الأمر الثاني: أن جملة من أخبار الصحاح مشتملة على أمور عظيمة، كتجسيم الله سبجانه، وإثبات المكان والانتقال والتغيير له، وكعروض العوارض عليه من الضحك ونحوه، إلى غير ذلك مما يوجب الإمكان، حتى رووا أن الله سبحانه يدخل رجله في نار جهنم فينزوي بعضها لبعض، وتقول: قط قط، ومشتملة على وهن رسل الله ورسالاتهم، حتى أنهم صيروا سيد النبيين جاهلا في أول البعثة بأنه رسول مبعوث، فعلمه النصراني وزوجته خديجة أنه رسول الله، ومشتملة على ما يوجب كذب آي من القرآن وعلى المناكير والخرافات.
الأمر الثالث: أن أكثر رواتهم مدلسون في رواياتهم، ملبسون فيها، ومظهرون خلاف الواقع، كما لو كانت الرواية عن شخص مقبول بواسطة شخص غير مرضي، فيتركون الواسطة ويروونها عن المقبول ابتداء، أو يروونها عن ضعيف ويأتون باللفظ المشترك بين الضعيف والثقة، ليوهم الراوي على القارئ أن المراد الثقة، لأنه يظهر أنه لا يروي إلا عن ثقة، إلى غير ذلك من أنواع التدليس، ولا يكاد يسلم أحد من رواتهم عنه، قال شعبة: ما رأيت من لا يدلس من أصحاب الحديث إلا عمرو بن مرة: وابن عون. كما نقله عنه في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب بترجمة عمرو بن مرة: الجملي، ويكفيك أن البخاري ومسلما كانا من المدلسين.
قال الذهبي في الميزان بترجمة عبد الله بن صالح بن محمد الجهني المصري: روى عنه البخاري في الصحيح ولكنه يدلسه، فيقول: حدثني عبد الله ولا ينسبه. وبمعناه في تهذيب التهذيب بترجمة عبد الله أيضا. وقد كان البخاري يدلس أيضا في صحيحه محمد بن سعيد المصلوب الكذاب الشهير، لكن الذهبي حمله على الخطأ، قال بترجمة ابن سعيد: أخرجه البخاري في مواضع وظنه جماعة. وهو حمل بعيد، ولو سلم فهو يقتضي عيبا آخر في صحيح البخاري، وسيأتي ذكر هذين الرجلين في الأسماء.
ونقل ابن حجر عن ابن مندة: أنه قال في كلام له: أخرج البخاري قال فلان وقال لنا فلان، وهو تدليس، ثم قال ابن حجر: الذي يظهر لي أنه يقول فيما لم يسمع قال وفيما سمع، لكن لا يكون على شرطه أو موقوفا قال لي أو قال لنا، وقد عرفت ذلك بالاستقراء من صنيعه.
ونقل ابن حجر أيضا عن ابن مندة: أنه قال في حق مسلم: كان يقول فيما لم يسمعه من مشائخه قال: لنا فلان وهو تدليس.
صفحة ١٨