فذهبت إلى سائق مركبتها وأعلمته بما عزمت عليه من لحاقها، وسألته أن يخبرني عن المنازل التي يقف فيها والفنادق التي ينزلها؛ لكي أقتفي أثرها ولا تراني، فأجابني إلى كل ما سألت. ثم أركبتها في المركبة وسارت بها وأنا في مركبة على آثارها أنظر إليها سائرة أمامي كما ينظر البخيل إلى ماله يؤخذ منه والسعيد إلى سعادته ترحل عنه، ثم أطبق عيني فأتصور جمالها كأنها واقفة لدي حتى أكاد من الوهم أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، وأحسب أنها جالسة إلى جانبي في حقيقة لا في خيال، وما أدري الآن كيف كنت صابرا عن مرآها كل هذه الرحلة الشاسعة، وكيف لم أتقدم إليها وأركع على قدميها عاشقا عابدا، وأظهر لها أنني أتبعها وأنني لا أقدر على فراقها، ثم ليكن ما يكون.
وما زلنا سائرين نطوي البلاد، أرى مركبتها أمامي وهي لا تراني حتى جاوزنا مدينة أفالون وقد غامت السماء وسقط الثلج واشتد البرد، فنظرت أمامي فرأيت مركبتها قد وقفت في وسط ذلك الطريق المقفر ونزل سائقها عن مكانه وجعل يصيح وينادي، فأقبلت مسرعا وقد استطار فؤادي رعبا فرأيتها بين يدي خادمتها مغشيا عليها من تأثير البرد والتعب، فصعدت إلى المركبة وأسندت رأسها إلى صدري وجعلت أتأمل فيها تأمل العاشق الخائف وأنا إخال أنني أحس الموت والحياة يتنازعان ذلك الجسم الجميل على صدري. وما زلت أنفخ على جبينها ويديها والخادمة تفرك رجليها وأناملها حتى انتشرت الحرارة في أطرافها فتحركت وتنفست نفسا دلني على قرب إفاقتها فألقيت رأسها على وسادة هناك وخرجت مسرعا كيلا تراني، حتى وقفت وراء مركبتها فسمعتها تقول بصوت ضعيف: حبذا لو كان روفائيل هنا فقد ظننت أنه هو.
فتركتها ورجعت إلى مركبتي، وسارت بنا الخيل عدوا، وأنا أسال في كل موقف عن حالها فيقال لي إنها قد تعافت، حتى صرنا على مقربة من باريز، وقد بلغنا مكانا تنفرج فيه الطريق إلى طريقين، وكلتاهما توصلان إليها، فأخذت في الطريق القريبة لأسبقها وأرى وصولها وأتمتع بجمالها وهي داخلة إلى منزلها، فوصلت إلى المدينة قبل الليل، وانطلقت إلى الفندق الذي كنت أنزل فيه فوضعت أمتعتي في إحدى غرفه، وعدت إلى منزل حبيبتي - وقد كنت أعرفه من وصفها لي إياه كأنني قضيت فيه حياتي - فوقفت على جسر تلقاءه، وأقمت أنتظر وصولها وأنظر إلى نوافذ المنزل وأنا أرى الأنوار تتردد من وراء زجاجها كأن من فيه يستعد للقاء ضيف عزيز. ثم أبصرت شبحا قد أقبل إلى إحدى النوافذ وأطل ينظر إلى الطريق، فعرفت أنه زوجها أو أبوها ينتظر وصولها كما أنتظره أنا، وشتان ما القلبان في هذا الانتظار!
وبعد أن مضى على وقوفي ساعة وقد خيم الظلام رأيت مركبة قد أقبلت حتى وقفت أمام المنزل، فأسرعت وكمنت بحيث أرى من فيها فرأيتها قد نزلت على أيدي الخدم، وأقبل الشيخ يعانقها كما يعانق الوالد ولده بعد غياب طول، ثم صعدت السلم وتبعها أهل منزلها ومضت المركبة في طريقها وبقيت وحدي، فعدت إلى مكاني من الجسر ووقفت أنظر إلى النوافذ وأنا أرى الخدم يجولون من ورائها مدة طويلة، ثم انطفأت أنوارهم وسكن المنزل بمن فيه، ولم أعد أرى منه إلا نافذة منارة بنور ضعيف، وبعد قليل رأيت خيالها يرسم على زجاج النافذة كأنه غصن البان في طوله واعتداله، ثم أقبلت ففتحته ونظرت إلى النهر مدة، واستقر نظرها في حيث كنت كأنه انجذب بمغناطيس الغرام من غير أن تدري، ثم التفتت فنظرت إلى نجم في الشمال كنا نراه معا ونتواعد على أن تلتقي أبصارنا وأفكارنا فيه إذا افترقنا، وما أشبه هذا المعنى بما قاله الشاعر العربي:
إلى الطائر النسر انظري كل ليلة
فإني إليه بالعشية ناظر
فشعرت أن نظرتها تلك جذوة نار نزلت في صدري، وحرك ما بي من لواعج الغرام اتفاق أفكارنا وأميالنا ونظراتنا، ووجدت أنني قد زدت بها هياما حين رأيتها تنظر إلى ذلك النجم كأنها تقول لي إنها تفكر بي وتوافيني إلى ذلك الموعد الوهمي، فهممت بأن أثب إليها وأركع تحت نافذتها وأناديها باسمها وأعلمها بوقوفي أمامها ولكنها قفلت النافذة وعادت وانطفأ النور على أثرها. وكان نصف الليل قد قرب فدنوت من الباب فقبلته قبلة خاشع عابد كمن يقبل باب هيكل مقدس، ثم ركعت على عتبته وجعلت أسأل تلك الحجارة والأخشاب والرخام القائم منها المنزل أن تحفظ لي تلك الوديعة الثمينة التي أودعت معها فؤادي وحياتي.
ثم برحت باريز في اليوم التالي من غير أن أرى أحدا من أصحابي الذين أعرفهم فيها وكنت أجد من ذلك سرورا عظيما، وأحمد الله على أنني لم أقابل أحدا سواها في رحلتي حتى تكون زيارتي كلها موقوفة عليها، ومصروفة لها وحدها لا يشاركها فيها أحد. ولكنني قبل رحيلي وضعت لها رقعة في البريد هذا نصها:
لقد تبعتك وكنت حارسا عليك كل الطريق من غير أن تعرفي، ولم أقدر أن أتركك إلا بعد أن رأيتك بين أيدي من يحبونك ويحرصون عليك، ثم لما فتحت النافذة أمس عند منتصف الليل ونظرت إلى النجم كنت واقفا تجاهك أتأملك وأنظر إليك، ولقد كدت أتقدم وأسمعك صوتي لو لم تسرعي بقفل النافذة، أما الآن فأنت تقرئين هذا الأسطر وأنا قد برحت باريز وأصبحت بعيدا عنها وعنك.
وكنت أسير الليل والنهار وأنا في حالة من الارتباك والاضطراب لا أقوى على وصفها جعلتني لا أشعر ببرد ولا جوع ولا تعب حتى وصلت إلى قرية «م»، لا أذكر شيئا مما مر علي، ولا أكاد أتذكر أنني رحلت إلى باريز إلا كمن يتذكر حلما أو كمن هب منتاشا من لج عميق، فوجدت صديقي لويس ينتظرني في البيت الصغير الذي كان مصيف أبي كما تقدم لي منه الوعد، وشعرت من وجوده معي بتعزية وسلوى عن بعض مصابي؛ لأنني كنت أقدر أن أحدثه عمن أحب، وكان يقدر أن يساعدني على ترديد اسمها وذكراها، فأخذنا ننام في غرفة واحدة، ونقطع أكثر ليالينا بحديثها والكلام عنها حتى خلت أنه لا يقل عني حبا لها وإعجابا بمحاسنها وآدابها، ووجدت أنه كان يعتبرها أشبه بمثال الوهم وطيف الخيال، ويرى أنها امرأة فوق طبائع النساء وأعظم مدارك ومقاما من سائر طبقات الناس؛ أي شاعرة عاشقة فاضلة أبدعها الله صورة كاملة تجوز الأرض طائرة لا تمسها بقدميها، ولا تقف على مكان منها إلا ريثما تدهش الأبصار وتجتذب القلوب وتميل بالنفوس إلى التأمل الدائم والتفكير المستمر والنظر المستطيل، وتكون آخر ما يبلغ إليه مدى التصور ونهاية ما يقف عنده مدى الأفهام والأوهام.
صفحة غير معروفة