وجاء الغزالي وطبول الحرب تدوي باسم الدين، وحماية الجماهير من لوثة الوثنية والتضليل والتشكيك العقلي.
جاء والنزاع بين الفلسفة والدين هو موضوع الساعة، كما هو موضوع الساعة أبدا في كل العصور والدهور؛ فمشكلة العقل والدين مشكلة خالدة، ما دام هناك فكر يسبح ووحي يتبع.
وكان لا بد للغزالي من خوض المعركة؛ فقد اجتمعت في يديه أسلحة لم تجتمع لغيره، ولقلمه جولات يترقبها جيله ويرمقها بالإجلال والإكبار، وهو رجل قتال وكفاح، يلبي الصيحة ويحمي حماه.
أرسل الغزالي صيحة لا تعرف المجاملة ولا اللين، ففض في صراحة وعنف النزاع بين العقل والعاطفة، والوحي والفلسفة.
وأحدثت تلك الصيحة دويا، فهي صيحة جديدة النغم ساحرة اللحن قوية اليقين، فقد كان الغزالي هو المفكر الأول والوحيد الذي لم يكتف مثل علماء الكلام باقتباس عدة مباحث متفرقة للفلاسفة ثم نقضها؛ بل قام لهدم البناء كله، ذلك البناء الذي أنشأه الإغريق وهذبه الفلاسفة المسلمون.
ولم يكن الغزالي هادما فحسب، بل أقام من أنقاض البناء الفلسفي الذي هدمه على رءوس أصحابه صروحا من الفلسفة الأخلاقية الدينية، لا يزال يعمرها المسلمون إلى اليوم.
والغزالي لم ينكر الجانب العقلي والرياضي من الفلسفة، بل اعترف بهما وتركهما للموازين العقلية، وإنما حطم جانب ما وراء الطبيعة، وحطم معه الفلاسفة بتهم المروق والزندقة.
والغزالي بعد ذلك - كما يقول العلامة ماكدولاند - أول من أدنى الفلسفة وقرب بحوثها الدينية أو الإلهيات من متناول الذهن العادي وتعاطي الناس عامة لها، وكانت من قبله محفوفة بالأسرار مكتنفة بالغموض والرهبة، كأنها علم لاهوتي لا يدركه غير أصحابه والراسخين فيه؛ لما كان لاصطلاحاتها من الغرابة على الأذهان، حتى لتقتضي معرفتها الدرس المجهد، والاستظهار الشاق، وكان من الصعب تفهمها ودراستها، فقد انتقلت النظريات والمذاهب والأفكار اليونانية بأكثر مصطلحاتها وتعبيراتها إلى السريانية أولا ثم إلى العربية، وأوجب هذا الانتقال تصحيفا وتحريفا عند التعريب، وكان لا بد من طول دراسة وتقص متواصل قبل معرفة مصطلحات الجدل والإلمام بعلم المناظرة.
فلما جاء الغزالي مزق الحب وأطلق النور في الظلمات، فإن كتابه «تهافت الفلاسفة» لم يكتب لطلاب الفلسفة، وإنما كتب للجماهير كافة، وقربت مناهله وموارده لسائر الوراد والقاصدين، وهذا ما أغضب ابن رشد؛ فاتهم الغزالي بأنه أباح العلم للعامة وأفقده أرستقراطيته.
والحق أن الغزالي كان له فضل إنزال الفلسفة من عليائها؛ فقد جعل أسرارها علما واضحا لكل قارئ، وتلك قوة لم تعرف في عالم الفكر إلا للغزالي، وقد ألف كتابه «مقاصد الفلاسفة» لهذا الغرض، وأوضح غايته في مقدمته بقوله:
صفحة غير معروفة