لي، وأن تروق في أعين بعض الناس، فكتبت إلى صديق لي هناك كنت أراسله بحديث من أهوى ليعد لي مكانا عنده أنزل فيه، ثم رحلت إلى باريز وأنا أقتصد في نفقات الطريق ما يكون لي ذخر أيام كنت أحسبها سعادة أعمار هناك حتى وصلتها مساء، فقابلني صديقي فأرسلته إليها يعلمها بقدومي، ويستأذن لي بزيارتها بعد خروج الناس، وأقمت أنتظره في أحد الأندية وقلبي يخفق خفوقا شديدا لقرب اللقاء.
حتى إذا كانت الساعة الحادية عشرة من الليل أقبل إلي، وأخبرني أنها في انتظاري، فسرت وإياه وأنا أكاد أطير سرورا وابتهاجا حتى بلغنا الباب فتركني وانصرف، وكانت ساعة لا أقدر أن أتصورها فكيف أقدر أن أصف حالتي فيها؟ إذ صعدت فوجدت غصن البان واقفة في انتظاري وهي لابسة ثوبا أسود يزيد في بياضها وجمالها، فدهشت لمرآها كما تندهش العين من نور الشمس، وأقبلت مسرعا وأنا محتبس اللسان حتى سقطت على قدميها، وكانت في حالة لا تفرق عن حالتي من الدهشة والسرور، فجعلت أقبل الأرض بين يديها، ثم أشخص إليها ببصري كأنني أريد أن أتثبت موقفي وأنني لست في حلم، فوضعت إحدى يديها على شعري واستندت بالثانية على كتفي، وسقطت راكعة أمامي وجها لوجه، وأقمنا على ذلك مدة نحاول أن نتكلم فلا نقدر أو لا نجد كلاما يفي ببيان ما نحن فيه، وطال بيننا السكوت ولا لغة إلا لغة العيون توحي نظراتها بعضها إلى بعض ما يخالج قلبينا من بهجة المسرة والاغتباط، ولا أدري كم لبثنا على تلك الحال:
أعانقها والدمع بالدمع واشج
نمازجه والخد بالخد ملصق
سوى أن أقول: إنها أبد الدهر في موقف ساعة، حتى استفقنا لخفق أقدام تصعد السلم فنهضنا، واتخذ كل منا مكانا.
صفحة غير معروفة