الغنية في أصول الدين
صفحة ١
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآله الحمد لله رب العالمين حمدا يزيد ولا يبيد وصلواته على خير خلقه محمد صلاة تنفع مصليها عليه وتفيد ورأفة على أصحابه وأهل بيته رأفة تبدي الرحمة عليهم وتعيد
اعلم وفقك الله للرشاد وهداك إلى الحق والسداد اني لما رأيت ظهور البدع والضلالات وكثرة اختلاف المقالات أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى ذكره وجلت قدرته بإظهار الحق من بين المقالات المختلفة وكشف تمويه الملحدة والمشبهة متحريا بذلك جزيل الثواب ومستغنيا به على إيمانه وقدمت عليه فصولا لا بد من معرفتها وآثرت في ذلك التخفيف واجتنبت التطويل وإلى الله أرغب في أن يوفقني للصواب ولا يحرمني في ما أجمعه جزيل الثواب وبه أستعين إنه خير موفق معين
فصل في بيان العبارات المصطلح عليها بين أهل الأصول
منها العالم هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى وينقسم قسمين جواهر وأعراض
صفحة ٤٩
فالجوهر كل ذي حجم متحيز والحيز تقدير المكان ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو
وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان
والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجرئة عقلا ولا تقدير تجزئة وهما
وأما الجسم فهو المؤلف وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف
والأكوان اسم للاجتماع والافتراق والحركة والسكون
فصل في حد العلم
حقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو به
وقالت المعتزلة حقيقة العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس الواقع عن ضرورة أو نظر وقصدوا بذلك نفي علم الباري تعالى
وهذا الحد باطل فإن الله تعالى ليس له نظير ولا زوجة ولا ولد فإن هذه علوم وليست باعتقاد أشياء لأن الشيء عندنا الموجود وعندهم المعدوم الذي يصح وجوده
صفحة ٥٠
أما الجهل اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو به
والشك تردد بين معتقدين من غير ترجيح
والظن أن يترجح أحد المعتقدين على الآخر
والعلم ينقسم إلى قديم وحادث
فالقديم علم الله تعالى وليس بضروري ولا كسبي
والحادث على ثلاثة أقسام ضروري وبديهي وكسبي
فالضروري هو العلم الحادث الذي يلزم ذات العالم لزوما لا انفكاك له منه وليس للشك إليه سبيل وذلك مثل العلم الحاصل عن إدراك الحواس وعلم الإنسان بنفسه وما يلحقه من الألم واللذة وغيرها
وأما البديهي فيقرب من الضروري وهو علم الإنسان باستحالة اجتماع المتضادين مثل الحركة والسكون والسواد والبياض واستحالة كون الموجود الواحد في الوقت الواحد في مكانين ونحو ذلك
وأما الكسبي فالعلم الحاصل عن نظر واستدلال ومن حكمة جواز طريان الشك والإبطال عليه
صفحة ٥١
وأما العقل فهو العلم والدليل عليه أنه لا يحسن أن يقول الرجل علمت وما عقلت أو عقلت وما علمت إلا أنه اسم لنوع من العلم وهو البديهي دون الضروري والكسبي لأن أصل العلوم الضرورية الحواس
ومن الجائز أن يكون الموجود عاقلا ولا حاسة له والكسبي يحصل عن نظر والعقل يسبق النظر
وأما الدليل فهو المرشد إلى المقصود وينقسم ذلك إلى عقلي وسمعي
فالعقلي مثل دلالة الصنع على الصانع
والسمعي خبر الصادق مثل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما النظر فهو فكر القلب والتأمل في حال المنظور لطلب حقيقة العلم أو غلبة ظن
والنظر صحيح عندنا ويحصل به العلم
وأنكرت طائفة من الدهرية صحة النظر وقالوا لا معلوم إلا من جهة الحواس وتطرقوا بذلك إلى نفي الصانع
والدليل عليه بطلان قولهم أن نقول لهم عرفتم فساد النظر أو تشكون فيه فإن قالوا نقطع ببطلانه فقد أبطلوا قولهم لا معلوم إلا من جهة الحواس لأن فساد النظر لا يعرف حسا
صفحة ٥٢
وإن قالوا الشك في كون النظر طريقا إلى العلم دعوناهم إلى النظر في الدليل فإن نظروا في الدليل واعترفوا بحصول العلم فقد أقروا ببطلان مذهبهم وإن أنكروا حصول العلم فقد قطعوا بأن النظر ليس بطريق إلى العلم وفيه إثبات علم حاصل لا بالحواس
ومن الدليل على بطلان قولهم أن نقول لهم علمتم فساد النظر ضرورة أو بالنظر فإن قالوا ضرورة عكسنا عليهم قلنا نحن علمنا بطلان مذهبكم ضرورة إذ ليس أحد الخصمين بدعوى ضرورة ينفرد بها بأولى من الآخر
وإن قالوا عرفنا بطلانه نظرا فقد أقروا بكون النظر طريقا إلى العلم فإنهم عرفوا بالنظر فساد النظر
فإن قيل يلزمكم مثل ذلك فإنكم جعلتم النظر طريقا إلى العلم فعرفتم ذلك ضرورة أو نظرا فإن قلتم عرفناه ضرورة ادعينا نحن بطلانه ضرورة وإن قلتم عرفنا نظرا فكيف يعرف الشيء بنفسه
قلنا عن سؤالكم يلزمكم لأنه نوع من النظر فإن لم يكن مفيدا فهو لغو وإن كان مفيدا للعلم ببطلان النظر ففيه إقرار بأن النظر يفيد العلم
صفحة ٥٣
ثم جوابنا عنه أنا نصحح النظر بنوع من النظر داخل في جملة النظر فصحح نفسه وغيره كالعلم يعلم به المعلومات ويعلم بالعلم نفس العلم وفي كتاب الله تعالى آيات كثيرة وتدل على أن النظر طريق إلى العلم مثل قوله تعالى
ﵟأفلا ينظرونﵞ
ﵟأو لم يتفكرواﵞ
وقوله تعالى
ﵟواعبدواﵞ
وذلك أكثر من أن يحصى
فصل
النظر ينقسم إلى صحيح وفاسد
فالصحيح ما يؤدي إلى المقصود والفاسد ما لا يؤدي إلى المقصود
وفساده بطريقة أحدهما بأن يعدل من الدليل إلى الشبهة والثاني بأن يطرأ على الدليل قاطع فيمتنع تمام النظر
فصل
لا واجب عند أهل الحق إلا من جهة الشرع والسمع ولولا ورود الرسل لما وجب على العباد شيء والعقل طريق المعرفة
وذهبت المعتزلة إلى أن العقل موجب حتى لو قدرنا أن الله تعالى لم يبعث إلينا الرسل كان يجب علينا أن نعرف الله ونشكره
والدليل على أنه لا واجب إلا من جهة الشرع قوله تعالى
ﵟوما كنا معذبين حتى نبعث رسولاﵞ
وقوله تعالى
ﵟوما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاﵞ
وقوله تعالى
ﵟرسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسلﵞ
وسنذكر المسألة على الاستقصاء
صفحة ٥٤
فإن قال قائل إذا نفيتم وجوب الأشياء عقلا وعولتم في وجوبها على السمع كان فيه إبطال النبوات وذلك لأن أول رسول يرد من الله تعالى ويدعو الخلق إليه لا يعلم صدقه إلا بالنظر في معجزته فلا يجب النظر إلا بدليل سمعي وقبل ورود الرسل لم يثبت الشرع ليلزم النظر بحكم ذلك الشرع قال يلزمهم النظر في المعجزة وفيه إبطال النبوات
قلنا عن هذا السؤال يتوجه على من يقول بالوجوب عقلا فإن الطريق عندهم أن العاقل يخطر بقلبه أن له صانعا قد خلقه وأنعم عليه وأراد شكره على ما أنعم عليه ومن لم يخطر له هذا الخاطر وتغافل فليس يعلم وجوب النظر في المعجزة ولا وجوب معرفة الصانع وعندهم معرفة الله والنظر في المعجزة واجب عليه
ثم جوابنا عنه أن نقول لهم ليس من شرط الوجوب عندنا شرع مستقر قبل ورود الرسل ولكن الشرط ورود الرسل وظهور الدلالة في الظاهر وتمكن المخاطب من النظر فيه وإذا وجد ذلك وجب النظر في المعجزة فلم يتضمن قولنا إبطال النبوات
فصل
أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وإثبات العلم بالصانع
صفحة ٥٥
والدليل عليه إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى وعلمنا عقلا أنه لا يعلم حدوث العالم ولا الصانع إلا بالنظر والتأمل وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب
مسالة
العالم محدث مخلوق بعد أن لم يكن
وذهبت الدهرية إلى أن العالم قديم وليس له أول ولم يزل كان هكذا ولا يزال يكون هكذا رجل من نطفة ونطفة من رجل وحبة من نبات ونبات من حب ودجاجة من بيضة وبيضة من دجاجة وليل بعد نهار ونهار بعد ليل
والكلام في هذه المسالة على طريقين إثبات أصول ومقدمات إذا صحت وثبتت ثبت حدوث العالم
والثاني يدل على بطلان مذهبهم واستحالة قولهم
أما الطريق الأول فيعتمد على ثلاثة أصول الأصل الأول يدل على إثبات الأعراض وهي المعاني القائمة بالجواهر
وأنكرت طائفة من الملحدة الأعراض بالكلية وقالوا لا موجود إلا الجواهر
والدليل على ثبوت الأعراض انا نرى الجوهر ساكنا فيتحرك ويزول عن جهته التي كان فيها إلى غيرها مع جواز أن لا يتحرك ويبقى في جهته فإذا كان من الجائز أن لا يتحرك فإذا اختص بالحركة بدلا عن استمرار السكون لا بد له من موجب أوجب زواله عن محله
صفحة ٥٦
ثم الموجب لا يخلو إما أن يكون نفسه وهو محال لأن نفسه كان موجودا قبل ذلك الوقت وبعده والحركة غير موجودة فثبت أن الموجب أمر زائد عليه
فإذا ثبت أنه يقتضي معنى زائدا عليه فلا بد وأن يكون ذلك المعنى ثانيا موجودا لأن العدم نفي محض والنفي لا يجوز أن يكون موجبا حكما
فإذا ثبت أن الزائد على الجوهر موجود فلا يخلو إما أن يكون مثل الجوهر أو خلافه ولا يجوز أن يكون مثله لأن مثل الجوهر جوهر آخر فليس أحد الجوهرين بإيجاب حركة في الآخر بأولى من أن يكون الجوهر الآخر موجبا غير تلك الحركة فيه
فإذا ثبت أنه خلافه فلا يخلو إما أن يكون فاعلا مختارا أو معنى قائما به هو الموجب
ولا يجوز أن يكون ذلك الخلاف فاعلا مختارا لأن الكلام في جوهر موجود والموجود لا يفعل بل يستغني بوجوده عن الفاعل فثبت أنه معنى زائد عليه قائم به وهو ما ذكرناه من الأعراض
صفحة ٥٧
الأصل الثاني يدل على أن ما أثبتناه من الأعراض حادثة والدليل عليه أن الجوهر الساكن إذا تحرك فقد طرت عليه الحركة ودل طريانها على انتفاء السكون عنه وانتفاء السكون دليل حدوثه لأن القديم يستحيل عدمه
فإن قيل ولم أنكرتم على من يقول أن الحركة ما حدثت والسكون ما انتفى ولكن الحركة كانت كامنة فظهرت والسكون كان ظاهرا فكمن وتستر
قلنا لو كان كذلك لاجتمع الحركة والسكون في المحل وقد علمنا استحالة كون الشيء الواحد متحركا ساكنا فكذلك يستحيل اجتماع الحركة والسكون فإن قيل ولم قلتم أن القديم يستحيل عدمه
قلنا الدليل على استحالة عدمه أنه لو جاز عدمه لكان لا يخلو اما أن يقال عدمه حالة ما يعدم واجب حتى يستحيل عليه البقاء على تلك الحال أي حالة الوجود أو يقال عدمه في تلك الحالة من الجائزات ويجوز أن يستمر وجوده في تلك الحالة أي حالة الوجود بدلا عن العدم ولا يجوز أن يكون العدم في تلك الحالة واجبا حتى لا يجوز استمرار الوجود لأنا نجوز بقاء الحركة في المتحرك حالة ما سكن ولو كان عدم الحركة واجبا لاستحال تقدير بقائها في تلك الحالة وإن كان عدمه جائزا واستمرار الوجود جائزا فمحال لأنه إذا جاز بقاؤه وجاز عدمه فلا يختص بأحد الجائزين إلا بمخصص يقصد إلى التقديم لأجل الجائزين على الآخر وهم أنكروا الصانع والمخصص
صفحة ٥٨
فإن قيل ولم لا يجوز أن يكون عدمه لضد يطرأ عليه فيبطله
قلنا هذا محال لأن الطارئ كما يضاد القديم فالقديم يضاد الطارئ أيضا فلم كان إبطال القديم بالضد الطارئ أولى من امتناع ثبوت الطارئ بمضادة القديم له
فإن قيل ولم لا يجوز أن تكون الحركة قد انتقلت من جوهر آخر إليه
قلنا الحركة هو الانتقال ولو افتقر الانتقال إلى انتقال آخر لافتقر ذلك الانتقال إلى انتقال آخر ثم لا يزال كذلك فيتسلسل وذلك محال
الأصل الثالث أن عند أهل الحق يستحيل خلو الجواهر عن الأعراض
بيانه أنه لا يجوز أن يكون جوهر لا يكون له لون أصلا ولا يكون له طعم أصلا ولا يكون ساكنا ولا متحركا وكذلك لا يجوز أن يكون جواهر لا متصلة مجتمعة ولا متباينة متفرقة
وذهبت جماعة من الملحدة إلى جواز خلو الجواهر عن جميع الأعراض وجوز الكعبي من المعتزلة تعرى الجواهر عن الأكوان وهو الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ولم يجز تعريها مما سواه من الأعراض
صفحة ٥٩
وأما معتزلة البصرة جوزوا تعريها من الأكوان وسائر الأعراض غير الأكوان إلا أن جملة المعتزلة وافقونا على أن الجوهر بعدما اتصف بالأعراض يستحيل خلوه عنها وإنما جوزوا ذلك في ابتداء الحدوث
فأما إذا أردنا الكلام مع الملحدة نفرض في الأكوان فنقول الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق غير مجتمعة ولا متباينة لا يعقل
وأيضا فإنهم جوزوا الاجتماع والافتراق فيما لا يزال ولا يعقل اجتماع موجودين إلا عن افتراق سابق ولا افتراق موجودين إلا عن اجتماع سابق
وأما الرد على المعتزلة فيستدل على الكعبي بالألوان وسائر الأعراض فنقول
لو جاز تعري الجوهر عن الأكوان لجاز عن الألوان
ويستدل على معتزلة البصرة بالأكوان فنقول لما لم يجز تعري الجواهر عن الأكوان لا يجوز عن الألوان
ويستدل على الفريقين بمناقضتهم حيث قالوا بعد قبوله للأعراض لا يجوز خلوه عن الأعراض فنقول كل عرض اتصف به المحل لا ينتفي إلا عند طريان ضده ولا يزول البياض إلا عند طريان السواد ولا الحركة إلا عند طريان السكون
والضد إنما يطرى على زعمهم بعد انتقال لعرض الموجود الذي كان في المحل
فإذا زال العرض فهلا جاز أن لا يدخل فيه الضد لو كان تعرية جائزا في الابتداء ولما استحال ذلك في الإنتهاء فكذلك في الابتداء
صفحة ٦٠
فإذا تقررت هذه الأصول ثبت حدوث العالم لأن الأعراض حادثة والجواهر لا تخلوا من الأعراض
وإذا لم يتصور خلو الجواهر من الأعراض وما لا يسبق الحادث فهو حادث
صفحة ٦١
الطريقة الثانية تدل على استحالة حوادث لا أول لها فنقول للدهرية من أصلكم أن لا نبات إلا من حب ولا حب إلا من نبات وقد وجد أعدادا لا نهاية لها وانقضت وظهر لها أعداد أخر وهو ما نشاهده في الوقت وحوادث لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها كلها حاصلة في الوجود لا يعقل انقضاؤها وتناهيها لأن ما لا نهاية له كيف ينقضي ويفنى ولما ظهر آخر الحوادث والأعداد ثبت انه كان له ابتداء حتى ظهر له انتهاء
صفحة ٦٢
فإن قيل أليس من قولكم أن نعيم أهل الجنة لا آخر له ولها ابتداء وعقوبة أهل النار لا آخر لها ولها ابتداء فإذا جاز حصول حوادث لا آخر لها ولها ابتداء فلم لا يجوز حصول حوادث لا أول لها ولها آخر
قلنا هذا الكلام ساقط لأن نعيم أهل الجنة وعقوبة أهل النار معلوم الابتداء والانتهاء في كل وقت وأما الذي لا يتناهى ولا يحصى ما هو مقدور الله تعالى من النعمة والعقوبة فالله تعالى يجدد كل وقت لأهل الجنة نعمة ولأهل النار عقوبة ومقدوراته لا نهاية لها فما يثبته غير متناهي لم يحصل في الوجود وأنتم أثبتم أعدادا كلها حصلت في الوجود وانتهت وانتهاء أعداد موجودة لا نهاية لها مستحيل
صفحة ٦٣
ويستشهد على هذه الجملة بصورة يتضح الغرض بها وذلك أن يقول الرجل لولده لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبلة دينارا ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبلة درهما فلا يتصور العطاء بحكم الشرط أن يعطيه لا دينارا ولا درهما لأن الولد متى طالبه بالدرهم يقول حتى أعطيك دينارا وإذا طالبه بالدينار يقول حتى أعطيك درهما فهذا نظير ما جوزوه فإن النبات عن الحب والحب عن النبات ولاحب إلا وقبله نبات ولا نبات إلا وقبله حب وقد حصل الجميع وانقضى
ومثال ما جوزنا أن يقول الرجل لولده لا أعطيك دينارا إلا بعده أعطيك درهما ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا فيعطيه من الدراهم والدنانير ما يزيد ولا يمتنع العطاء بحكم الشرط فظهر فساد قولهم
ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعالى قال الله تعالى
ﵟوقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاﵞ
وقال الله تعالى
ﵟقل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهارﵞ
مسألة
صفحة ٦٤
إذا ثبت حدوث العالم ترتب عليه ثبوت الصانع والدليل على أن للعالم صانعا أنه لا موجود في وقت من الأوقات إلا ومن الجائز حدوثه وظهوره قبل ذلك الوقت ومن الجائز حدوثه وظهوره بعد ذلك الوقت بزمان فإذا اختص في ذلك الوقت بالوجود بدلا عن استمرار العدم اقتضى مخصصا اختار الوجود في تلك الحالة
وإذا ثبت أنه يقتضي مخصصا فلا يجوز أن يكون المقتضي علة أوجب وجوده في تلك الحالة كما توجب الحركة كون المحل متحركا والسواد كون المحل اسودا لأن العلة توجب الحكم مقارنا لها لا تتقدمها ولا تتأخر عنها
فإذا كان حكم العلة يقارن العلة فالعلة لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة فإن كانت قديمة أوجبت قدم العالم وقد دللنا على حدوثه وإن كانت العلة حادثة أيضا تفتقر إلى مخصوص ومقتضي
ثم للكلام في علة العلة مثل ذلك والقول بهذا يؤدي إلى التسلسل
صفحة ٦٥
ولا يجوز أن يكون المخصص والمقتضي طبيعة لأن على قول من يثبت الطبيعة يظهر تأثير الطبيعة عند ارتفاع المواقع من غير تأخير وإذا كان تأثير الطبيعة لا يتأخر فالطبيعة إن كانت قديمة أوجبت قدم العالم وإذا كانت حادثة اقتضت مخصصا موجودا وإذا بطل ذلك ثبت أن المخصص فاعل مختار أراد الوجود بدل عن العدم
ومن الدليل على إثبات الصانع أنه لا يتصور في العقول بناء بلا بان وكتابة بلا كاتب فكيف يتصور خلق بلا خالق
ويتضح ذلك بآيات من كتاب الله تعال قال الله تعالى
ﵟأفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقتﵞ
وقوله
ﵟوالله خلقكم وما تعملونﵞ
وغير ذلك من الآيات
مسألة
إذا ثبت أن للعالم صانعا فالصانع واحد ووصفنا البارئ تعالى بأنه واحد له معنيان أحدهما أن ذاته غير منقسم على معنى أنه ليس له أجزاء وأبعاض بل هو واحد على التحقيق
والمعنى الثاني أنه لا نظير له ولا مثل له وكلا المعنيين حقيقة
صفحة ٦٦
والدليل على استحالة إثبات الأجزاء والأبعاض أنه إن كان له أجزاء لم يخل أما أن يكون كل جزء منه حيا عالما قادرا أو كان بعض الأجزاء مختصا بالحياة والعلم والقدرة فإن كان كل جزء منه حيا عالما قادرا كان في ذلك إثبات آلهة ويستدل على بطلانه وإن كانت الحياة والقدرة والعلم في جزء مخصوص لم يكن الجزء الثاني حيا عالما قادرا لاستحالة وجود العلة في محل وثبوت حكمها في محل آخر كما يستحيل وجود سواد في بعض أجزاء الثوب ويكون الباقي من الثوب أسود وإذا ثبت أن الجزء الثاني لا يكون حيا عالما قادرا لم يكن مستحقا لصفات الإلهية لم يكن إلها ويتضح ذلك بقوله
ﵟوإلهكم إله واحدﵞ
وأما الدليل على أنه لا مثل له ولا نظير له أنا لو قدرنا إلهين اثنين وقدرنا أن أحدهما أراد تحريك جسم وأراد الثاني تسكينه لم يخل عن ثلاثة أحوال إما أن يحصل مرادهما أو لا يحصل مرادهما أو يحصل مراد أحدهما دون الثاني ولا جائز أن يحصل مرادهما جميعا لاستحالة أن يكون الجسم الواحد في الحالة الواحدة متحركا ساكنا وإذا لم يحصل مراد واحد منهما كانا جميعا عاجزين لا يصلحان للإلهية
وأيضا فإنه يؤدي إلى خلق الجسم القابل للحركة والسكون عن الأمرين جميعا وإن حصل مراد أحدهما دون الآخر فهو الإله والثاني عاجز لا يصلح للإلهية وهذا معنى قوله تعالى
ﵟلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتاﵞ
والمعنى أدى إلى التناقض والاختلاف وأن لا يجري الأمر على النظام
فإن قال قائل رتبتم هذه الدلالة على اختلاف القديمين في الإرادة وبم أنكرتم على من يثبت إلهين قديمين لا مختلفان ولا يريد أحدهما إلا ما يريد الثاني
صفحة ٦٧