هذا الكتاب ثلاثة أجزاء، يعالج الجزء الأول منه الأحوال العامة في الهند مع إشارات تاريخية موجزة. أما الثاني فيعالج سياسة غاندي وفلسفته. وفي الجزء الثالث نقلنا بعض مقالات كتبها غاندي ونشرت في المجلات الهندية.
ونحن في جهادنا للمبادئ الإمبراطورية البريطانية نشبه الهنود، وإن كانت أقدام الإنجليز في الهند أرسخ وتاريخهم أطول. ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا. فإن زعماءهم كثيرا ما ذكروا الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر ودعوا أبناء أمتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند. وبالطبع يجب أن تختلف الأساليب في الكفاح وتتأثر بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية ، ولكن هذا الاختلاف يسوده اتفاق بيننا وبين الهند في الغاية والمبادئ العامة.
وهذا الكتاب هو درس موجز للحركة الوطنية الهندية من ناحية غاندي، ولكن الحركة الوطنية الهندية أكبر من غاندي وإن كان هو أنضج ثمراتها وأبرز رجالها وأقربهم إلى قلوب الهنود.
وإني أكتب هذه الكلمات في الوقت الذي تقول فيه الأنباء التلغرافية إن غاندي يدعو إلى الكف عن العصيان المدني. ومن الناس من يفسر هذا الخبر بأن الزعيم الهندي قد أثبت على نفسه الفشل في الخطط التي اختارها وحض الناس على اتخاذها. ولكن هذا الخبر إن دل على شيء فهو يدل بلا شك على مرونة الذهن وكراهة الجمود. فإن غاندي لا يختط الخطط لكي يعبدها بل لكي يستخدمها، وهو يسارع إلى نبذها إذا تبين له فشلها. وسواء أنالت الهند استقلالها بما ابتكر لها غاندي أو بما أوحى إليها من الخطط والأساليب، فإن الذي لا يشك فيه إنسان أنه قد طبع الهند بطابعه وأثر في العالم أثرا لن يزول.
وقد التفت إلى النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية خاصة في حركة غاندي، وهي نواح لا نرى لها للأسف غير الأثر الضعيف في نهضتنا المصرية السياسية. وما زلت أرى أن كفاحنا للإنجليز يجب ألا يقتصر على السياسة وأن النهضة السياسية يجب أن تغذيها نهضات اجتماعية واقتصادية لكي نصل منها إلى التنبيه العام للأمة: للمرأة في بيتها، والفلاح في قريته، والصانع في مصنعه. بل يجب أن تكون لنهضتنا فلسفة كما هي الحال في النهضة الهندية أو التركية.
لقد أحدث غاندي نهضة بين نساء الهند اللائي دعاهن إلى السفور والمغزل، كما أنه كافح تقاليد بلاده التي تهين خمسين مليونا من الهنود وتعدهم منبوذين، ولم يبال أحيانا ترك الميدان السياسي لكي يكافح في الميدان الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك فعل مصطفى كمال الذي حارب تقاليد بلاده السيئة ودعا الأتراك إلى الانسلاخ من الشرق والانضمام إلى الغرب، واتخاذ الحضارة الحديثة، حتى لقد عني بما يبدو لنا أنه من الصغائر، كاتخاذ القبعة وتعليم الشبان والفتيان رقص المخاصرة.
إن السياسة هي بعض الاجتماع وليس العكس صحيحا، ولذلك يجب أن نجعل غايتنا انقلابا اجتماعيا عاما، يتناول تحرير المرأة وتعليمها للصناعات المختلفة كالرجل سواء. كما يتناول إصلاح الريف ورفع شأن الفلاح حتى يعيش عيشة المتمدنين، يهيأ بيته بالمراحيض الصحية والأثاث النظيف والمصابيح الكهربائية، وله من دخله ما يكفيه لأن يأكل الأطعمة الكافية ويقرأ الصحف ويقتني الكتب ونحو ذلك مما هو حق لكل متمدن. كما أن الوطنية الاقتصادية يجب أن تكون - كما هي في الهند وتركيا - ضمن نهضتنا، بل مراسا نتمرس به حتى قبل تحقيق استقلالنا السياسي. كما يجب أن تتجه نهضتنا نحو مبادئ الحضارة الغربية الحديثة وليس نحو الحضارة الشرقية البالية البائدة.
وبهذه الكلمات أقدم هذا الكتاب.
الجزء
الأحوال العامة
صفحة غير معروفة