وقد دافع عن الغزالي فريق من أنصاره وأتباعه دفاعا قويا، فوضع السيد مرتضى كتابه «إتحاف السادة» فند فيه جميع تلك التهم تفنيدا لا يخلو من إسراف في الدفاع عن الغزالي، وتبرئته من كل خطأ.
ولا يسعنا إلا أن نكرر أن الغزالي كان يخطئ ويصيب، والشخصية الإنسانية الكاملة هي التي تخطئ وتصيب، وتلك الهنات لا تعد شيئا بجوار ما أسدى الغزالي إلى العالم الإسلامي، وإلى الفكر الإسلامي، من تراث انتفعت به الأجيال والقرون انتفاعا هداها إلى خير ورشاد وعبادة وإيمان أكثر مما هداها خصومه وحساده، بل أكثر مما هداها أي قلم آخر من الأقلام التي شرعت للهدى والإيمان.
خصومه المعاصرين
ذلك لون من ألوان خصومة القدامى للغزالي، وقد امتدت تلك الخصومة على التاريخ، ولبست ألوانا مختلفة، حتى أسلمتها الأحقاب إلى عصرنا.
فرأينا خصوما جددا فيهم عنف ولدد، أخذوا يحاكمون الغزالي إلى مبادئ العصر الحاضر ونظمه ومعارفه، وشرعوا يحكمون على روحانيته بماديتهم، فما أنصفوا أنفسهم وما أنصفوا الغزالي معهم!
قالوا عنه: إنه رجل يحمل أكفانه على عاتقه، ولا ينفك لسانه عن الدمدمة بالعقاب والحساب، والجنة والنار، والعبادة والفناء، وليس هذا من مذاهب الحياة المثلى، ولا من طرائق المجد للإنسانية التي تبغي قوة وبأسا.
وقالوا: إن الغزالي مزج الدين بالآخرة، فحشد في كلماته أنفاس الجحيم؛ ليسوق الناس بالرعب والخوف، وجمع في قلمه هبات الجنة ليدفع بالبشرية إلى الطاعة بالرغبة والتشويق، وليس في هذا فوز كبير للأخلاق، ولا فوز كبير للدين؛ لأنه مسلك بعيد كل البعد عن الإقناع العلمي والبرهان المنطقي.
وقالوا فيما قالوا أيضا: إن الغزالي أجهل الناس بقواعد العلم وفلسفة الحكماء؛ لأن العلم عنده طاعة وعبادة، فمن خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل، وبهذا أخرج الغزالي من صفوف العلماء والحكماء أئمة الفكر والابتكار والاختراع.
وليس في هذا ما يضير الغزالي أو يمس مكانته، فقد قرأ هؤلاء النقاد كتب الغزالي كما تقرأ الكتب الحديثة، فنقدوها كما تنقد المؤلفات العصرية، ووزنوها بموازين المكتشفات العلمية الجديدة دون أن يلتفتوا إلى القرون التي تفصل بيننا وبين الغزالي، ودون أن يقارنوا بين روح عصره وطابع عصرنا، بل لعل الخطأ الأكبر أنهم نقدوه بروح العلم المادي، وهو يحمل بيمناه قلم الدين الروحي.
وما أصدق قول الغزالي في الدلالة على هذا المعنى: «مهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم، فلا ينفرك جحودهم عن قبوله؛ إذ محال أن يظفر سالك طريق الشرق بما في الغرب.»
صفحة غير معروفة