الجزء الأول: الأحوال العامة
1 - الاستعمار البريطاني
2 - السكان والأديان
3 - الديانة الهندوكية
4 - أصل الحركة الهندية
5 - الثقافة الإنجليزية في الهند
6 - المصلحون الدينيون
7 - الحكم الهندي في الهند
8 - الفقر والنجاسة
9 - المرأة الهندية
الجزء الثاني: سياسية غاندي وفلسفته
10 - حياة غاندي
11 - التقاليد القاتلة
12 - نحن والحركة الغاندية
13 - النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
14 - غاندي والمدنية الحديثة
15 - غاندي والمرأة الهندية
16 - عزبة تولستوي
17 - صوم غاندي
18 - غاندي وفورد
19 - ما لم يعرف عن غاندي
20 - غاندي والطعام
الجزء الثالث: مقالات بقلم غاندي
21 - إلى الإنجليز في الهند
22 - إلى نساء الهند
23 - التعليم في الهند
24 - مذهب السيف
25 - الخوف من الموت
26 - المنبوذون في الهند
27 - من غاندي إلى طاغور
28 - لست قديسا ولست سياسيا
29 - بعض آراء غاندي
الجزء الأول: الأحوال العامة
1 - الاستعمار البريطاني
2 - السكان والأديان
3 - الديانة الهندوكية
4 - أصل الحركة الهندية
5 - الثقافة الإنجليزية في الهند
6 - المصلحون الدينيون
7 - الحكم الهندي في الهند
8 - الفقر والنجاسة
9 - المرأة الهندية
الجزء الثاني: سياسية غاندي وفلسفته
10 - حياة غاندي
11 - التقاليد القاتلة
12 - نحن والحركة الغاندية
13 - النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
14 - غاندي والمدنية الحديثة
15 - غاندي والمرأة الهندية
16 - عزبة تولستوي
17 - صوم غاندي
18 - غاندي وفورد
19 - ما لم يعرف عن غاندي
20 - غاندي والطعام
الجزء الثالث: مقالات بقلم غاندي
21 - إلى الإنجليز في الهند
22 - إلى نساء الهند
23 - التعليم في الهند
24 - مذهب السيف
25 - الخوف من الموت
26 - المنبوذون في الهند
27 - من غاندي إلى طاغور
28 - لست قديسا ولست سياسيا
29 - بعض آراء غاندي
غاندي والحركة الهندية
غاندي والحركة الهندية
تأليف
سلامة موسى
الفاتحة
بقلم سلامة موسى
هذا الكتاب ثلاثة أجزاء، يعالج الجزء الأول منه الأحوال العامة في الهند مع إشارات تاريخية موجزة. أما الثاني فيعالج سياسة غاندي وفلسفته. وفي الجزء الثالث نقلنا بعض مقالات كتبها غاندي ونشرت في المجلات الهندية.
ونحن في جهادنا للمبادئ الإمبراطورية البريطانية نشبه الهنود، وإن كانت أقدام الإنجليز في الهند أرسخ وتاريخهم أطول. ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا. فإن زعماءهم كثيرا ما ذكروا الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر ودعوا أبناء أمتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند. وبالطبع يجب أن تختلف الأساليب في الكفاح وتتأثر بالبيئة الاجتماعية والاقتصادية ، ولكن هذا الاختلاف يسوده اتفاق بيننا وبين الهند في الغاية والمبادئ العامة.
وهذا الكتاب هو درس موجز للحركة الوطنية الهندية من ناحية غاندي، ولكن الحركة الوطنية الهندية أكبر من غاندي وإن كان هو أنضج ثمراتها وأبرز رجالها وأقربهم إلى قلوب الهنود.
وإني أكتب هذه الكلمات في الوقت الذي تقول فيه الأنباء التلغرافية إن غاندي يدعو إلى الكف عن العصيان المدني. ومن الناس من يفسر هذا الخبر بأن الزعيم الهندي قد أثبت على نفسه الفشل في الخطط التي اختارها وحض الناس على اتخاذها. ولكن هذا الخبر إن دل على شيء فهو يدل بلا شك على مرونة الذهن وكراهة الجمود. فإن غاندي لا يختط الخطط لكي يعبدها بل لكي يستخدمها، وهو يسارع إلى نبذها إذا تبين له فشلها. وسواء أنالت الهند استقلالها بما ابتكر لها غاندي أو بما أوحى إليها من الخطط والأساليب، فإن الذي لا يشك فيه إنسان أنه قد طبع الهند بطابعه وأثر في العالم أثرا لن يزول.
وقد التفت إلى النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية خاصة في حركة غاندي، وهي نواح لا نرى لها للأسف غير الأثر الضعيف في نهضتنا المصرية السياسية. وما زلت أرى أن كفاحنا للإنجليز يجب ألا يقتصر على السياسة وأن النهضة السياسية يجب أن تغذيها نهضات اجتماعية واقتصادية لكي نصل منها إلى التنبيه العام للأمة: للمرأة في بيتها، والفلاح في قريته، والصانع في مصنعه. بل يجب أن تكون لنهضتنا فلسفة كما هي الحال في النهضة الهندية أو التركية.
لقد أحدث غاندي نهضة بين نساء الهند اللائي دعاهن إلى السفور والمغزل، كما أنه كافح تقاليد بلاده التي تهين خمسين مليونا من الهنود وتعدهم منبوذين، ولم يبال أحيانا ترك الميدان السياسي لكي يكافح في الميدان الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك فعل مصطفى كمال الذي حارب تقاليد بلاده السيئة ودعا الأتراك إلى الانسلاخ من الشرق والانضمام إلى الغرب، واتخاذ الحضارة الحديثة، حتى لقد عني بما يبدو لنا أنه من الصغائر، كاتخاذ القبعة وتعليم الشبان والفتيان رقص المخاصرة.
إن السياسة هي بعض الاجتماع وليس العكس صحيحا، ولذلك يجب أن نجعل غايتنا انقلابا اجتماعيا عاما، يتناول تحرير المرأة وتعليمها للصناعات المختلفة كالرجل سواء. كما يتناول إصلاح الريف ورفع شأن الفلاح حتى يعيش عيشة المتمدنين، يهيأ بيته بالمراحيض الصحية والأثاث النظيف والمصابيح الكهربائية، وله من دخله ما يكفيه لأن يأكل الأطعمة الكافية ويقرأ الصحف ويقتني الكتب ونحو ذلك مما هو حق لكل متمدن. كما أن الوطنية الاقتصادية يجب أن تكون - كما هي في الهند وتركيا - ضمن نهضتنا، بل مراسا نتمرس به حتى قبل تحقيق استقلالنا السياسي. كما يجب أن تتجه نهضتنا نحو مبادئ الحضارة الغربية الحديثة وليس نحو الحضارة الشرقية البالية البائدة.
وبهذه الكلمات أقدم هذا الكتاب.
الجزء
الأحوال العامة
الفصل الأول
الاستعمار البريطاني
يرجع الاستعمار البريطاني إلى التنبه التجاري الذي أعقب المكتشفات الجغرافية التي قام بها الإسبان والبرتغاليون، فإن كلا من فرنسا وهولندا وبريطانيا قامت تنتفع بهذه المكتشفات في نشر تجارتها في الشرق، فلما كانت أواسط القرن الثامن عشر كانت «شركة الهند الشرقية» قد استولت على ممتلكات ومصانع كبيرة في الهند، وأقامت عليها الحصون، وصارت تجند الجيوش لحماية ممتلكاتها وتتدخل في شئون الإمارات الهندية. وما إن وافت سنة 1857 حتى كان في يد الإنجليز نحو ثلثي الهند، تحت حكمهم المباشر، إما عن طريق هذه الشركة وإما عن طريق الحكام الذين تعينهم بريطانيا.
وهذه الشركة، كما هو واضح من اسمها، هيئة تجارية، ولكنها اقتنت الأسلحة ونظمت الجيوش واستغلت الانحطاط الشرقي في الهند، وخاصة انحطاط الأمراء، حتى أصبحت وكأنها دولة كبرى. ومن هذا الأصل نفهم الباعث الاقتصادي للاستعمار البريطاني.
وحدثت ثورة الهنود سنة 1857 فأخمدها الإنجليز. ومن ذلك الوقت ألغيت الشركة وأصبح الحكم يتولاه «نائب الملك» المسئول أمام البرلمان البريطاني. ولا يستطيع الإنسان أن يقول ماذا كان يحدث لو لم تستول بريطانيا على الهند، فقد كان يمكن أن تكون الهند الآن أمة متحدة متقدمة مثل اليابان، كما كان يمكن أن تكون أيضا أمة رجعية متناحرة مثل الصين (قبل نهضتها الأخيرة)، فإن الإنجليز لم يستطيعوا بسط سلطانهم على الهند إلا للانحطاط البالغ الذي انحدر إليه الهنود.
وقد انتفع الهنود كما استضروا بالحكم الإنجليزي، وإن كان الضرر أكبر من النفع. فإن الإنجليز أبطلوا إحراق الأرامل، لأن الأرملة الهندوكية كانت تحرق عقب وفاة زوجها كما أنهم أبطلوا وأد البنات، فإن الهنود مثل جميع الشرقيين، يكبرون من شأن الذكر ويحطون بقدر الأنثى، وكان وأد البنات شائعا في الهند، كما لا يزال في الصين، وكما كان عند العرب في الجاهلية. وقد منع الإنجليز هذا الوأد فهو لا يمارس الآن إلا خفية ومع التعرض للعقوبة عندما تعرف الحقيقة.
وأكبر فضل للإنجليز على الهند أنهم أدخلوا الثقافة الغربية الحديثة، فإن الهنود كافة كانوا يدرسون الثقافة الشرقية، وهي تقاليد في العقائد والتاريخ والأخلاق، بل حتى في العلوم. فلما كان «ماكولي» الأديب الإنجليزي المعروف في الهند سنة 1835 يؤدي وظيفة المستشار لشركة الهند الشرقية، رأى أن يوجه شباب الهند وجهة الحضارة الحديثة بأن يعلمهم اللغة الإنجليزية، فكتب تقريرا يقول فيه إنه «يجب جعل الإنجليزية وسيلة التعلم، حتى تنشأ في الهند طبقة هندية في اللون والدم ولكنها إنجليزية في الآراء والأخلاق والذهن».
وغاندي يحارب الآن التعليم باللغة الإنجليزية ويطلب أن يكون باللغة الهندية، وهو محق في ذلك. ولكن لولا هذه الطبقة التي تثقفت بالثقافة الإنجليزية لما بلغت الحركة الوطنية مبلغها الحاضر، فإن ثقافة الهند لم تكن تعرف الوطنية كما نفهمها، كما لم تكن تعرف الحضارة الحديثة. أما الآن، وبعد أن تكونت هذه الطبقة، فلا خوف من التعليم باللغة الهندية، لأن الإيمان بالثقافة الحديثة قد تم، ولا خوف هناك من الرجوع إلى الثقافة الهندية التقليدية ومقاطعة الثقافة الحديثة.
وقد أضر الإنجليز الهنود بحصرهم التعليم في طبقة صغيرة، وهي كما يقول أحد الإنجليز: «أقلية مكرسكوبية». فإنهم كانوا، وما زالوا، ينفقون ملايين الجنيهات على الجيش، وعلى مرتبات الموظفين الإنجليز، في حين كانت ميزانية التعليم على الدوام ضئيلة. فإن متوسط ما تنفقه حكومة الهند على التعليم العام لا يزيد على أربعة مليمات لكل شخص في العام.
وأضروهم أيضا بقتل صناعاتهم. بل هناك ما يؤيد القائلين بأن الإنجليز باشروا بأنفسهم، وبطرق هي غاية في النذالة والخسة والتوحش، قتل الصناعات الهندية؛ لكي يبيعوا للشعب الهندي مصنوعات إنجلترا. وهم من هذه الناحية كانوا سببا مباشرا للفاقة العظيمة في الهند وللمجاعات التي تكتسح البلاد من وقت لآخر.
فإذا أضفت إلى ذلك تلك الخصال السيئة التي تتفشى في بعض الأفراد من الطبقة العالية في الأمة، لوجود الحاكم الأجنبي فيها، وكيف يستحيل الرجل الشريف إلى جاسوس على أهله ووطنه، وإذا أضفت أيضا ما تفعله السيطرة الأجنبية من إيحاء روح الذل في سائر أفراد الأمة، عرف أنه ليس في الاستعمار أو السيطرة الأجنبية شيء من الفضائل يعادل الرذائل التي يفشيها.
الفصل الثاني
السكان والأديان
يدل آخر إحصاء نشر عن الهند (وقد تم سنة 1931) على أن السكان يبلغون 353 مليونا، وهذا بإضافة بورما واستثناء سيلان. ويبلغ عدد اللغات في الهند 225 منها 27 لغة آرية الأصل، مثل اللغات الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية. ويتكلم هذه اللغات 227 مليون هندي. وهناك 14 لغة درويدية يتكلم بها 72 مليونا و156 مغولية يتكلم بها 15 مليونا. وقد يستغرب القارئ هذا الرقم الأخير، ولكن هذا الاستغراب يزول إذا عرف أن المتكلمين لهذه اللغات يعيشون في الجبال. فهم بذلك ينقطعون جماعات صغيرة، ويصعب الانتقال أو الاتصال بينهم، فتحتفظ كل جماعة بلغتها مهما كان عدد أفرادها صغيرا.
وتنقسم الهند من حيث الأديان إلى ما يأتي:
239 مليون هندوكي بما فيهم المنبوذون.
77 مليون مسلم.
13 مليون بوذي (معظمهم في بورما).
4,5 مليون سيخ.
4,5 مليون مسيحي.
مليون وربع جاينيون.
وهذا غير ثمانية ملايين لا يزالون في طور القبيلة يعيشون في التلال ويجهلون الزراعة، وهم عندما يتحضرون يعتنقون الهندوكية في الغالب. ومعظم المسلمين في الشمال، وهم أضخم أجساما من الهندوكيين لأن الدم المغولي يجري في عروقهم. وبدخول الإسلام في الهند انقرضت البوذية حتى لم يعد يؤمن بها غير سكان بورما. والهندوكي يسرع إلى قبول الحضارة الأوربية كما يسرع إلى اتخاذ الأعمال الحرة. ومن الهندوكيين الآن عدد من الأغنياء أصحاب المصانع لغزل القطن ونسجه ومنهم من يملك الملايين من الجنيهات . أما المسلمون فلا يزالون متمسكين بشرقيتهم، وعندهم كبرياء يمنعهم من احتراف الأعمال الحرة. فقد كانوا عند دخول الإنجليز للهند سادة البلاد، يتولون الحكم ولهم الجيش. فلما نزع ذلك منهم لم يستطيعوا أن يخضعوا أنفسهم للظروف الجديدة وبقوا يلتزمون أنفتهم ويرفضون التكسب بالعمل الحر الذي لم تسبق لهم به ألفة. أما الهندوكيين فلم ينقص الاحتلال الإنجليزي شيئا من حقوقهم السابقة، إذ لم تكن المناصب العليا في أيديهم، وكان لهم مران قديم بالأعمال الحرة، وفي كل قرية مراب منهم يقرض الفلاحين ويجعلهم تحت سلطانه.
وعلاقة الهندوكيين بالمسلمين ليست حسنة على وجه العموم، فإن الهندوكي ينظر إلى المسلم نظرته إلى الغريب الذي غزا بلاده وقهرها واستخلص لنفسه أحسن بقاعها وأكثرها خيرات. والمسلم يخشى اتحاد الهند واستقلالها، لأنه يشعر أن المسلمين أقلية لا يمكن أن يسمع صوتهم إذا اتحدت الهند في برلمان واحد، وأن الأكثرية الهندوكية سوف تستبد بهم. وقد أحدث غاندي تآلفا بين الطبقتين، وجعل المستنيرين منهم يدا واحدة في طلب الاستقلال، ولكن العامة من الطائفتين لا تزال تنظر إحداهما إلى الأخرى نظرة العداوة.
وهذا الخلاف القائم بينهما يستغله الاستعمار البريطاني، فإن الجنود الإنجليزية هي التي تهدئ الشعب وتقف القتال بين الفريقين. ومن هنا يعتمد عليها الفريق المغلوب للاحتماء بها.
والبوذية دين نشأ في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد. وكانت قد أضعفت الهندوكية وكشفت عن مساوئها في الإغراق في الشعائر والمناسك. ولم تكن تؤمن بالآلهة أو الكهنة أو المناسك. وكانت تدعو إلى أن الدين هو اختبار شخصي لا يأتي بوحي وإنما ينتج عن التفكير والتأمل. وقد طهرت الهندوكية من كثير من مساوئها، ولكنها لم تستطع الثبات أما الإسلام. ويبلغ المؤمنون بها في العالم الآن نحو 300 مليون ليس منهم غير عدد قليل جدا في الهند، وأكثرهم في الصين واليابان والأقطار الجنوبية الشرقية من آسيا. والبوذية هي أقرب الأديان القديمة إلى ما يفهم هذه الأيام من معنى «البشرية» التي يدعو إليها رجال الذهن في أوروبا وأمريكا.
وترجع الديانة السيخية إلى القرن السادس عشر ، وكان مؤسسها «ناناك» الذي مات سنة 1530، وكان ينشد توحيد الإسلام والهندوكية في دين واحد، وقد أخذ من الإسلام الإيمان بإله واحد، ومن الهندوكية تقمص الأرواح، جحد الأوثان وإلغاء الكهنة والطبقات، مع الدعوة إلى الفضائل العملية كالنزاهة والعدل والأمانة، والسيخيون مثل الوهابيين يقاطعون الدخان، ولكنهم مع ذلك يتسامحون في الخمر.
أما الجاينية فمذهب من الهندوكية يقرب من البوذية. والجاينيون لا يؤمنون بالكتب المقدسة التي يقول بها البراهمة، وآلهتهم إنسانية، فهي أقرب إلى القديسين منها إلى الآلهة. وهم يتوقون قتل الحيوان ولو كان حشرة، وليس بينهم طبقات. •••
يطبع الدين الأمة بمزاج خاص. والمزاج الهندي الذي تربى بالهندوكية والبوذية ينحو نحو النسك، ولذلك يكثر في الهندي الناسكون والمتصوفون وأهل الطريقة و«الفقراء». والفاقة العامة في الهند تساعد على هذه النزعة التي يدعو إليها الدين.
الفصل الثالث
الديانة الهندوكية
كانت الديانة الهندوكية شؤما على الهنود، فإنها أذلتهم أكثر مما أذلهم الإنجليز، وأقامت لهم نظاما اجتماعيا جامدا لا يمكن تنقيحه إلا بمخالفة الدين. ويرجع هذا الدين إلى حوالي سنة 700 قبل الميلاد وله كتب مقدسة وآلهة وصوفية لا تختلف كثيرا من الصوفيات التي تفشت في جميع الأديان الأخرى إلا من حيث الإيمان الراسخ بالتقمص.
ولكن محور الهندوكية ليس صوفيا أو لاهوتيا وإنما هو اجتماعي. فإن الهندوكي يطلب منه، قبل كل شيء، الإيمان بانفصال الطبقات وقدسية البراهمة أو الكهنة. والهندوكية هي أبعد الأديان عن الديمقراطية، وبدلا من أن تعمل للمساواة بين البشر، كما هو الشأن في المسيحية أو الإسلام، تفصل الأمة أربع طبقات هي: (1)
طبقة البراهمة أي الكهنة. (2)
طبقة الكشائرية أي رجال الحرب. (3)
طبقة الفايسية أي رجال التجارة. (4)
طبقة السودرا أي الفلاحين.
ويقول المؤرخون في أصل هذه الطبقات إن الآريين الذي أغاروا على الهند قبل نحو 3000 سنة أو أكثر كانوا بيض الوجوه، فخافوا الاختلاط بالسكان الأصليين وأسسوا نظام الطبقات هذا لكي يمنعوا التزاوج بينهم وبين هؤلاء السكان. على نحو ما نجد في الولايات المتحدة الآن حيث الكراهية شديدة عند البيض للسود، وقد خصوا السكان الأصليين بالمهن الحقيرة مثل فلاحة الأرض. ثم أخذت هذه الطبقات الأربع تنقسم وتتفرع حتى أصبح الآن في الهند نحو 2500 طبقة، أدونها طبقة المنبوذين وهم من السودرا، وأعلاها طبقة البراهمة أي الكهنة. ولكن إذا كان في هذا التحليل التاريخي شيء من الصحة فإن الواقع المشاهد الآن يثبت أن الهنود جميعهم يمتازون بسحنة واحدة، سواء منهم البراهمة أو المنبوذون. وهذا يدل على اختلاط الدم على الرغم من التحريم الذي نصت عليه الهندوكية.
والبرهمي يمتاز بامتيازات خاصة، فإنه لا يجوز الزواج أو الدفن أو القيام بأي احتفال إلا إذا كان ذلك بواسطته. وعندما يرتكب الهندوكي ذنبا فإن عليه أن يكفر بإطعام البراهمة وتقديم القرابين لمعابدهم.
والهندوكيون على وجه عام لا يأكلون اللحم كثيرا، وهم يحجمون عنه لأن الصوفية، وليس الديانة الهندوكية، تجعل الإنسان والحيوان واحدا، وتقول بالتقمص. وهناك طوائف لا تذوق اللحم بتاتا، ومن هؤلاء الطائفة التي ينتمي إليها غاندي. ولكن جميع الهندوكيين يقدسون البقرة ولا يذبحونها. فإذا شاخت تركوها حتى تموت حتف أنفها، أو حتى يفترسها وحش في الحقل. وكثير من الشقاق بين المسلمين والهندوكيين يعود إلى ذبح المسلمين للبقرة التي يقدسها الهندوكي ويتبرك ببولها. ويحكى عن أمير هندوكي حضرته الوفاة فطلب أن تحمل له بقرة إلى جنب سريره لكي يمسك بذنبها حتى يموت، وتم له ذلك.
وقد أدى تقسيم الأمة إلى طبقات أن صارت المهن وراثية، وانتهى هذا التقسيم إلى نظام اقتصادي جامد. فإن المنبوذين الذين يبلغون نحو خمسين مليونا يحترفون كسح الكنف وكنس الشوارع والقليل من الزراعة، مع أنه لا يجوز لهم أن يمتلكوا أرضا. والمنبوذ هو والمرأة سواء في الديانة الهندوكية من حيث حرمانهما من الميراث.
ومهما قيل عن نكبات الاستعمار البريطاني فإنها ليست شيئا في جنب هذا الاستعمار الهندوكي للذهن والروح والاجتماع في الهند. والمتأمل لهذا الدين لا يرى فيه غير نظام غايته خدمة البراهمة وتعبئة الأمة جميعها لهذه الخدمة. وهو يتغلغل في البيت ويعين العلاقة بين الزوج وزوجته والأب وابنه، بل أحيانا يعين الحرفة التي يجب على الفرد أن يحترفها ، ويمسح على البغاء مسحة قدسية دينية حتى ليهيئ الأب ابنته للفجور وهو يظن أنه يخدم بذلك الآلهة. ومن هنا هذه الثورة التي تراها من غاندي على ديانة آبائه وتقاليدهم.
والهند حافلة بالمعابد والبراهمة والآلهة، والهندوكيون يؤمنون بإله واحد تتعدد صوره في الأصنام ويتوحد جوهره، ولهم «ثالوث» مؤلف من الأرباب: براهما وفشنو وسيفا. وقد ظهر مصلحون لهذه الديانة، ولكنهم يصطدمون بعقبات كبرى، لأن الهندوكية أصبحت جزءا لا ينفصل من الاجتماع الهندي. فالإصلاح هناك لا يحتاج إلى تنقيح عقيدة تتناول النفس فقط، وإنما يحتاج إلى تنقيحات اقتصادية تتناول الحرفة وحقوق الميراث ومركز المرأة ونحو ذلك مما يدل على صعوبة التنقيح.
الفصل الرابع
أصل الحركة الهندية
ترجع الحركة الهندية في الهند إلى التنبه التدريجي الذي كان يتفشى بين الهنود كلما توغل الإنجليز في بلادهم وجعلوا سلطانهم يتسلط على مرافقهم. ولكن قطرا كالهند، تختلف لغاته ودياناته، ويتألف من طبقات متضادة، يحتاج إلى هزات عنيفة كي يعمه التنبه، وقد حدثت هذه الهزات.
وترجع الحركة الحديثة في ميلادها إلى خطأ الإنجليز في فهم السيكلوجية الهندية واستغلال الوطني «بانرجي» لهذا الخطأ. فقد حدث في سنة 1905 أن قسموا إقليم بنغال قسمين، فهب بانرجي يحرك الهنود وينبههم إلى أن هذه القسمة هي تدنيس للوطن. ويجب على القارئ المصري ألا يخطئ ويقابل بين قسمة إدارية تحدث في مثل مديرية الغربية وبين قسمة بنغال. فإن هذا الإقليم الهندي يحتوي من السكان نحو خمسين مليونا، وهو قطر عظيم له تاريخه ولغته وتقاليده، فقسمته أشبه بقسمة القطر المصري منها بقسمة مديرية الغربية.
واستطاع بانرجي أن يجعل الهنود يهبون متحدين للمطالبة بإعادة بنغال إلى ما كان عليه، واضطرت الحكومة البريطانية إلى الإذعان، فوحدته سنة 1911 وألغت القسمة، ولكن الحركة الوطنية لم تخمد من ذلك الوقت. فإن بانرجي الذي يقال أنه عرف جمال الدين الأفغاني، كما عرفه عرابي ومحمد عبده، أخذ يؤجج نار الحركة الوطنية جاعلا من تقسيم بنغال سببا لدعوة الهنود إلى الاتحاد والحكم الذاتي.
هذا هو السبب القريب المباشر للحركة الوطنية، ولكن هذا لا يعني أن الهنود كانوا سنة 1905 مستسلمين للسلطان الإنجليزي، فإنهم منذ أن كان اللورد دوفرين نائبا للملك في الهند (1984-1898) ألفوا «المؤتمر الوطني الهندي» الذي لا يزال حيا إلى الآن. والحكومة البريطانية تحاربه كما تحارب عندنا الوفد. وقد منعت انعقاده منذ العام الماضي وصادرت أمواله. وهذا «المؤتمر» يغذو الحركة الوطنية وينظمها وله فيها أثر التجديد المتوالي.
وقد كان بانرجي أستاذا للآداب الإنجليزية في جامعة كلكوتا، وانتخب رئيسا «للمؤتمر الوطني الهندي» مرتين.
ومن الزعماء الذين خدموا الحركة الهندية «طيلاك» الذي مات سنة 1920، فإنه أنشأ جريدتين، إحداهما بالإنجليزية والأخرى بالهندستانية، لتنبيه الهنود إلى ما تنزلهم به الإمبراطورية البريطانية من ضروب الخسف والهوان. وكان مثل غاندي لا يقول بالعنف. ولكن من شأن العنف أن يسير في أثر هؤلاء الوطنيين الذين يجحدونه، وقد حكم عليه بالحبس عاما، ثم حكم عليه سنة 1908 بالنفي ست سنوات.
ومن الوطنيين المعتدلين «جوكيل» الذي مات سنة 1915، فإنه كان يدعو إلى الحكم الذاتي مع البقاء في دائرة الإمبراطورية، ولذلك لم يتعرض للحبس أو النفي كما تعرض لهما سائر الوطنيين.
ولا يمكن أن ينسى اسم «محمد علي» عند ذكر خلاصة موجزة عن الحركة الهندية، فإنه خدم الحركة في إخلاص وأمانة وكان على الدوام يساعد غاندي ويدعو للاستقلال. ولكن أخاه «شوكت علي» انفصل بعد وفاة أخيه من الحركة وأخذ يدعو لاستقلال المسلمين وانفصالهم عن الهندوكيين، مع أن هذا الرجل أعرف الوطنيين الهنود بفائدة الاتحاد بين المسلمين والأقباط في مصر. وقد زار مصر مرات ورأى بعينيه قيمة هذا الاتحاد.
وقد بقيت الحركة الهندية، وهي لا تلفت الأنظار في العالم المتمدن إلا قليلا، إلى أن سطع فيها غاندي. فإنه أكسبها من المبادئ، وعين لها من الخطط، ما جعل العالم يلتفت إليه نبيا قبل أن يرى فيه وطنيا! ولكن أعظم ما خدم الحركة الوطنية هو «فضيحة أمريتسار» التي جن فيها الجنرال داير الإنجليزي فجمع الهنود في ميدان ثم أطلق عليهم النار، فقتلهم قتلا ذريعا. ثم أمر جميع من يمر فيه من الهنود بأن يزحف على ركبتيه. وكل هذا لأن بعض السكان في هذه المدينة قتلوا بعض النساء الإنجليزيات. وكانت هذه الحادثة في الهند بمثابة دنشواي في مصر، إذ انعقدت القلوب على كراهة الإنجليز من ذلك الوقت.
وزاد في الكراهة أن الحكومة الإنجليزية حين عاقبت هذا الجنرال أبى الإنجليز المقيمون في الهند إلا تكريمه، فأهدوا إليه سيفا من الذهب، فكان هذا التحدي الوقح للأمة الهندية سبيلا إلى اتحادها وإلحاحها في الاستقلال.
الفصل الخامس
الثقافة الإنجليزية في الهند
إذ كان الإنجليز قد نكبوا الهنود بالاستعمار فإنهم قد أسدوا إليهم أعظم الفضل بتعليمهم اللغة الإنجليزية التي فتحت لهم باب الثقافة الإنجليزية الواسع. وهذه الثقافة هي العلاج الحقيقي للاستعمار، لأنها تحتوي على بذرة الحرية التي لا يمكن الاستعمار أن يقتلها. ويمكن الناقد المنصف أن يقول (بعد أن يعدد المظالم الكثيرة التي أوقعها الاستعمار البريطاني بالهند) إن النهضة الهندية الحاضرة إنما تعزى إلى هذه الثقافة الإنجليزية العجيبة، وإن غاندي هو ثمرة هذه الثقافة التي لا يستطيع بها إلا أن يثور في وجه الظلم.
لما وصل الإنجليز إلى الهند كان الهنود - وخاصة الهندوكيين - في ظلام دامس، قد تحجرت تقاليدهم. يقتلون أراملهم ويخضعون لبراهمتهم وراجواتهم، لا يدرسون غير السخف الذي تراكم من العقائد الهندوكية. وكانت البوذية قد انمحت من الهند وطوردت إلى الحدود. وبقيت الحال على ذلك بعد استعمار الإنجليز للهند مدة طويلة إلى أن تعين الأديب الكبير «ماكولي» مستشارا للمجلس الأعلى في الهند سنة 1834، وهناك نسي هذا الأديب مصلحة الاستعمار وآثر عليها مصالح الذهن، فقرر أن يعلم الهنود تعليما عاليا باللغة الإنجليزية. ومن هذا الوقت انفتح أمام الهنود باب المدنية الغربية، وظهرت عندهم الدعوة إلى الحرية والمساواة وغرس الوطنية الهندية الذي يتعهده الآن تاجوري وغاندي ونهرو وغيرهم.
ونستطيع أن نجزم أنه لولا هذه الثقافة الإنجليزية لما ظهرت الدعوة إلى الحرية في الهند، ولما تجرأ رجل مثل غاندي على أن يقول بمساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين. ولو كان الهنود يقتصرون في ثقافتهم على الآداب الشرقية لبقوا إلى الآن في خضوع أعمى لولاتهم الإنجليز، كما يخضعون لراجواتهم الهنود وبراهمتهم، ولعدوا أنفسهم منبوذين أمام الحاكم الإنجليزي كما يعد الأنجاس أنفسهم منبوذين أمام سائر الهنودوكيين.
ويجب ألا ننسى أن أنظمة الحكم الدستوري في العالم كله هي إحدى ثمرات الثقافة الإنجليزية، لأن الإنجليز هم الذين قرروا حق الشعب في أن يحكم نفسه. والتقاليد الدستورية هي جميعها تقاليد إنجليزية، وليس هناك ما يعيب الأمم التي نكبت بالاستعمار البريطاني أن تعترف لهذه الثقافة الإنجليزية بهذا الفضل.
ومما يدعو إلى العجب أن ماكولي، الذي عمم اللغة الإنجليزية في التعليم في الهند، كان يسيء الظن بالهنود، حتى كاد يحسبهم غير جديرين بالرقي. ولكنه في هذا الاعتقاد السيئ، الذي بعثه في نفسه ما كان يرى من جمود الهنود، لم يكن يعرف مقدار التنبيه الذي تبعثه الثقافة الإنجليزية التي تمثل في عصرنا الحاضر أحسن ما كان في ثقافة الإغريق القدماء، وتزيد عليها جدا ورجولة.
والناس عندما يذكرون الحرية تلتفت أذهانهم إلى الثورة الفرنسية، مع أن بذرة هذه الثورة ترجع إلى إنجلترا، وقد دعا أحد دعاتها «فولتير» إلى الدستور الإنجليزي. وكان خطيبها «ميرابو» يدعو هذه الدعوة أيضا. وإذا كنا نحن نرى الآن في غاندي داعية مخلصا للحرية والإخاء والمساواة، فإن آباءنا في القرن الماضي كانوا يرون في «غلادستون» على الرغم من تعصبه الديني، هذا الداعية أيضا، بحيث يمكن أن نجد صلة روحية بين الاثنين.
الفصل السادس
المصلحون الدينيون
ليس غاندي أول المصلحين للهندوكية الداعين إلى تطهيرها مما علق بها من طبقات التقاليد الكثيفة، فقد ظهر في الهند دعاة للإصلاح قبل غاندي، وكثير من هؤلاء كانوا من البراهمة. فإننا نقرأ الآن عن اختلاط غاندي بالمنبوذين، ولكنه ليس مع ذلك الأول في الميدان، فمنذ سنوات عرف أحد البراهمة وهو «راما كرشنا» بمثل هذه الدعوة، وقد كنس بيتا لأحد المنبوذين، بشعر رأسه، لكي ينفي عنهم تهمة النجاسة. وفي سنة 1926 قتل زعيم من زعماء الهندوكية يدعى «شرادان»، كان يؤاكل المنبوذين ويعلمهم طرق المقاومة السلبية للهندوكيين المتعصبين، وهي الطرق التي دعا إليها غاندي جميع الهنود لمقاومة الإنجليز. وقد حدث في ملابار أن قصد إليها هذا الهندوكي المصلح يطلب للمنبوذين المساواة، وكانت التقاليد في هذه البلاد تقضي بألا يسير المنبوذون على الطرق العامة التي تسير عليها سائر الناس، فحضهم على العصيان، وصاروا يسيرون على الطرق العامة فيقبض عليهم ويحبسون، وبقوا على ذلك مدة طويلة إلى أن ألغيت هذه التقاليد في ملابار وانهزم الرجعيون.
وقد كان البراهمة - كما يعرف القارئ لكتاب كليلة ودمنة - سادة الهند وحكامها وكهنتها. ولكن دخول الإسلام في الهند زعزع سلطانهم، ثم جاء الإنجليز فأزالوه، فلم يبق لهم الآن سوى السلطان الروحي على الهندوكيين. وهذا السلطان نفسه قد فتح لهم أبوابا لزيادة الثروة والرقي، فإنهم اختصوا بالوزارات وتقلد المناصب العالية ودرسوا الآداب والطب وكانوا إلى وقت دخول الإنجليز يتولون إدارة البلاد ويتزعمون ثقافتها.
ولكن هذا السلطان لم يكونوا ليستطيعوا الاحتفاظ به لو لم تكن لهم أو لمعظمهم أخلاق صارمة. فإن قسما كبيرا منهم لا يذوق اللحم، وجميعهم بلا استثناء لا يذوقون الخمور، وقد ظهر بينهم قديسون عاشوا عيش الصلاح والتقشف والزهد. ومن هنا قوتهم أو بعض قوتهم. فإنه ليس من المعقول أن تستطيع طبقة الاحتفاظ بالسيادة آلاف الأعوام إذا لم تكن فيها صفات السيادة.
ومن المصلحين الذين يشار إليهم في الهند «سرسواتي». فإنه دعا إلى إهمال المناسك والشعائر والاقتصار على «الويدا» أي الكتاب المقدس، وطلب محو الطبقات والمذاهب. ولهذا المصلح شيعة يعد أفرادها بالملايين، وهم يخالطون المنبوذين كما يخالطون البراهمة، لا يعرفون فرقا بينهما. وهم يعلمون بناتهم ويجعلونهن يختلطن بالرجال ولا ينفصلن في حرم خاص بالمنزل.
وقد أسسوا مئات من المدارس التي تعيش بالتبرعات ولا تساعدها الحكومة بشيء من أموالها. وأرسلوا الرسالات التبشيرية إلى جميع أنحاء الهند، لمحو النجاسة وإلغاء الحجاب وتعليم المرأة وتطهير الهندوكية من الأساطير والمناسك والعودة بالدين إلى فطرته الأولى. وهم لا يعبدون الأصنام، ولا يسمون أنفسهم بشعار الطبقات، وقد استطاعوا بحركتهم هذه أن يصدوا حركات المبشرين من المسيحيين.
وشيعة سرسواتي هذه قد استطاعت أن تحارب التقاليد الهندوكية التي كانت تقول بإحراق الأرملة. فلما ألغت الحكومة الإنجليزية ذلك بقي عند الهنود احتقار الأرملة والتشاؤم من رؤيتها. ولكن جهود سرسواتي جعلت الأمة والحكومة معا تقبلان زواج الأرملة، وهذه معجزة في الهند.
ولكن يجب ألا ننسى هنا أن أعظم عقبة في سبيل الإصلاح الاجتماعي أو الديني في الهند هي قيام حكومة أجنبية جعلت شعارها ألا تتدخل في الدين. وهي تجعل من تحايدها هذا حجة تحتج بها كلما وجه إليها لوم بشأن إهمالها للإصلاح الاجتماعي، لأنها تستطيع أن تقول إنه يمس الدين. وفي بلاد كالهند، يتداخل فيها الدين والاجتماع، لا بد من حكومة وطنية تستطيع أن تتحمل تبعة التدخل في الدين لكي تصلح الاجتماع. وإذا لم تكن الحركات التي قام بها هؤلاء المصلحون الهندوكيون، مثل غاندي أو سرسواتي أو راما كرشنا تؤتي ثمراتها فلأنهم جميعا لم يلقوا أية معاونة من الحكومة البريطانية.
الفصل السابع
الحكم الهندي في الهند
الهند قطر كبير، أشبه بالقارة منه بالقطر، يزيد سكانه على 350 مليونا. منهم نحو 300 مليون تحت حكم الإنجليز المباشر ونحو 50 مليونا تحت حكم الأمراء الهنود من الهندوكيين والمسلمين. ولكن هؤلاء الأمراء ليسوا مستقلين إلا استقلالا داخليا ولا يمكن لواحد منهم أن يحدث نفسه بمخالفة الإنجليز.
ويمكن أن يقال على وجه عام إن حكم البريطانيين خير من حكم هؤلاء الأمراء. فإن الأمير يجعل ميزانية الدولة ميزانية قصره، كما كان الشأن في أمراء الشرق في الأزمنة السالفة. والضرائب تجبى أحيانا على غير نظام، وعند الأمير أن يشتري الماسة، أو يبني قصرا أو يقتني النساء، خير من أن ينشئ مدرسة أو ملجأ أو مستشفى. ولذلك لا ينسى الهنود الوطنيون مثل نهرو أن يطلبوا إلغاء الإمارات الهندية كما يطلبون إلغاء حكومة الإمبراطورية.
ولسنا نعني أن جميع هؤلاء الأمراء ظلمة، فإن منهم العادل الوطني الذي تجري في عروقه دماء الهنود، وهو يطلب الاستقلال للهند بإخلاص وولاء، ومن هؤلاء مصلحون خدموا شعوبهم وأنفقوا أموالهم في إصلاحهم، ومن الأمراء المصلحين نظام حيدر أباد وأمير بارودا ومهراجة ميسور ومهراجة نبها. فإن هؤلاء الأربعة يعطفون على الحركة الوطنية في الهند ويصرحون بوجوب الاتحاد بين جميع الأقطار الهندية، وهم يعجبون بالوطنيين الهنود، حتى إن أمير بارودا دعا الوطني «بانرجي» لأن يكون رئيس وزارته. وكان هذا الوطني أول زعماء الحركة الوطنية الحاضرة حين ذهب يوقظ الهنود إلى الاستقلال بحجة أن الإنجليز قسموا إقليم بنغال قسمين. وقد رفض بانرجي هذا المركز السامي لاشتغاله بالحركة الوطنية في بنغال التي تأججت منها نار الوطنية في سائر أنحاء الهند. وقد كان «بوز» الذي اشترك في حركة بنغال مفتشا للتعليم في بارودا. ومن سنوات دعا مهراجة ميسور الزعيم غاندي لكي يكون ضيفا رسميا. وقد «طهر» نام حيدر أباد إدارات الدولة من الموظفين الإنجليز والأجانب وعين في مكانهم هنودا. ودارت مكاتبات بينه وبين نائب الملك بشأن هذا الموضوع.
ومن الأمراء الوطنيين أمير نبها، فإن الحكومة البريطانية عينته عضوا في «الجمعية التشريعية» فانضم إلى المعارضة وأصبح الصديق الحميم للوطني «جوكيل». ولم يغفر له الإنجليز هذا المسلك الذي سلكه وخيب به ظنها في الاعتماد على أمراء الهند لإذلال الهنود، فإنها أجبرته بعد ذلك على النزول عن العرش.
ويقول الإنجليز إن الأمراء شكوا إلى الحكومة البريطانية وأعربوا عن مخاوفهم إذا منحت الهند استقلالا داخليا ودستورا ديمقراطيا يضم بين الإمارات المستقلة والهند البريطانية. وهذا لا يستغرب من بعض الأمراء الذين نشئوا نشأة شرقية محضة جعلتهم يكرهون الشعوب التي يحكمونها، ويعتقدون أن الحكم لا يعني غير القصر والجواري والجواهر والفيلة. ولكن الأمراء الذين نشئوا نشأة أوربية وتعلموا في الجامعات الأوربية، وعرفوا السر في تأخر الهند وتقدم أوروبا، يحبون شعوبهم ويعملون للحكم الديمقراطي ويعطفون على الحركة الوطنية.
ويجب ألا ننسى أن قيام الحكم البريطاني إلى جنب هؤلاء الأمراء يفسدهم ويجعلهم يعتمدون على رعايته وحمايته أكثر مما يعتمدون على ولاء الشعب والحرص على حبه. فإذا كان بين هؤلاء الأمراء من يبدو في وطنيته نقص فإن هذا النقص أو بعضه يعزى إلى قيام الحكم الإنجليزي، وإذا زال هذا الحكم فإن من المحقق أن هؤلاء الأمراء يسرعون في الإصغاء إلى صوت شعوبهم.
وحتى مع التسليم بأن حكم الإنجليز أعدل من حكم الهنود يجب ألا ننسى أن نصف الميزانية ينفق على الجيش، وأن جزءا كبيرا منها أيضا ينفق في تسديد الأقساط للديون التي استدانتها الحكومة. وحملة أسهم هذه الديون من الإنجليز، وجميع المناصب العليا والمتوسطة في أيدي الإنجليز. ومع أن للهند البريطانية «جمعية تشريعية» فإن رأيها استشاري.
الفصل الثامن
الفقر والنجاسة
النجاسة في الهند صفة المنبوذين ورثوها بحكم التقاليد. ولكن الفاقة العظيمة التي يعيش فيها هؤلاء المنبوذون تجعل نجاستهم حقيقية وليست دينية فقط. فإنهم يمنعون من امتلاك الأرض، ومن حفر الآبار للاستقاء، وعليهم يقع واجب نزح الكنف من المدن وحمل الزبالة. فإذا لم تلحقهم النجاسة من الدين فإنها تلحقهم من هذه الصناعات وأمثالها، ومن حرمانهم الذي يضطرهم إلى الاستقاء من البرك والمناقع.
ولو تحسنت الحال الاقتصادية في الهند واستطاع المنبوذون أن يعيشوا من إحدى الصناعات التي يكسبون منها أجورا عالية لكان في مقدورهم أن يستروا أجسامهم بملابس حسنة وأن يأكلوا الأطعمة المغذية ويسكنوا المنازل النظيفة. وفي مثل هذه الحال يكذب الواقع المأثور فلا تنسب إليهم النجاسة أو على الأقل يخف وقعها.
ولكن نكبة الهند هي الفقر، هذا الفقر الذي يجعل الأم تقتل وليدتها، ويجعل الجائع يخدر نفسه بالأفيون لكيلا يتضور من الجوع. وليس هذا الفقر شبيها في قطر آخر في العالم، وكثيرا ما تسوء الحال فيعم القحط جميع الريفيين ويموتون من المجاعة. وقد قال «جوكيل» الوطني الهندي: «يعيش في الهند نحو أربعين مليونا لا يحصل أحدهم على أكثر من وجبة واحدة في اليوم. ويقول السير تشارلس إليوت إن في الهند سبعين مليونا لا يتاح لأحدهم أن يشبع ولو مرة واحدة في العام.»
وقال المستر مونتاجو في إحدى خطبه سنة 1919: «هل منكم من يعرف أن وافدة الإنفلوانزا قد قتلت في العام الماضي نحو ستة ملايين شخص في الهند؟ أليس في هذا العدد العظيم ما يدل على علاقة هذه الوفيات بالفقر وضعف السكان عن المقاومة؟»
وكوخ الفلاح الهندي يدل على الفقر البالغ. فإنه يبنيه من الطين جدرانا أربعة ليس لها نوافذ أو باب ، وهو يبني خارج هذا الكوخ مصطبة يقعد عليها للاستراحة. وهو لا يعرف من الملابس غير وزرة يتسر بها عورته. وهو يكد في الزراعة بياض النهار وبعض الليل هو وزوجته وأولاده. وعليه أن يدفع للمالك نصف الناتج من الزراعة وعليه أن يؤدي ضريبة الملح للحكومة.
وإذا كانت هذه حال الفلاح فكيف تكون حال المنبوذ؟
وفي المدن الكبرى مثل بومباي يعيش العمال في فقر مرعب، فإن هناك مساكن متوسط ما تحتويه الغرفة فيها نحو ستة أو سبعة أنفس. وينصح مدير الإحصاء في الهند بأن يعلم الناس طرق ضبط التناسل، وليس شك في فائدة ضبط التناسل، ولكن جهل الطبقات الفقيرة وما يمكن أن يقيمه رجال الدين من العقبات في سبيل الدعاية يحولان دون ذلك.
وليس للحكومة ملاجئ تؤوي السائلين أو المحتاجين. ومع أن حكومة الهند تتعلل لإحجامها عن الإصلاح بجهل الأمة الهندية فإن الأمة نفسها قامت بإصلاحات عديدة في الدين والاجتماع والاقتصاد لم تقم بمثلها الحكومة. ففي المدن الكبرى أسس الأغنياء ما يسمى «دار مسألة» وهي مأوى للسائلين يأكلون فيه وينامون إذا ثبت عجزهم عن الكسب.
ولم تكن الهند بهذه الحال من الفاقة في الأزمنة الماضية، وإنما جاءتها هذه الفاقة من الإنجليز. وليس شك في أن الزراعة كانت أحيانا لا تؤتي غلاتها لقلة الأمطار، فيحدث القحط، ولكن مثل هذا القحط لم يكن يحدث لولا زيادة السكان المتوالية مع بقاء غلاتها على ما هي عليه لا تزيد.
والسبب الأصلي لفاقة الهند - على ما أوضح غاندي - هو قتل الصناعات الهندية وخاصة الغزل والنسج، لكي يفتح الطريق لمنسوجات لنكشير فتستأثر بأسواق الهند. وقد كانت الأقمشة الهندية معروفة، يتهادى بها الملوك والأمراء، ولكن الإنجليز قتلوها وعمدوا إلى كل رجل معروف ببراعته في النسج فقطعوا يده، حتى ماتت صناعة النسج وأصبح الهندي الذي كان يشتري منسوجات بلاده لنفسه ولزوجته وأولاده يشتري منسوجات لنكشير الإنجليزية.
وهذا هو ما يجعل غاندي يلح على الهنود في الرجوع إلى المغزل والمنسج. فإنه يريد من ذلك أن يكافح الفاقة ويقدم للفلاح الهندي صناعة أخرى إلى جنب الزراعة تزيد كسبه وتمكنه من أن يشتري الطعام الكافي لأسرته، فإن الزراعة في الهند تقتضي كدا متواصلا بضعة أشهر ثم راحة متواصلة بضعة أشهر أخرى. فإذا استطاع الفلاح أن يغزل في مدة الراحة أمكنه أن يزيد مكاسبه بعض الشيء مما يعينه على المعيشة الحسنة.
وعلاج الفاقة هو - كما بيننا - علاج أيضا للنجاسة لأن الكرامة الاجتماعية تجيء في إثر الكرامة الاقتصادية.
الفصل التاسع
المرأة الهندية
من الكتب التي ذاعت في أوروبا وأمريكا كتاب ألفته آنسة أمريكية تدعى كاترين مايو وعنوانه «أمنا الهند». وهي تصف في هذا الكتاب المساوئ الاجتماعية التي يعانيها الهنود من تقاليدهم، وغاية الكتاب الدفاع عن الإدارة الإنجليزية، وأن الإنجليز يصلحون البلاد في حين تواجههم عقبات من التقاليد التي توارثها الهنود عن أديانهم، وهي تقاليد تهدم كرامتهم وصحتهم وتبقيهم في الفاقة والضعف.
وقد حنق الهنود على هذا الكتاب، وقالوا في الدفاع عن بلادهم إن هذه المؤلفة مأجورة من الحكومة البريطانية لكي تسوئ سمعة الهنود وتحط من قيمة جهادهم للاستقلال، وألفوا الكتب في الرد على كتابها هذا، وأثبتوا فيه مبالغات تدل على القصد السيئ من إيرادها ونشرها وما هو أن هدأت العاصفة حتى نشرت كتابا آخر عنوانه «عبيد الآلهة»، والمعنى واضح من هذه التسمية وهو أن الهنود قد استعبدتهم آلهتهم وهم لا يجرءون على الانطلاق من القيود التي قيدتهم بها، وقد جعلته قصصا تتناول في الأكثر حياة المرأة الهندية.
ومهما قيل عن هذين الكتابين فإن الذي لا مراء فيه أنها تذكر أشياء تقع في الهند، وهي إذا بالغت فلإبراز الصورة فقط، أو هي تعمم أحيانا حين يكفي التخصيص، فإن الأرملة مثلا لا تحرق الآن في الهند بوجه عام، ولكن من آن لآخر يقع هذا الإحراق. وبين المنبوذين رجال استطاعوا أن يبرزوا ويبلغوا القمة ولكن منهم من تعد حياته في نظر الهندي كحياة الكلب إن لم نقل كحياة الحشرة.
ومن أحسن ما قاله رجل من أحرار الإنجليز عن هذين الكتابين أنه يجب على الهنود أن يذكروهما وعلى الإنجليز أن ينسوهما. وهو يعني بذلك أن الهند يجب أن تصلح نفسها وأن الإنجليزي يجب ألا يعيب على الهنود هذه العيوب.
وتذكر المؤلفة قصة أرملة تجري عليها محاولة إحراقها بالنار عقب وفاة زوجها، وتجري المحاولة في خفية، ولكن الحكومة تدري بها فتنقذها.
وهكذا الشأن في سائر الكتاب، فإنها تؤلف القصة لكي تضرب بها المثل على سوء النظام الاجتماعي في الهند. وميدان المرأة من الميادين الخصبة عندها، فإن الهند بلاد شرقية وهي والأقطار الشرقية سواء في وضع المرأة في مركز دون الرجل، وقد تكون حالها في الهند أسوأ حال وقعت بها في الشرق. فإنها تحرم هناك من الميراث، ويجوز للرجل أن يتزوج أي عدد شاء من النساء. وواضح أن حرمان المرأة من القيمة الاقتصادية يحرمها أيضا من القيمة الاجتماعية، وأعتقد أنه لو لم تحرم المرأة الهندية من الميراث لما تجرأ الهنود على إحراقها عقب وفاة زوجها.
ولم تعرف المرأة الهندية النقاب الذي يخفي الوجه، ولكنها عرفت الحجاب، فإنها لا تختلط بالرجال. وهي تعيش في حرم خاص بالنساء، وهذا الحرم يبنى بحيث لا تنفذ إليه أشعة الشمس، ولا يؤذن لها بالخروج إلا قليلا جدا، وأكثر خروجها في الليل، ولذلك يفشو السل بين نساء الطبقات المتوسطة لهذا السبب.
وتكثر أيضا أمراض الرحم عند الهنديات لسوء الطرق التي تستعمل في الولادة. فإن النفساء تعد نجسة، فهي تنبذ إلى غرفة قذرة نائية من المنزل، ولا تستعمل سوى الملابس القديمة البالية، فتكون النتيجة موت الطفل أو مرضها.
ويضاف إلى هوان المرأة هذا البغاء الذي تجيزه الهندوكية، فإن الأبوين ينذران بنتهما لكي تخدم في المعبد، فإذا بلغت السابعة أو الثامنة حملت إليه، فتصير من هذا السن بغيا للكهنة، ثم بعد ذلك لسائر الناس.
ومن العادات السيئة التي توورثت في الهند عن التقاليد أن يعقد زواج الأطفال وهم في الخامسة أو السادسة من العمر، فإن الأم تقعد وعلى حجرها ابنها، وكذلك تفعل أم البنت، ثم يأتي كاهن من البراهمة فيعقد بينهما الزواج. وقد تأخذ الأم ابنتها بعد ذلك أو تتركها بمنزل العريس، فإذا بلغ الاثنان سن المراهقة استهلكا قوتهما في وقت يحتاجان فيه إلى ادخارها، فينشأ الشاب الهندي منهوكا لا طاقة له على الكد والجهد. وتحمل زوجته وهي بعد في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فيمتص الجنين دمها، ويضنيها بعد أن يولد بالرضاع. ثم هي في هذه السن لا تصلح للأمومة، ولذلك يموت الأطفال في الهند بكثرة مفزعة.
وقد دعت الجمعية التشريعية الحكومة إلى سن قانون يمنع زواج الأطفال، وقد سن هذا القانون، ولكن الجمهور لا يزال يمارس هذا الزواج لأن العقوبة المقررة له هي غرامة غير فادحة، ولذلك لا بد من تربية الجمهور حتى يدرك الأضرار التي تصيب صحة الهنود وقواهم من هذا الزواج.
وفي مثل هذه الظروف يهون شأن المرأة هوانا عظيما. وينشأ الهندي وهو لا يدري معنى للحب بين الجنسين، إذ هو لا يعرف غير الغلمة. كما يهون شأن الأم، فلا تكون للتربية البيتية القيمة التي لها في الأقطار الأوربية.
ومن هنا نعرف السبب لأن زعيما كبيرا مثل غاندي لا يقصر جهوده على الحركة السياسية وطلب الاستقلال، بل يتجاوزهما إلى الحركة الاجتماعية، فيطلب تحرير المرأة ومساواة المنبوذين بسائر الهندوكيين، فإن نكبات الهند الاجتماعية ليست دون نكباتها السياسية بل قد تكون أفظع.
الجزء
سياسية غاندي وفلسفته
الفصل العاشر
حياة غاندي
يقرأ الإنسان حياة غاندي فيجد في هزائمه وانتصاراته، ذلك الإلهام الذي يجده في الكتب المقدسة أو في الأساطير التي أنشأها عظماء الأدباء لكي يرسموا فيها الصور الرائعة للمثل العليا للإنسانية. وإنها لمن أحسن حظوظنا أننا عشنا في زمن رأينا فيه رجالا ونساء يخدمون البشر خدمة الإخلاص والوفاء، لا يبغون من وراء ذلك مصلحة شخصية لأنفسهم من مال أو وجاهة أو نفوذ، فهذا «ولسون» مات بيننا وهو يدعو إلى جحد الحروب التي كان يتجمد بها أسلافنا، وقد أفلح في تأسيس عصبة الأمم. وهذه المسز «بيزانت» تدعو الآن إلى الروحية وترفعنا فوق الأنانيات الصغيرة، وهي مع أنها إنجليزية تقود الهنود لمقاومة الإنجليز. وهذا «تولستوي» الذي عاش بيننا كأنه أحد الملائكة، ثم هذا غاندي الذي، يدافع الآن عن الكرامة الإنسانية في وجه المدافع الإنجليزية.
وهؤلاء العظماء يثبتون لنا أن زماننا ليس بذلك الزمن المادي الذي توهمنا الظروف أننا نعيش فيه، بل إننا نصبو إلى الروحية ونضع الكرامة الإنسانية فوق اعتبارات المال والمصالح الشخصية. والزعيم يمثل في شخصه ومبادئه أماني الأمم وخواطرها السامية، ولذلك فإن بذور هذه المثل العليا التي ننشدها، وما زال ينشدها أمثال تولستوي وغاندي والمسز بيزانت، هي كائنة في قلوب جميع الناس. وإنما نبتت وبسقت في قلوب الزعماء لأن مهمة العبقري أن يوضح للناس ما غمض في نفوسهم من الأماني السامية التي يحسون بها ولا يستطيعون التعبير عنها. ولا يمكنه أن يخلق شيئا جديدا ليس في نفوسهم.
فأنا وأنت وجميع الناس ننطوي على هذه البذور الشريفة التي نزعت بغاندي وولسون وتولستوي والمسز بيزانت وأمثالهم إلى الرقي النفسي والأخلاقي. فهم القمة التي لم تكن لو لم نكن نحن لها القاعدة. ولذلك فمهما رأينا من الظلام والظلم، ومهما حاطنا من الحيوانية والتوحش، ومن اللؤم والدناءة، فإنا يجب أن نثق بفوز الإنسانية والشرف والعدل والنور. وهل تريد برهانا على ذلك أكبر من أن جميع شعوب الأرض تعرف الآن اسم غاندي، هذا الرجل الفقير بل المعدم الذي يسير عاري القدمين حاسر الرأس. وتخصه بأكرم مكان في قلوبها، بينما هي تجهل كل الجهل أولئك الأمراء والملوك والسلاطين الذين يتقلبون في الديباج والجواهر ويحكمون الملايين من الهنود؟
أليس في هذا البرهان على أن نفس الإنسان قد تطورت، وأنه صار يضع القوى المعنوية، قوى الحق والعدل والنزاهة والشرف، فوق القوى المادية: قوة الجيوش والمال والبطش والسلطان؟ •••
يخطر ببالي وأنا أقرأ حياة غاندي ذكرى هؤلاء القديسين الذين تذكر تواريخهم الكنائس المسيحية. فمن عادة الكنيسة الكاثوليكية أنها تقرر من آن لآخر أنها قدست أحد الناس، أي أدخلته في زمرة قديسيها، وأعطته رتبة دينية لا يعلو عليها سوى رتبة الأنبياء. وقد فعلت ذلك بجان دارك، التي قتلتها الكنيسة أولا بتهمة الهرطقة، ثم عادت بعد 300 سنة فاعترفت بخطئها وأعلنت أنها من القديسات المسيحيات.
وقد يجلب هذا العمل ضحك المستهزئين لأن القداسة تقرر بقرارات يقوم بها البشر، ولكن إذا نحن تأملنا المغزى من هذا العمل وجدنا فيه أحسن صلة تصل بين الدين والدنيا، تكسب الدين حياة كما تكسب الدنيا تقوى، وتجعل الكنيسة تعترف للناس بأن القداسة في مقدور كل إنسان يريد خدمة الناس والانتقال بهم إلى أطوار أخلاقية أسمى مما عرفوا في سابق تاريخهم. وعلى هذا كان يجب أن تكون لنا هيئات دينية تعترف لأمثال غاندي وتولستوي وولسون بالقداسة، وتحفظ أقوالهم في كتب مقدسة ينشأ عليها الصبيان في المدارس، ويتدارسها الشبان في الجامعات، ويحاول الزعماء أن يوضحوا مراميها أو يسموا عليها بتعاليم جديدة. •••
ولد غاندي في ولاية هندية صغيرة في غرب الهند تدعى «كثياوار» سنة 1869، وكان أبوه رئيس الوزارة في هذه الولاية، ولكنه كان من الصدق في الخدمة والنزاهة في المعاملات المالية بحيث لم يترك بعد وفاته إلا القليل من المال لأولاده. وقد تعلم غاندي من أبيه الصدق والصلابة، كما تعلم من أمه التقوى. وكان ضئيل الجسم في صباه كما هو الآن في شيخوخته. ودخل مدرسة ابتدائية فلم يتقدم فيها كثيرا. والعادة الفاشية بين بعض الهندوكيين أن يقتصروا من الطعام على الخضروات وما تنتجه الأرض دون طعام اللحم. وسار غاندي على ذلك مدة ولكن عندما رأى ضعفه خطر له أن يأكل اللحوم، ووجد من نصيحة صديق له ما قواه على ذلك، ولكنه عاد فندم على مخالفته للدين، ولم يسترح إلا عندما اعترف وطلب الغفران.
وتزوج على عادة الهنود وهو في الثالثة عشرة، وكانت زوجته أصغر منه سنا. ثم عزم على السفر إلى إنجلترا لدراسة الحقوق فوجد من أهله مقاومة كبيرة، لأنهم خشوا عليه تلك الغوايات التي يقع فيها الشاب الأجنبي في وسط متمدن مثل لندن. ولكنه تغلب على معارضتهم وسافر بعد أن شرطت عليه أمه ألا يعرف اللحم أو النبيذ أو المرأة.
ولقي مشقة كبيرة في لندن في اختيار طعامه، لأن الناس كلهم تقريبا يأكلون اللحم. ولذلك فإنه كثيرا ما كان يجوع. ولكنه عرف بعد مدة غير قصيرة مطعما نباتيا فلزمه طول إقامته في لندن. ونال شهادة المحاماة سنة 1891 وعاد إلى الهند. وشرع يمارس المحاماة، ولكنه وجد في نفسه عجزا كبيرا عن القيام بهذه الحرفة، فقد كان إذا وقف أمام القاضي جمد فلا يستطيع النطق، وعندما تحقق له عجزه بعد تكرار المحاولات أراد أن يترك المحاماة ويشتغل بالتعليم، فعرض نفسه على مدرسة إنجليزية لكي يعلم فيها بمرتب خمسة جنيهات في الشهر فرفضته.
وعاد إلى المحاماة، ولكنه قنع بكتابة العرائض والمذكرات، فلم يربح كثيرا من هذا العمل. وكان له أخ يشتغل بالمحاماة في مدينة «راجكوت» فرحل إليه واستطاع بما لأخيه من جاه ومكانة أن يربح عشرين جنيها في الشهر بكتابة المذكرات والعرائض.
وحدث سنة 1893 أن طلبه بعض التجار الهنود في إفريقية الجنوبية لكي يدافع عنهم في قضية، فسافر وأدى مهمته كأحسن ما يمكنه. وهنا ذهبت عنه عقدة لسانه فلم يعد يشعر بذلك الجمود الذي كان يتملكه ويعقد لسانه كلما وقف أمام قاض. ثم خطر له أن يقيم في إفريقية الجنوبية ويشتغل بالمحاماة، وذلك لأنه تشجع بما لقيه من نجاح، وأخذ في المحاماة في المحاكم الإنجليزية يدافع عن حقوق التجار الهنود، وكان يربح في العام مبلغا يتراوح بين 5000 و6000 جنيه.
ولكن أرباحه هذه لم تزغ بصره عن مصالح الهنود أو مصالح الإنسانية، فقد عاش في إفريقية الجنوبية عشرين سنة رأس فيها وحدة من وحدات جمعية الصليب الأحمر لمعالجة الجرحى في حرب البوير والإنجليز، وأنشأ مستشفى، وأنشأ عصبة لنقل الجرحى. وقد حبس عدة مرات لدفاعه عن الهنود الذين كان البيض من الإنجليز والبوير ينزلون بهم ألوانا من الهوان. وكثيرا ما كان يضرب ويبصق في وجهه لدفاعه عن الهنود، بل كاد أوباش الإنجليز والبوير أن يقتلوه لو لم تخلصه من أيديهم سيدة إنجليزية في سنة 1908. وعقد غاندي اتفاقا مع الجنرال «سمطس» بشأن العمال الهنود، ولكن بعض هؤلاء العمال اعتقدوا أن هذا الاتفاق لا يرضيهم فتآمروا عليه وضربوه ضربا مبرحا كاد يموت منه .
حدث له كل ذلك وهو ثابت على مبدئه الذي تعلمه من تولستوي، وهو ألا يقاوم الشر بالشر، فلم يرافع أحدا من الذين آذوه أو أهانوه إلى القضاء. وعاد إلى الهند سنة 1913 فاستقبله الهنود كأنه أحد أبطالهم، وذلك لما سمعوا من بلائه في الدفاع عن المهاجرين الهنود في إفريقية الجنوبية.
وكان غاندي شغوفا بتعاليم تولستوي، حتى إنه أنشأ في أفريقية الجنوبية ضيعة أطلق عليها اسم «عزبة تولستوي» يتعاون فيها العمال على العمل والخدمة الحقة دون النظر للتمايز في الامتلاك والريع. وقد أفلح في إدارة هذه العزبة على مبادئ تولستوي. وأدى به شغفه بتولستوي إلى درس المسيحية، فأحبها، وهو يتلو الآن آيات الإنجيل كأنه أحد المسيحيين، بل هو يجعل من حياة المسيح ومبادئه حجة دامغة لإدارة الإنجليز في الهند. وأخذ منذ رجوعه إلى الهند يدافع عن حقوق العمال وخصوصا الفلاحين المساكين الذين يستغلهم المالكون والتجار استغلالا قاتلا. وكذلك أخذ على نفسه الدفاع عن عمال المصانع. وقد وضع هذه القواعد لكي يراعيها العمال في إضرابهم: (1)
ألا يلتجئ العمال إلى العنف والبطش بأية حال. (2)
ألا يأذوا العمال الأغراب الذين يأتي بهم أصحاب المصانع. (3)
ألا يعتمدوا على الصدقة وقت إضرابهم. (4)
أن يصمدوا ويعملوا أي عمل آخر شريف يعيشون منه مدة الإضراب.
وحدث أنه وجد ضعفا من العمال المضربين في «أحمد باد» فأعلن عزمه بينهم بأنه سيصوم حتى يسوى الإضراب، وصام ثلاثة أيام وتمت التسوية. ومن ذلك الوقت صار يصوم كلما رأى تهاونا من أتباعه، وذلك أنه وجد أنه يستطيع أن يخجلهم بما يتحمل من آلام ومشقات حتى يتحملوا هم ما يتجلدون به وقت الأزمات.
وبقي غاندي إلى سنة 1919 وهو يقول بوجوب الولاء للإمبراطورية البريطانية، وأن حكم الإنجليز هو الحكم الذي يجب أن يبقى وتتحدد فيه الولايات الهندية. وقصارى ما على الهنود أن يطلبوا الإصلاح والتدرج إلى الاستقلال الداخلي، بحيث تصير الهند مثل أستراليا أو كندا، أي قطرا مستقلا داخل الإمبراطورية. ولكن حدث في تلك السنة أن شغب الناس، واشتد الشغب في مدينة «أمريتسار» حتى قتل عدد من الإنجليز رجالا ونساء. وعلم الجنرال «داير» الإنجليزي أنه سيعقد اجتماع علني في أحد الميادين، فحصر المجتمعين، وأغلق بالجنود نوافذ الميدان، ثم أطلق النار على المجتمعين فحصدهم حصدا في مدة عشر دقائق. وقد اعترف هذا الجنرال السافل في التحقيق أنه كان يمكنه أن يشتت المجتمعين دون أن يحتاج إلى قتل واحد منهم ولكنه تعمد القتل لكي يلقن الهنود درسا في احترام السلطان البريطاني. وهذا الدرس هو قتل 400 هندي أعزل.
وانتهت هذه المجزرة بطرد داير من الجيش الهندي، ولكن الإنجليز المقيمين في الهند جمعوا له 10000 جنيه وسيفا من الذهب أهدوه إليه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى صار جميع المعتدلين الذين كانوا يقولون بتدرج الهنود للحكومة الذاتية يطلبون الاستقلال التام. وعلى رأس هؤلاء غاندي الذي وصف الحكومة الإنجليزية في الهند بأنها حكومة الأبالسة.
ولكن من الآن، أي إلى حوالي سنة 1919، كان المسلمون يخشون حركة الاستقلال الهندي لأنهم قلة في جانب كثرة من الهندوكيين. وكل من الطائفتين تكره الأخرى كراهة صماء عمياء. ولكن حدث أن الحلفاء ضيقوا الخناق على تركيا، وكانت في ذلك الوقت «الدولة العثمانية» أي دولة الخلافة. ولما كانت بريطانيا على رأس الحلفاء في حركة تمزيق الدولة العثمانية هاج المسلمون الهنود على الإنجليز ووجدوا من عداواتهم لهم ما يربطهم بالهندوكيين في طلب الاستقلال، فاتحدت الطائفتان من ذلك الوقت. وشرع غاندي يفكر في الطرق التي يجب على الهنود اتخاذها لحركة العصيان المدني، وقد لجأ أولا إلى التجار والموظفين فوجد منهم صدودا، فعمد إلى الشبان والطلبة وناشدهم حق الوطن، فلبوا واستجابوا لدعوته وهم إلى الآن الطائفة التي يعتمد عليها في قيادة الشعب.
وقد اتخذ العصيان المدني جملة أشكال، فكان أول أشكاله مقاطعة الأقمشة الأجنبية، وجمع غاندي 10000000 روبية لتغذية هذه الحركة. وقد أراد أن يسيرها في طريق السلم ولكن الحركة خرجت من سيطرته فاتجهت نحو العنف، ووقع الشغب في أماكن مختلفة وقبضت السلطة البريطانية عليه. وقد عومل في المحكمة بالاحترام، إذ وقف له القاضي الإنجليزي وشاوره في الحكم. وهذا أغرب حادثة حدثت في تاريخ القضاء في العالم، إذ يستشير القاضي المتهم في شأن العقوبة التي يريد أن ينزلها به. ولم يكن بين الاثنين خلاف بشأن الوقائع والتهم، وإن كان الخلاف بشأن المبادئ. أو كما قال الأديب الفرنسي «رومان رولان» إنه كان بينهما صراع: غاندي يمثل الكرامة الإنسانية، والقاضي يمثل الإمبراطورية البريطانية. •••
قال القاضي: أنت تعرف أن «طيلاك» عوقب بالسجن ست سنوات لأقل من هذه التهم التي اتهمت بها.
فقال غاندي: إنك تكرمني أعظم إكرام حين تضعني في صف الوطني طيلاك وتكرمني أيضا حين تعاقبني بعقوبته.
فحكم القاضي بالحكم وهو يقول إنه لن يسر أحد بمثل سروره حين يعرف أن الحكومة قد خففت الحكم. •••
قال «بيرسون» إن محاكمة غاندي ودفاعه هما قصة تؤثر وتحفظ كما تحفظ آيات الكتاب المقدس أو محاكمة سقراط.
ودخل غاندي السجن في مارس سنة 1922 وخرج في يناير سنة 1924، لأن الإنجليز خجلوا من حبسه ست سنوات، لأنه يدافع عن وطنه.
الفصل الحادي عشر
التقاليد القاتلة
الأصل في التقاليد أنها عادات نشأت لمصلحة معينة ثم تقادم عليها الزمن فاشتبكت بالدين، وأصبحت لها حرمة ورعاية في النفس، فتحجرت، ولم يعد أحد يجرؤ على تنقيحها. وهي في هذا التحجر تؤذي الأمة التي تخضع لها. وذلك لأن الحياة يجب أن تكون حرة تقبل التحول والتطور ولا تجمد وتتحجر بالتقاليد.
وقد نشأت في الشرق تقاليد تهين الكرامة الإنسانية. ولا تزال الأمم الشرقية، حتى الراقية منها مثل اليابان تئن منها، فقد ذكر الأستاذ محمد ثابت في رحلته إلى اليابان كيف يتفشى البغاء في تلك البلاد وكيف يقدم رب البيت لضيفه بغيا تقضي معه ليلته. وقد كان قبل ذلك يرى من التقاليد أن يقدم زوجته.
وإذا تركنا اليابان رأينا الصين بتقاليدها الحجرية، فإن الصينيين قصروا المرأة على الخدمة في الفراش، وهم لهذا السبب لم يروا فائدة في نمو قدميها، فكان من تقاليدهم أن يربطوا قدمي الصبية الصغيرة حتى يكف نموها، وهذه الأربطة كانت تشد حول القدم فتقف حركة الدم، فتتألم الصبية، وقد تقضي الليل كله وهي لا تنام من فرط الألم، فإذا ما بلغت العشرين، وهي في هذا الوجع، فرح بها أبواها المغفلان وتباهى كلاهما بأن قدم ابنتهما لا تزيد على قدم الطفل. وهي عندما تتزوج يذكر صغر قدميها بين محاسنها، مع أنها لا تستطيع أن تنهض من فراشها ولا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا وهي محمولة. وأحيانا، عندما تبلغ الثلاثين أو الأربعين، تكون الأربطة المشدودة حول القدم قد تجاوزت غايتها، فتموت القدم، وتسقط عن الساق، كما تموت يد المجذوم وتسقط عن الذراع.
والأصل في هذه التقاليد أن الصيني لم يبغ من المرأة الصينية إنسانا له حقوق الإنسان، وإنما قصد منها إلى خادمة ملازمة للفراش. وقد نجح، وكان في نجاحه سقوط الصين.
والآن يقوم الشبان المجددون في الصين بهدم التقاليد، وقد نجحوا في هدمها، ولذلك شرعت الصين تنهض وتدخل في عداد الأمم المتمدنة.
ثم انظر إلى الهند، فقد كان من تقاليدها إلى بداية القرن الماضي أنه عندما كان الزوج يموت يأتى بأرملته وهي حية فتحرق مع جثته، وكان هذا عندهم من الدين. وقد كفوا عن ممارسة هذه العادة، ولكن لا يزال من بقاياها كراهة الأرامل، والتشاؤم منهن، ومعاملتهن أسوأ معاملة. والأرامل لا تتزوج إلى الآن في الهند.
وإلى الآن لا يزال من تقاليدهم نوع من البغاء الديني، فإن الهندوكي المؤمن ينذر ابنته لخدمة المعبد، فإذا بلغت سن الصبا حملها إليه فتصير بغيا لرجال المعبد، فإذا تجاوزت سن الشباب والجمال طردوها منه فتعود بغيا لسائر الناس. وقد أعلن غاندي الحرب على هذه التقاليد وهو لا يزال في المعمعة لم يكتب له النصر.
ويرى القارئ من هذه الأمثلة أن المرأة في اليابان والصين والهند لقيت - ولا تزال تلقى - ضروبا من الهوان لا يلقاها الحيوان. وهي رويدا رويدا ينزاح عنها هذا العبء، على أيدي الشبان المجددين الذين يهدمون التقاليد ويفكرون في مصالح المستقبل دون حرمة الماضي.
وأخيرا نجد من تقاليد الهند هذه النجاسة التي تنسب إلى نحو ستين مليونا من المنبوذين، فإن هذه التقاليد العجيبة تقول بحرمانهم من الحقوق الإنسانية البسيطة. ويجوز للهندوكي أن يلامس التيس والعجل والخروف فلا يتنجس ولكنه يتنجس إذا لامس هذا الإنسان الذي يسميه منبوذا.
لقد استطاع غاندي أن يؤلف من الأمة الهندية إجماعا على طلب الاستقلال ومكافحته الاستعمار، ولكنه وجد بعد أربعين سنة من الجهاد أن التقاليد تذل الهند أكثر مما يذلها الإنجليز. وهو عندما يصوم من أجل المنبوذين يحاول أن يؤلف إجماعا آخر لمحو النجاسة من الهند.
والشرق ينهض عندما يمحو هذه التقاليد المذلة. وهذا الغرب المستعمر لن يحترم الشرق حتى يحترم هذا الشرق أبناءه، رجالا كانوا أم نساء، فيساوي بين الرجل والمرأة وبين المنبوذ والمقبول.
الفصل الثاني عشر
نحن والحركة الغاندية
يجب على كل أمة منكوبة بالاستعمار أن تنتفع بتجارب الأمم الأخرى التي زاملتها في هذه النكبة. وهذه الهند قد كابدت من الاستعمار البريطاني أكثر مما كابدنا، ثم هي كافحته بأحسن مما كافحناها، فيجب علينا أن ندرس الطرق والوسائل التي اتخذتها لعلنا ننتفع بها، إما بمجاراتها وإما بالاهتداء في ضوئها إلى ما يوافق بيئتنا.
ومحور المقاومة في الهند هو «غاندي» أو بكلمة أدق هو «الغاندية» لأن غاندي الآن أصبح مذهبا، وطريقا، وفلسفة، ومبادئ وطنية معينة، بحيث قد تضاءل شخصه أمام مجهوداته الكثيرة. كأنه الشجرة يكثر حملها فلا يكاد يراها الإنسان لوفرة ما عليها من الثمر.
ومع كثرة ما قام به غاندي يمكن حصره، من حيث النوع لا من حيث المقدار، في شيئين:
الأول:
دعوة إلى الاستقلال النفسي والاعتماد على القوة الروحية وما يتبعها من تقشف ونسك. وليست المقاومة السلبية إلا جزءا من هذه الدعوة، لأن الشخص المقاوم يجب أن يقابل الحبس والمصادرة والإهانة بقلب جريء ونفس بشوش استنادا إلى ما في نفسه من مدخر القوة الروحية، واعتمادا على أن ما يقع به هو السبيل إلى خلاص الهند.
والثاني:
دعوة إلى الاستقلال الاقتصادي باتخاذ المغزل وإيثار القماش الهندي على جميع الأقمشة الأجنبية الواردة إلى الهند. وهذه الدعوة قد انتهت إلى نتيجتها المنطقية وهي مقاطعة البضائع الإنجليزية وإحراقها أحيانا. ويرمي غاندي من هذه الدعوة إلى تزويد الفلاح الهندي بعمل يعود عليه بالكسب، فيخفف عنه فاقته، ثم قطع الطريق على المستعمرين بمنع الفائدة التي تعود عليهم من رواج بضائعهم حتى تتعارض مصلحتهم التجارية مع الاستعمار.
فأما الدعوة الأولى فتكاد تكون هندية في أصلها وغايتها وتربتها، فإن روح الهند هي روح النسك. و«الفقير» هو طراز آدمي لا وجود له في أي بلاد أخرى، وهو رجل يمزج بين الفقر والشحاذة والصوفية والنسك وإيلام الجسم. وكلنا يذكر أن الناسك شخص يتكرر وروده في حكايات «كليلة ودمنة» ذلك الكتاب الهندي المعروف، وفي المزاج الهندي استعداد لهذه الدعوة ونزوع إليها، وغاندي هو قبل كل شيء ناسك، وهذا الذي أحبه في «ثورو» أو «تولستوي» أو المسيحية هو أيضا روح النسك في هؤلاء جميعا. بل هو أكثر من ناسك، لأنه لم يقنع بمسوح النساك بل ارتضى لنفسه تلك الشملة التي لا يلبسها غير الجبارية المنبوذين.
والنسك هو النظر السلبي للحياة، ونحن - المصريين - أبعد الناس عن هذا النظر، ومزاجنا هو المزاج الإيجابي، نحب الاستمتاع، ونقبل على الدنيا، ونستجيب لدواعيها بنعم وليس بلا. ومن العبث لذلك أن نطالب أمتنا بمقاومة الاستعمار بالتقشف والقناعة. وقد يجوز لنا هنا أن ننسب روح النسك الشائع في الهند الآن كله أو بعضه إلى الفاقة والقحط منذ أقدم الأزمنة إلى الآن. فقد جعلت من ضرورات العيش فضيلة، ومن الحرمان الطبيعي نسكا دينيا. ولكنا ونحن نقول ذلك نؤكد أيضا هذه الحقيقة. وهي أن في الطبيعة الإنسانية نزوعا إلى النسك وعزوفا عن المادة، وانكفاء للنفس على نفسها حين تنشد السعادة والهناء في الداخل بدلا من نشدانها لهما في الخارج. ولكن هذه الصفات أضعف وأخفى من الصفات البارزة الأخرى، أي الإقبال على الدنيا والاستجابة لدواعيها المادية.
وأما الدعوة الثانية، وهي أن يكون من وسائل مكافحة الاستعمار تحقيق الاستقلال الاقتصادي، فهذا هو الذي يجب أن نأخذه عن غاندي ونعمل به. فقد عمم هو المغزل في القرى الهندية، وأهاب بالأمة أن تتخذ الملابس الهندية، فاستحدث للهنود كرامة اقتصادية ترفع رءوسهم وتجرئهم على الإقدام والإقبال على الحياة. ومتى كفى الهندي نفسه كل شيء، لأن الطعام وفير في تلك البلاد التي تعيش بالزراعة، ومتى كفى الهندي نفسه وأصبحت نقوده لا تبرح جيبه إلى جيب الأجنبي، وأصبح قطنه لا يخرج من الحقل إلا إلى المغزل ومن المغزل إلى النول؛ لم يعد للاستعمار أي سلطان عليه. إذ ليس شيء في العالم يهدم الاستعمار مثل الصناعة الوطنية. ثم ليس هناك مجهود أصح وأسلم وأبقى مع الأيام، في مكافحة الاستعمار، من المجهود الاقتصادي. وذلك أنه متى أثرت الأمة واعتمدت على نفسها في التجارة والصناعة، أمكنها أن تعلم نفسها وأن تجعل الأجنبي غريبا في بلادها.
ولكن غاندي جعل المغزل محور الكفاح الاقتصادي في الهند، وقد أصبح المغزل رمزا لهذا الكفاح، يذكر الشاب الهندي بما يلبس ويأكل كما يذكره بالتاجر الذي يعامله والقهوة التي يقعد عليها والأثاث الذي يؤثث به بيته والجواهر والمصوغات التي تتزين بها زوجته.
ونحن نحتاج إلى مثل هذا الرمز، ولكنا لا نستطيع أن نستعمل المنزل لأن العامل المصري على شيء من اليسر يجعله لا ينتفع بالغزل اليدوي. وإذن يجب علينا أن نمسك الحبل من الطرف الآخر ونجعل النول رمزا للكفاح الاقتصادي. وقد عرفنا باختباراتنا الحديثة أن النول المصري يمكنه أن يصمد للمزاحمة أمام النول الأوربي، وأن تباع المنسوجات الصوفية والحريرية والقطنية بأثمان حسنة.
وإذن يجب علينا أن نعمم النول في القرى بين الفلاحين، رجالهم ونسائهم. بل يجب أن نعممه بين جميع نساء المدن حتى يجدن فيه سلوة تنشطهن إلى الحركة والعمل، بل كي يجدن فيه رمزا يمنعن من شراء الأطعمة والرياش والأدوات المنزلية الأجنبية.
الفصل الثالث عشر
النزعة الإنسانية في النهضات الوطنية
كل نهضة وطنية تنتهي عندما يستيقظ شعور القائمين بها وتفيض حماستهم إلى أن تتخذ شكل المذهب والعقيدة لا للوطن وحده بل للإنسانية عامة. وهذه الإنسانية تتقبل هذه النهضة وتمزج بها تاريخها وتعمل بمبادئها. وذلك لأن ما تقوم به أمة كائنة ما كانت من سن المبادئ الجديدة في السياسة أو الاجتماع ينشر منها بقوة ما فيه من حيوية إلى الأمم الأخرى فيصبح ملكا عاما للعالم.
ونحن نرى هذا عاما في جميع النهضات الكبرى. فهذه الثورة الفرنسية كادت تكون مقتصرة على تجار باريس وأبناء الطبقة المتوسطة.
فلما جاشت الأمة بها وازدادت بالتصادم غليانا وحماسة ظهرت المبادئ، فإذا بنا نرى «حقوق الإنسان» وليس حقوق «الفرنسيين». وإذا بالثائرين يتعبدون لدين إنساني جديد يريدون تعميمه في العالم، ثم بعد ذلك نرى أن الأمم الناهضة تذكر مبادئ هذه الثورة كأنها مبادئها، بل كأن هذه الثورة التي نشبت في باريس كانت ثورة العالم كله.
ونرى مثل ذلك أيضا في الثورة الإيطالية، فإن «مازيني» زعيمها لم يكن يتكلم عن حرية الإيطاليين بقدر ما يتكلم عن حقوق الإنسان وحرية الشعوب. وحسب القارئ من مرامي هذه الثورة الإيطالية أن نذكر أن قائدها العظيم «غاريبالدي» كان ينوي تأليف فرقة للقدوم بها إلى مصر سنة 1882 لمساعدة عرابي ورد عادية الإنجليز عنا.
وقد كان «نابليون» طاغية اغتنم فرصة الفوضى التي تفشت عقب الثورة، ولكنه لم يستطع أن يقود الجنود إلا وهو يتعلل بأنه يريد تعميم مبادئ هذه الثورة، وقد خدع العالم المتمدن بهذه المبادئ، كما خدع الفرنسيين أنفسهم، وليس يعيب الثورة الفرنسية أنه استغل مبادئها لفتوحاتها، فإن نابليون مات ولم تمت مبادئ الثورة.
ونحن نجد الآن في النهضة الهندية مثلا بارزا للنهضات الوطنية التي تتجاوز مبادئها حدود الوطن فتعم العالم كله. وهي إنما تعمه لأن ضمير القائمين بها قد استيقظ، وغلت حماستهم، فأخذت هذه المبادئ في نفوسهم شكل العقيدة والدين ودفعت كل وطني منهم إلى ما فوق نفسه ووطنه. فإن غاندي الآن يتكلم عن الإنسانية وينزع نزعة عالمية في كلامه عن الهند، وقد وضع من المبادئ السامية لمكافحة المستعمرين ما يسير في العالم كله وكأنه مبادئه وليست مبادئ الهند وحدها. وذلك لأن قضية كل أمة مهضومة هي قضية جميع الأمم المهضومة في العالم، فما يهتدي إليه المجاهد في إحداها يعم سائرها ويتفشى في جميع أقطار العالم. ومن هنا يمكن أن نقول إن الوطنية السامية الصادقة هي نفسها أساس للعالمية ، لأننا عندما نخلص للوطن ونجاهد من أجل تحريره نعثر ونحن في سبيل الجهاد على مبادئ سامية تخدم العالم والإنسانية جميعا.
وليس هذا فقط، بل الذي نلاحظه في تاريخ النهضات الوطنية أن رجلا مثل غاندي عندما يكافح الاستعمار الإنجليزي لا ينسى أن يكافح الاستبداد القومي. وذلك لأنه يستوي عندها أن يقع الظلم من الهندوكيين على المنبوذين أو يقع من الإنجليز على الهنود عامة. لأنه هو لم يدع دعوته لمكافحة الإنجليز، بل لمكافحة استبدادهم. وهو لذلك لا يمكنه أن يسكت إذا كان هذا الاستبداد يجيء من الإنجليزي أو من الهندوكي. وقد وقف وقفته الأخيرة من أجل الكرامة الإنسانية بمساواة المنبوذين بالهندوكيين فكان مثلا للبطولة الإنسانية التي تذكرنا ببطولة الآلهة في أساطير الأقدمين.
وهذه الصين أيضا لما نهضت تكافح الاستعمار لم تنس أن فيها استبدادا آخر يقع بالمرأة ويذلها. فكانت إلى جنب مقاطعتها للبضائع اليابانية تدعو إلى حرية المرأة، وتحطم الأحذية الحديدية التي كانت تعوق تقدمها، وتقيدها مدى الحياة، وتجعلها كأنها نعش أثاث أو بعض الفراش. ومن هنا هذا العطف الذي تجده كل من الصين والهند من العالم كله، فإنهما تبدوان وفي كل منهما رغبة صادقة في الإصلاح الإنساني كأنهما تعملان للعالم كله.
وخلاصة القول إن الأمة التي تكافح الاستعمار لا يمكنها أن تخلص في هذا الكفاح وتجلب عطف العالم عليها حتى تكون دعوتها لنفسها دعوة للإنسانية كله، ومكافحتها للاستعمار مكافحة للاستبداد بأنواعه المختلفة سواء أكان اجتماعيا أم سياسيا أم اقتصاديا. بل هي لن تنجح في مكافحة الاستعمار الأجنبي إلا إذا كرهته، وتحمست في كراهته، وعندئذ تنظر من خلاله إلى أنه نوع واحد من الاستبداد. ولا بد عندئذ من تعميم المكافحة لأنواعه الأخرى.
فإذا كانت أمة من الأمم تحارب الاستعمار الفرنسي أو الإنجليزي فإنها لن تنجح حتى تحارب في نفسها عادات الاستبداد الاجتماعي أو الاقتصادي، سواء أكان يقع بالمرأة أم بالعامل، أي إنها يجب أن تكون نهضتها الوطنية نهضة إنسانية أيضا، بحيث تطلب الحرية الاقتصادية أو المساواة الاجتماعية لأبنائها ذكورا وإناثا . وهي إذا فعلت ذلك فإنها تزكي استقلالها أمام العدو الغاصب المستعمر وتكسب عطف العالم. بل هي في مثل هذا الجهاد تجد للعالم مبادئ إنسانية تحمله إلى الأمام خطوات.
لقد خدمت الثورة الفرنسية العالم بمبادئ إنسانية جديدة كما خدمه غاندي بمبادئ أخرى ننتفع نحن بها، كما أنها تجذب إلى الهند عطف العالم كله. وعلينا نحن في مصر أن نخدم العالم أيضا بمبادئ إنسانية جديدة.
الفصل الرابع عشر
غاندي والمدنية الحديثة
إذا نظرنا إلى غاندي، وقابلنا بين معيشته وآرائه ونظرته العامة للحياة وبين ما هو مألوف الآن في الحضارة الغربية من النزعات الثقافية والصناعية، ألفينا غاندي الخصم المخلص لهذه النزعات، بل يمكن أن يعد في نظر الغربيين أعظم رجعي في العالم الآن.
ولكن رجعيته ليست تنطعا وعنتا ومكابرة، وإنما هي رجعية سارة توقظ الذهن وتحيي القلب وتعيد لنا ذكريات «جان جاك روسو» و«برناردان دوسان بيير» و«تولستوي» و«ثورو» وهم جميعهم رجعيون.
وذلك أن رجعية غاندي هي في لبابها دعوة إلى الرجوع إلى السذاجة الطبيعية وكراهة التصنع والبذخ، فإن روسو ذاع صيته في عالم الأدب الأوربي بمؤلفاته التي دعا فيها إلى كراهة المدنية والرجوع إلى الطبيعة. وقد فتن بدعوته الناس وهيأ الأذهان للثورة الكبرى في باريس، وكتابه عن التربية، ومقالته عن العلم والمدنية، كلاهما يمكن غاندي الآن أن يكتبهما ويقول بجميع آراء روسو فيهما.
وقد راجعت الدعوة إلى الطبيعة أيام روسو وظهر أثرها في مؤلفات برناردان دوسان بيير، ومن أغرب ما يذكر هنا أن هذا المؤلف الذي عاصر نابليون قد تخيل السذاجة الطبيعية في «الكوخ الهندي» الذي يعرف غاندي الآن آلاف الأمثال منه.
ولكن أغلب الظن أن غاندي لم يتأثر كثيرا بروسو وبرناردان دوسان بيير، وذلك لأن ثقافته الغربية تعتمد على أصل إنجليزي. وليس هذا الأصل فقيرا في الدعوة إلى الطبيعة والتشنيع على المدينة، فإن رومكين عاش حياته في إنجلترا وهو يلعن الحضارة لأنها تستبدل بالجياد والعربات قطارا من حديد يصفر ويملأ الريف بدخانه وضوضائه، وكان هو نفسه إذا أراد التنقل من مكان إلى آخر عمد إلى جواده أو إلى عربته التي تجرها الجياد. وهو أول كاتب حاول أن يوحد بين الأخلاق والاقتصاديات، كما يفعل الآن غاندي الذي ترجم إلى الهندوكية كتابه في هذا الموضوع لأنه وافق هواه وطابق نزعته.
ولكن القارئ لمقالات غاندي، المتتبع لسيرته، لا يتمالك من الشعور بأن أعظم المؤلفين أثرا في ذهنه هو تولستوي. فقد أحبه غاندي إلى حد أن أسس في أفريقيا الجنوبية «مزرعة تولستوي» وقد كان تولستوي يرى أن العمل اليدوي ضرورة لازمة للأخلاق الحسنة، وكان يصنع الأحذية لأهل قريته. وكذلك يرى غاندي الآن هذا الرأي ويغزل وينسج للهنود. وقد بلغ من كراهة تولستوي للحضارة الأوربية أن كان يعلن، ويكرر الإعلان، بأن الطب يضر الناس. وكراهته للطب هي في الحقيقة كراهة للعلم. وكذلك يرى غاندي الآن عندما يقول إن الطب من اختراع إبليس. وقد كان في شبابه، قبل أن يصل إلى مقام الكشف الذي هو فيه الآن، يؤمن بالطب، ويتعالج إذا مرض على أيدي الأطباء، ولكنه كف وتاب وأصبح يتعالج بالحمية والأعشاب والفواكه وله من صحته الحاضرة ما يؤيد مذهبه.
ولكن لتولستوي أثرا آخر في غاندي، لأن هذا الكاتب الروسي العظيم كان يؤمن بأن المبادئ الدينية التي تقول بالرحمة والتضحية هي مبادئ عملية يمكن العمل بها على الرغم من اعتراض بعض الأوربيين بأنها خيالية. ويعرف القراء أن غاندي يمارس الآن هذه المبادئ ممارسة عملية وينجح بتطبيقها في كسر شوكة المستعمرين.
ثم هناك كاتب أمريكي قد تأثر به غاندي كثيرا، نعني به ثورو، فإن هذا الكاتب هجر المدن وقصد إلى الريف والغابة وقنع بأقل مقدار من الطعام واللباس، وهو صاحب كلمة «العصيان المدني» التي نقلها عنه غاندي وعمل بها.
هؤلاء هم الكتاب الذين يشعر المتتبع لسيرة غاندي أنهم أثروا فيه وجعلوه يجنح إلى الطبيعة ويجحد الحضارة الأوربية. ولست أعني أنه ليس له سوى فضل النقل، فإنه عبقري الذهن ألمعي القلب، ينظر إلى الدنيا نظرا بكرا. ونحن لذلك نقرؤه وكأنا نرتوي منه بماء صاف. وخير من أن نقول إنه ناقل أن نقول إنه تربة خصبة زكت فيها أسمى المبادئ الرجعية الحديثة. وأنا أذكر هنا «الرجعية» كما يرى القارئ، وأزكيها، لأن كل رجعية تهيب بنا إلى العودة إلى الوطنية إنما تستبدل ببذخ المدينة ترفا جديدا للنفس، وحسبنا ذلك.
ولكن لغاندي رجعية أخرى هي كراهة الآلات وإيثار الصناعات اليدوية، وهذه رجعية لا يمكن الدفاع عنها، كما سيرى القارئ.
الفصل الخامس عشر
غاندي والمرأة الهندية
لا يحارب غاندي استبداد الإنجليز فقط، ولا يقتصر على مكافحة الاستعمار، بل هو يحارب استبداد الهنود بعضهم ببعض ولا يبالي أن يغضب رجال الدين، أو رجال التقاليد في بلاده، حين ينشد المساواة والحرية.
ولهذا الزعيم العظيم برنامج داخلي لإصلاح بلاده لخصه هو نفسه في خمسة أشياء وهي: (1)
محو النجاسة. أي مساواة المنبوذين بغيرهم من الهندوكيين في الحقوق والواجبات الدينية والمدنية. (2)
منع الإتجار بالخمور أو المخدرات في جميع أنحاء الهند. (3)
تعميم مبدأ المساواة التامة بين الرجل والمرأة. (4)
الاتحاد بين المسلمين والهندوكيين. (5)
تعميم المغزل في القرى.
والقارئ يرى في مقدمة هذا البرنامج مسألة المنبوذين، وقد استطاع غاندي بما يسميه «قوة الروح» أن يبدل رأي الهنود فيها، وأن يمحو تقاليد دامت في الهند دوام اللعنة نحو ثلاثة آلاف سنة. وليس شيء في الهند أجرح لكرامتها الإنسانية، أو يزيد في هوانها أمام نفسها وأمام الأجنبي، بعد مسألة المنبوذين، مثل مسألة المرأة. ولذلك ليس غريبا أن يخصها غاندي بعنايته ويطلب تحريرها ومساواتها بالرجل. وإليك شيئا مما تكابده المرأة الهندية من الهوان الذي تقتضيه «التقاليد».
في الهند ينذر بعض الآباء المتدينين إحدى بناتهم للخدمة في أحد المعابد، فإذا بلغت البائسة التي نذر بها سن الثامنة أو التاسعة حملت إلى المعبد حيث تعيش في خدمة البراهمة. وهي هناك تؤدي ما تؤديه البغي عندنا. وهي لا تفعل ذلك لخدمة رجال المعبد فقط بل لسائر الناس. فإذا ذهب جمالها في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين تركت المعبد وأصبحت بغيا عامة في الحي الخاص بهؤلاء البائسات في إحدى المدن.
ويظن بعض المؤرخين أن للبغاء أصلا دينيا ، لأن إرصاد الفتيات لخدمة المعبد في الأمم القديمة كان عاما. فإذا كان الأمر كذلك فكل ما تختلف فيه الهند عن سائر الأمم أنها حافظت على «التقاليد» أكثر من غيرها. فبينما الأمم تجعل البغاء الآن مدنيا، وتحاول إلغاءه، تجعله الهند دينيا وترعاه لأنه من «التقاليد».
وإذا عرفنا طهارة النفس التي يتسم بها غاندي، وسمو المبادئ الإنسانية التي ينشدها، أدركنا استفظاعه العظيم لهذه التقاليد ومكافحته لها. وهو لذلك يطلب في رأس مطالبه للمرأة إلغاء البغاء، سواء أكان دينيا أم مدنيا. وهو يطلبه بأشد لهجة حيث يقول: «يجب على كل رجل منا أن ينكس الرأس خزيا ما دمنا نرى امرأة بغيا. وإني لأوثر أن أرى النوع الإنساني ينقرض كله من العالم على أن أراه أحط من البهائم، حين يجعل أشرف ما خلقه الله هدفا لشهواته. وليس البغاء مسألة الهند وحدها إذ هو مسألة العالم كله. وإذا كنت أشير على الناس بأن يكفوا عن الحياة المتكلفة والملذات الشهوانية، ويعودوا رجالا ونساء إلى الحياة الساذجة التي تتلخص في الدعوة إلى المغزل، فإني أفعل ذلك لأني أعلم أننا إذا لم نعد إلى السذاجة ونمارسها بذكاء وعلم فإننا سننحدر إلى ما هو أحط من البهيمة.»
ثم هو يحمل بعد ذلك على التقاليد التي سنت للناس زواج الفتاة أو الصبية الصغيرة، ويقول هنا: «إني أرغب رغبة حارة، في أقصى الحرية للنساء. وإني أمقت زواج الصغار وأراني أرتعد أسفا كلما سمعت عن صبية أرملة. كما أني أحتدم غيظا كلما سمعت عن زوج أرمل يعقد لنفسه زواجا آخر وهو لا يبالي ما يفعل».
وهو يشير هنا إلى «الصبية الأرملة»، لأن العادة الفاشية في الهند أن الرجل المسن إذا ماتت زوجته تزوج فتاة أخرى قد تكون صبية. فلا تمضي سنوات حتى يموت هو شيخوخة أو هرما، أما الصبية فتبقى مدى حياتها أرملة لا يجوز تزوجها.
ويرى غاندي أن تعطى المرأة جميع حقوق الرجال، وهو يقول هنا: «يجب أن يكون للمرأة حق التصويت وأن تستوي والرجل في الحقوق الشرعية.»
وهو هنا غربي لا غش فيه، لأن الشرق كله، باستثناء تركيا، لم يعرف قط هذا الكلام.
ثم هو ينصح بعد ذلك للمرأة أن تكف عن زينة جسمها، بل يجب ألا تتزين حتى لزوجها، إذا أرادت من الرجال أن يقلعوا عن التعبد لجمالها الجسمي، وأن يذكروا أن لها جمالا روحيا. وهم إذا ذكروا ذلك نظروا إليها نظرة الجد والاحترام فعملوا لتعليمها وتربية أخلاقها.
والمرأة الهندوكية تتحجب ولكنها لا تتبرقع. فهي لا تجالس الرجال ولها ناحية في البيت تفصلها من الاختلاط برجال البيت أو ضيوفه. ويرى غاندي أن يلغى الحجاب إلغاء تاما. ولما كان في «سيرماتي» قبل أن يسجن لم يكن يعرف الفصل بين الرجل والمرأة، بل كان الجميع يعملون مشتركين.
ثم هو لكي يؤكد المساواة بين الجنسين، يرى ضرورة التعليم المشترك، أي أن تتعلم الفتاة إلى جنب الفتى في فرقة واحدة.
وليس شك أن غاندي يلقى من الرجعيين في الهند معارضة قوية لآرائه عن المنبوذين وعن المرأة. ولكنه يقهرهم بقوة روحه أو سمو إنسانيته. ثم هو يستهوي الشبان الذين ينشدون هندا جديدة، فهم على الدوام إلى صفه ضد الرجعيين.
ولو أن زعيما من زعمائنا في مصر دعا إلى حرية المرأة ومساواتها التامة بالرجل لوجد من شبابنا سندا قويا لا قبل للرجعيين بمناهضته.
ولو أنه قام يدعو إلى إصلاح حال المنبوذين المصريين، أي الفلاحين، بزيادة حقوقهم الاقتصادية، وبناء منازل لهم تكون جديرة بالآدميين المتمدنين، لوجد الأمة كلها عند قدميه تطلب معونته.
وإذا كان غاندي قد رأى المرأة والمنبوذ هما الخزي والعار للهند فإن لنا نحن خزيا وعارا في الفلاح والمرأة المصرية.
الفصل السادس عشر
عزبة تولستوي
تجربة غاندية في أفريقيا الجنوبية
قضى غاندي تجاربه الأولى في الوطنية العملية في أفريقيا الجنوبية، وهناك رأى محنته، ومحنة بلاده، وشرع يدرس الطرق والوسائل لكي يرفع من كرامة الهنود وينزع عنهم نير الذل الذي وضعه عليهم البوير والإنجليز في أفريقيا الجنوبية.
وهناك شرع في حضانة هذه الأفكار التي أفرخت الآن في الهند، فعرف الكف عن العنف والقوة الروحية والمقاومة السلبية والعصيان المدني. ولما عاد إلى الهند استطاع أن يستعمل هذه الوسائل بعد تجربة طويلة وممارسة مفيدة في ترنسفال حيث يعمل كثير من أبناء الهنود المهاجرين.
وقد عرف القارئ أن غاندي تلميذ تولستوي، وأنه شغف بمبادئه، واستملى هذه المبادئ عندما فكر في خططه السياسية. وقد رأى وهو في أفريقيا الجنوبية أن هذه المبادئ تحتاج لممارسة يومية حتى تخرج من النظريات إلى العمليات، ورأى أيضا أن هذه الممارسة تحتاج إلى نظر جديد للدنيا، وإلى تربية للأخلاق، تحتاج إلى اعتكاف عن المدن وانكفاف عن مطامعها كما تحتاج إلى حسم للشهوات، ولذلك كله دعا طائفة من مواطنيه وأسس وإياهم «عزبة تولستوي».
ولم يشتر هذه العزبة وإنما أخذها هبة من أحد أغنياء الهنود، وكانت تبعد عن جوهانسبرج بنحو عشرين ميلا، وكان بها ألف ومائة فدان وفيها نحو ألف شجرة مثمرة. وإلى هذه العزبة قصد هو وأربعون من الهنود، منهم المسلم والهندوكي والمسيحي والبارسي، وكان معهم خمسة من النساء وثلاثة رجال هرمين ونحو ثلاثين صبيا وطفلا.
وكان الغرض الأول من «الاعتكاف» في هذه العزبة أن يتعلم المقيمون فيها كيف يتسامحون مع اختلاف الدين أو المذهب. وكيف يرضون بالتعاون، ويرون الشرف في الخدمة، سواء في المنزل أو الحقل. ثم كيف يعيشون وليس لأحدهم مطمع في أن يتفوق على الآخرين بزيادة في المال أو الجاه. فإذا استطاعوا أن يقهروا أنفسهم، ويذللوا عواطفهم، أمكنهم بعد ذلك أن يصمدوا للخصوم وأن يتلقوا الشدائد وهم صابرون وقد وطنوا النفس على الفوز الأخير.
وصدم غاندي لأول وهلة باختلاف عادات الطعام التي تتعلق بالدين أو المذهب. فإن كلا من المسيحي والمسلم يأكل اللحم بينما الهندوكي يرى في ذلك جرحا لأقدس عاداته الدينية. فكيف يمكن قوما، يعيشون معا، ويأكلون على مائدة واحدة، أن يتفقوا في هذا الموضوع؟
عمد غاندي إلى الهندوكيين فطلب إليهم أن يسمحوا لإخوانهم من المسلمين والمسيحيين بتناول اللحم فسمحوا ورضوا. وهنا رأى غاندي أول أمارات النجاح لخططه، فإن هؤلاء، حين رأوا تسامح الهندوكيين، رفضوا طعام اللحم وقنعوا بالأطعمة النباتية، وأصبحت العزبة كلها لا يذبح فيها حيوان. ثم كان لهذه المجاملة نتيجة أخرى، فإنه عندما جاء شهر رمضان صام المسلمون فرأى سائر الهنود من أبناء المذاهب الأخرى أن يصوموا إكراما لإخوانهم، فازدادوا بذلك حبا وتوثقت بينهم أواصر الإنسانية والإخاء.
وكانوا كلهم يخدمون، لهم مطبخ كبير يتناوبون الخدمة فيه مع ترك الرياسة والتدبير للنساء. وكانوا يتناولون طعامهم على مائدة واحدة، فإذا فرغوا حمل كل منهم أطباقه وغسلها بنفسه وأعادها إلى المطبخ. ولم يكن يؤذن لواحد بالشراب أو التدخين.
وكانوا يعيشون عيشة ساذجة لا يعرفون غير أقل اللباس وأقل طعام. يعملون نهارهم، فإذا قضوا عملهم انكفأ الصغار إلى المدرسة حيث يتولى تعليمهم الكبار المتعلمون منهم. ولم يكن غاندي متعصبا لمذهبه، فقد حدث أن تكاثرت الثعابين في العزبة وتردد السكان في قتلها، لأن قتل الحي حرام عند غاندي وسائر الهندوكيين. وكان بينهم رجل إنجليزي قد استهوته هذه المعيشة الساذجة فترك المدينة ورحل إليهم يساكنهم ويعايشهم، ففي ذات يوم رأى في فراشه ثعبانا، فعاد إلى غاندي يسأله ماذا يصنع به، هل يقتله أم يترك له الفراش، فأشار عليه غاندي بقتله.
وفي هذه العزبة تعلم الهنود تلك المبادئ السامية التي أزهرت بعد ذلك في الهند، لأن كلا منهم هزم في نفسه أنانيته أولا فلم يكن كبيرا عليه بعد ذلك أن يهزم في الإنجليز أنانيتهم. وبكلمة أخرى نقول إنهم أصلحوا ما بأنفسهم ثم عمدوا إلى غيرهم يصلحونه، فكان لهم ما أرادوا.
الفصل السابع عشر
صوم غاندي
صام غاندي في مايو 1933 من أجل المنبوذين 21 يوما فكانت تنبئنا التلغرافات كل يوم عن حالته فيها، وكلنا شعر بالقلق على حياته.
وقد سبق له أن صام 21 يوما أخرى سنة 1924 من أجل الوفاق بين المسلمين والهندوكيين. ففي تلك السنة تفاقم الخلاف بين هاتين الطائفتين، واشتد التعصب، فكثر القتل ودنست المساجد والمعابد من الرعاع. ورأى غاندي أن يرحل بنفسه إلى الأقاليم الشمالية حيث كانت المنازعات الطائفية تؤدي كل يوم إلى سفك الدماء.
وأقام غاندي في بيت في دهلي قد أقيمت أمامه سارية الملك أسوكا، هذا الملك العظيم الذي أرسل إلينا في مصر أيام البطالسة يدعونا إلى البوذية ونبذ الحرب وتعميم السلام، وعلى هذه السارية قد كتب بعض أقواله في الدعوة إلى التسامح، فكان اختياره لهذا المكان رمزا للمهمة التي أرصد نفسه للقيام بها بهذا الصوم وهي إلهام النفوس روح التسامح.
وهو قبل أن يستقر رأيه على هذا الصوم جاهد لتعميم الوفاق، فكان يخاطب الزعماء ويكتب ويخطب، ولكن الأحقاد الدينية لم تخمد، فرأى عندئذ أن يصل إلى ضمير الهندية بأن يمرض نفسه أما أعينها، وهو يتضور، ويتألم، من أجلها. وقد يموت وهو في هذه المحنة فيكون موته قاضيا على هذه الأحقاد التي تمزقها وتظلم حياتها. وقد فكر وأعاد التفكير واجتره اجترارا حتى هداه الإلهام إلى وجوب الصوم.
وغاندي كلما أدلهم خطب أو تفاقمت حال لا يرجى لها علاج يخلو إلى نفسه، كما فعل الأنبياء، فيصلي ويتأمل، وقد فعل ذلك في سنة 1924 ولم يستطع أحد أن يرده عن قراره. ونحن نرى هذه الأيام، في حياة غاندي وإصراره على الجهاد، لمحة من حياة الأنبياء القدماء.
وقد لازمه في ذلك الصوم صديقه المسلم الدكتور أنصاري كما لازمه بعد في صومه الثاني، وكان حين شرع في صومه الأول قد أبل من مرضه الذي احتيج فيه إلى إجراء عملية جراحية وقطع الزائدة الدودية. فكان الخوف عليه عظيما لأنه كان في النقه يحتاج إلى ما يقويه، ولأنه كان يخشى عليه كثيرا مما يضعفه. ومضت الأيام الأولى وهو متماسك متمالك، ولكنه خار في اليوم الثاني عشر وخفت صوته وغارت عيناه، وألح عليه الأطباء في الإفطار، ولكنه رفض. وكان يقول للأطباء: «ثقوا بالله» و«لقد نسيتم قوة الصلاة».
وقال في ذلك الوقت: «لست أرغب إلى مسلم أو هندوكي أن ينزل عن ذرة من مبادئه الدينية، وكل ما أطلب منه أن يعرف أن ما يتمسك به إنما هو من الدين، ولكني أطلب من جميع الهندوكيين والمسلمين ألا يتقاتلوا من أجل الربح المادي. وإني لأتألم أكبر الألم إذا عرفت أن صومي يجعل إحدى الطائفتين تنزل عن مبدأ من مبادئها. فإن صومي هو مسألة خاصة بيني وبين الله.»
واستطاع غاندي أن يمضي 21 يوما في الصوم، واحتفل بإفطاره فرتل هو وأصدقاؤه من الهنود بعض الأناشيد الهندوكية. ثم رتل صديقه «إمام صاحب» سورة من القرآن، ثم رتل أصدقاؤه من المسيحيين بعش الأناشيد باللغة الإنجليزية. وتقدم إليه «الدكتور أنصاري» بكوب من عصير البرتقال فشربه، وكان هذا إفطاره، فانفض الذين حوله وانكفأ هو إلى فراشه حيث نام. •••
ولا بد أن هذه المحنة التي خرج منها غاندي سليما قد قوته في اجتياز المحنة الثانية، وإن كان جسمه قد صار أضعف وأقل تحملا للخطر. وهو إذا لم يكن قد نجح في إزالة الأحقاد الدينية فإنه استطاع أن يخففها. والنجاح التام الذي لا ينقصه شيء لا يوجد إلا في خيال الأطفال، وهو في صومه من أجل المنبوذين لا يطمع في محو النجاسة محوا تاما ولكنه يرجو التخفيف من أذاها.
ومهما استغربنا الطرق التي يتبعها غاندي في تنبيه الأمة الهندية وإيقاظ ضميرها فإننا لا نستطيع الشك في أنه يعرف اللغة التي يخاطب بها أمته، كما أنه الآن مثل رائع يدعو إلى الإصلاح والتقوى والخير والبر.
الفصل الثامن عشر
غاندي وفورد
إذا كان في العالم شخصان يناقض أحدهما الآخر في مبادئه وأفكاره، ومع ذلك نرى لكل منهما مكانا في قلوبنا، ونحبهما على السواء، فهما غاندي وفورد.
فإن غاندي يمثل الشرق القديم كما يمثل فورد الغرب الحديث.
يدعو غاندي بلسانه وسيرته إلى الروحية والزهد، بينما يدعو فورد إلى المادية والترف. ويكبر غاندي من شأن الضعف وسذاجة الريف، بينما فورد يعمل للمدنية ولغته هي لغة الطاقة الكهربائية أو الحرارية. وأخيرا يدعو غاندي إلى العمل اليدوي، بنما يدعو فورد إلى إلغاء العمل اليدوي من العالم والاقتصار على الآلات.
وبكلمة أخرى نقول إن فورد يمثل المدنية الغربية التي تقول بالاستمتاع بما في الدنيا من أطايب اللذات الحسية والمعنوية وزيادة فراغ الناس لكي يشغلوه بالاستمتاع، وإنما يزيد هذا الفراغ إذا هم جعلوا الآلات الضخمة تعمل أعمالهم. بينما غاندي يمثل المدنية الشرقية حين يدعو إلى القناعة والنسك وإنكار النفس والكد والكدح باتخاذ صناعة يدوية كالغزل مثلا.
وأساس المدنية الغربية الآن هو العلم والتجربة، وكلاهما يؤمن به فورد ويعتمد عليه، وقد استطاع بهما أن يخرج في اليوم الواحد عشرة آلاف أتومبيل من مصانعه وأن يعطي أصغر عامل عنده 30 جنيها في الشهر، وأن يوفر له الفراغ الذي يبلغ 17 ساعة في يوم العمل ويومين كاملين في الأسبوع.
وأساس المدنية الشرقية هو إلى الآن، وكما يفهمه غاندي، الدين والتقاليد. وهو لذلك يرى أن الوطنية والحرفة يجب أن يرتكزا على أساس من الدين. واحترامه للبقرة، وكراهته للتزاوج بين الطبقات الهندوكية يدلان القارئ على تعلقه بالتقاليد.
وقد يقال هنا إن غاندي لا يكره العلم وإنه لم يقل ذلك قط، وهذا صحيح، ولكن كراهته للآلات، بل كراهته للطب، وهما ثمرة العلم، يدلان القارئ على اتجاه ذهنه.
إن التناقض واضح، فإن المدنية الغربية، التي يمثلها فورد وشو ورسل ومصطفى كامل، تؤمن بالعلم. وهي وإن لم ترفض التقاليد فإنها تبتسم لها ابتسامة التسامح. وهي تتجه نحو توفير الرفاهية، وكأنها تقول: «يجب أن نأكل أحسن الأطعمة وأطيبها، ونؤثث بيوتنا بأفخر الرياش، ولا نكسب عيشنا إلا بأقل جهد. وعندئذ لا تكون حياتنا إلا للتمتع الجسمي والتثقف الذهني. ويجب ألا نعيش إلا في المدينة.»
ولكن المدنية الشرقية التي يمثلها غاندي وتولستوي تؤمن بالفلسفة والدين والتقاليد، وتدعو إلى النسك والقناعة، وكأنها تقول: «يجب أن نقنع بالعيش في كوخ في وسط الريف، ونرضى بأقل اللباس والطعام، وعلينا أن ننسك ونتأمل ونتعبد. وحسبنا من الطبيعة أن نتمتع برؤية حيوانها ونباتها لا أن نستغلهما.»
وقد يكون في هذه المقابلات مبالغة، ولكن الغرض هو إبراز الصورة فقط مع الاعتراف بأن هناك تداخلا بين المدنيتين. فإذا قلنا مثلا إن الشرق ينشد الطهارة، أي طهارة الروح، والغرب يطلب النظافة، أي نظافة الجسم، فإننا نبالغ لإبراز الصورة. ولكنا نقول مع ذلك حقا. وقد أصبح اسم غاندي مرادفا للمغزل لأنه نشره في القرى وجعل ممارسة الغزل واجبا وطنيا دينيا، وقد قصد من ذلك إلى تحقيق غايتين:
الأولى:
غاية الخلاق. لأنه يرى كما كان يرى تولستوي أن كل إنسان يجب أن يعمل وينتج لكي يشعره بأنه عضو نافع في الأمة.
والثانية:
غاية وطنية. وهي اعتماد الهنود على مصنوعاتهم وتركهم للمصنوعات الإنجليزية حتى يخضع الإنجليز لشروطهم ويعترفوا باستقلالهم.
وقد نجح غاندي في ذلك نجاحا كبيرا جدا. ولكن الذين يعرفون الفرق بين الغزل على الآلات والغزل على المغزل لا يتمالكون من الأسف لضياع الجهد الإنساني. فإن رجلا واحدا يقعد إلى آلة حديثة من آلات الغزل تعمل بالطاقة الكهربائية مثلا يمكنه أن يخرج مقدارا من الغزل يساوي ما يخرجه مائة تقريبا من الغازلين بأيديهم. فالقول بأن الآلات سيئة هو بمثابة القول بأننا نكره للناس الراحة، وأننا نفضل للعمل الذي يكفي لعمله شخص واحد أن يكد فيه مائة شخص.
ولكن يجب ألا نتهم غاندي بأنه يتعامى عن فائدة الآلات، وأولى من ذلك أن نقول إنه يريد أن يجعل الوطنية الهندية وطنية اقتصادية، لأنه يعرف أن أساس الاستعمار هو الاستثمار. ولكنه يرى أن شراء الآلات الكبيرة التي تقوم بالغزل يحتاج إلى رءوس ضخمة من الأموال لا قبل للهنود بجمعها في فاقتهم الحاضرة، ولذلك هو لا يبالي زيادة الجهد في سبيل نهضة صناعية تعتمد في المستقبل على صناعة الآلات الكبيرة.
فإذا كان هذا التفسير يتفق وأغراضه فليس هناك شك في أنه اختار أحكم السبل للوصول إلى غايته، وذلك لأن أرخص شيء في الهند هو العامل الهندي، إذ هو أفقر عامل في العالم. ولكن إذا صدق هذا التفسير انتهينا منه إلى أن غاندي يعمل لتحقيق المدنية الغربية في الهند، أي مدنية الآلات، وأنه يخدم مبادئ فورد.
والواقع أننا نجد من غاندي إيماء أو تلميحا يدل على أنه لا يعارض في وجود الآلات، ولكنه لا يحب في الوقت نفسه أن يضعف الحماسة للمغزل، إذ هو يذكر من آن لآخر أن الهند في «طور انتقال» وكأنه يضمر في هاتين الكلمتين أن الهند ستعبر بالمغزل إلى عصر الآلات والصناعات الكبيرة.
ونحن في مصر الآن في مثل هذا الطور نرى أنه يجب أن ينهض كفاحنا السياسي للاستقلال على أساس اقتصادي. فنحن نشجع الصناعات المصرية اليدوية ونشعر لفقرنا بأننا عاجزون عن تأسيس المصانع الكبيرة التي تنتج إنتاجا عظيما، ولكن مع ذلك ننشد ذلك اليوم الذي نستطيع فيه أن يكون كل إنتاجنا بالآلات وليس بالأيدي.
وإذن يجب أن نحب غاندي ونمجد أساليبه في فترة الانتقال هذه وفي تحقيق الاستقلال السياسي، ولكن يجب أن نذكر مع ذلك أننا لن نكون أمة قوية تعد من أمم القرن العشرين المتمدنة حتى نجعل فورد غايتنا في الاعتماد على الآلات.
وبعبارة أخرى يجب على الهند أن تنقلب كما انقلبت اليابان فتنسى ماضيها وتقاليدها، ولكن غاندي يرى أنها يجب ألا تنسى هذا الماضي، أو هذه التقاليد، قبل أن تحقق استقلالها وتخرج الإنجليز من بلادها. وهو مصيب في رأيه.
الفصل التاسع عشر
ما لم يعرف عن غاندي
أكثر المعروف عن غاندي يتعلق بجهاده السياسي والأساليب التي اتبعها في هذا الجهاد، ولكن هناك أشياء أخرى في حياة هذا العظيم تستحق الالتفات، سواء منها ما يتصل بحياته الخاصة أو حياته العامة.
وأول صفات غاندي هو النسك، فإنه لا يأكل سوى القليل من البلح والجوز والرز والليمون ولبن المعز وزيت الزيتون، ولا يتناول غير وجبتين في اليوم، الأولى في الصباح والثانية عند الغروب. وهو لا يعرف الخمر أو الشاي أو القهوة. وفراشه حرام من الصوف يفرشه على الأرض ووسادته كتابان أو ثلاثة كان يطالعها سالف نهاره. فإذا كان الصيف والحر نام في العراء وافترش التراب. وغرفته التي يعمل فيها عارية ليس فيها غير رف الكتب والمكتب.
وهو لا يملك شيئا من حطام الدنيا، وقد نزل هو وزوجته عن كل ما يملكانه للفقراء.
وليس غاندي خطيبا، وهو في الخطابة مثله في الحياة ساذج لا يتشدق ولا يتفصح، فهو يخطب كما يتكلم، ومع ذلك يقنع سامعيه. وقد قال عنه سلفه ومعلمه في الوطنية جوكيل: «لقد صنع غاندي من مادة الأبطال والشهداء، لا بل هو أكثر من ذلك ، لأنه يملك تلك القوة الروحية التي تحيل العامة من الناس أبطالا وشهداء.»
بل لقد خطب بين العاهرات وطلب منهن أن يتركن البغاء وأن يقبلن على المغزل، فسمعن له، وأطعنه.
وقد جعل غاندي المغزل عبادة، وأصبح حتى صار الغني يمارسه وكأنه نوع من البر. وصارت السيدة الغنية تطرح الحرير وتلبس القماش الوطني، وقد رسخ في ذهنها أنها لا تخدم الوطن فقط بل تخدم الله. •••
وزوجة غاندي وأولاده هم تلاميذه يجرون على سنته، وهذه الزوجة تدعى «كستور باي» تزوجها وهو في الثانية عشرة من عمره، وهي امرأة ضئيلة تلبس القماش الهندي، وتجول في القرى، تدعو إلى الغزل وتحض على المساواة بين المنبوذين وسائر الهنود. ولما قبض على ولديها وزجا في السجن جاءتها خطابات التعزية والتشجيع من جميع أنحاء الهند، فكتبت في الصحف تقول: «قبض على اثنين فقط من أولادي، وهناك آلاف من أبناء الأمهات الهنديات قد قبض عليهم أيضا وهم الآن بين جدران السجون، وإذن ليس لي الحق في أن أسكب دموع الحزن ما دام كثير من الشباب قد غصبوا من أمهاتهم.»
ووقف ابنه «ديفانداس» في القفص أمام القاضي فقال: «إني أعلن بأن التهمة الموجهة إلي صحيحة، وكل ما قلته أو فعلته كان مني بسبق إصرار، وقد أتيت ما أتيت وأنا عارف بتبعة ما أفعل، ولذلك أطلب أقصى العقوبة.» •••
يبكر غاندي هو وتلاميذه في الصباح فيغتسلون، ثم يصلون، ويترنمون جماعة بالأناشيد المقدسة، وإليك واحدة من هذه الأناشيد التي يحبها غاندي: «لا يفتح الطريق إلى الله لغير الشجعان، وهو مقفل أبدا أمام الجبناء.
ولا يشرب من إناء الله غير ذلك الذي يترك ابنه وزوجته وثروته وحياته.
وفي الحق من طلب الجواهر كان عليه أن يغوص في أعماق البحار وقد وضع حياته في كفه.
وهو لن يخاف الموت، إذ هو ينسى شقاء الروح والجسم.
ولن يربح شيئا ذلك الذي يقف على الشاطئ وقد خاف وتردد.»
قال أسقف مدراس في خطبة ألقاها في كنيسته: «إني أعلن في صراحة، وإن كان هذا يحزنني كثيرا، أني أرى في المستر غاندي ذلك الصبور المعذب من أجل الحق والرحمة ممثلا حقيقيا للمسيح أكثر من أولئك الذين ألقوا به في السجن، وهم الذين يسمون أنفسهم مسيحيين.»
وفي غاندي عطف عظيم على المنكوبين، وكثيرا ما قصد إلى المعابد، حيث يقعد المجذومون على درج المعبد للشحاذة، يعرضون قروحهم على الناس لاستدرار رحمتهم. فكان يقعد إلى المجذوم ويمسح قروحه بملابسه ويضمدها بيديه.
ومن هنا عطفه على المنبوذين فإنه لا يطيق أن يرد عليه البراهمة بأن الدين قد حكم بنجاستهم، إذ هو يرد عليهم بقوله: «يمكن إبليس على الدوام أن يستشهد بنصوص الكتب المقدسة، ولكن هذه الكتب لا يمكنها أن تتجاوز العقل والحق، تطهر الأول وتنير الثاني.» •••
قصد مائة من البغايا إلى غاندي يسألنه النصيحة، فقعد إليهن ساعتين يتحدث وإياهن عن الشقاء الذي يعانينه. وكان في تلميحهن، عندما يعجزن عن التصريح، ما كان يدرك غاندي مغزاه. وقال بعد ذلك: «إن هاتين الساعتين اللتين قضيتهما مع هؤلاء الأخوات هما الآن أكثر من الذكريات ... لقد حنيت رأسي في خزي عميق أمام هؤلاء الأخوات وسقوطهن.»
ثم يقول: «نحن الرجال يجب أن نحني الرءوس خزيا ما دام هناك امرأة واحدة قد أرصدناها لشهوتنا. وإني لأوثر أن ينقرض النوع البشري كله على أن نكون دون البهائم، حين نجعل أشرف ما خلقه الله غاية شهوتنا. وليس في جميع الشرور والمفاسد التي تقع تبعتها على الإنسان ما هو أسفل ولا أنذل ولا أوحش من هذا الاستغلال للنساء.» •••
ما رأي غاندي في الفنون الجميلة؟
يرى فيها ما يرى المصلح المشغول بتزويد الأمة بما يكفي مئونتها، ويرى فيها رأي الناسك الذي يقنع ببلغة العيش. وهو هنا يقول: «يكفيني من غرفتي أربعة جدران، ولا أكاد أحتاج إلى سقف فوقها، وحسبي أن أنظر إلى قبة السماء وأرى النجوم منتثرة فيها فأمتع عيني بجمالها الذي لا يفنى، فإن هذا عندي يعلو على جميع الفنون الإنسانية في الجمال. ولست أعني أني أتجاهل قيمة الأعمال الفنية، ولكني عند المقابلة بجمال الطبيعة أشعر شعورا عميقا بأنها غير حقيقية.»
ثم يقول: «إني أعترف بأني لا أستطيع أن أجد في أحد الرسوم ما يثير في نفسي ذلك الشعور بالعجب والسمو كما أجد عندما أتأمل السماء بنجومها. أليست جميع الأعمال الإنسانية تافهة بجانب أعمال الله الغنية العظيمة التي تغمر الكون؟»
ثم يقول هذا الناسك: «إن الحياة أعظم، ويجب أن تكون أعظم، من جميع الفنون. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك وأصرح بأن الإنسان الذي تقرب حياته من الكمال هو الفنان الأعظم، إذ ما معنى الفن إذا لم يقم على أساس الحياة الشريفة وهيكلها؟»
ولسنا ننتظر منه بعد ذلك أن يقول في أوسكار وايلد غير هذا الذي يقوله: «كان وايلد يقصر مهمة الفن على إبراز الشكل التام، ولذلك لم يتراجع عن تمجيد ما يخالف الأخلاق.»
وهو هنا يوافق تولستوي وروسكين على رأيهما في الفنون. وقد ذكر هو أنه تأثر كثيرا بمؤلفاتهما.
الفصل العشرون
غاندي والطعام
لا ينظر الناس إلى غاندي من حيث إنه زعيم الوطنية الهندية فحسب، بل هم ينظرون إليه من حيث إنه معلم ديني ومصلح اجتماعي، له آراء ممتازة في الحكومة والزواج والصناعة، بل له آراء في اللباس والطعام.
وغاندي يدرس الطعام لبواعث وغايات مختلفة، فإنه هو نفسه ينزع إلى النسك ويحتاج إلى الطعام الذي يوافق حياة النسك. ثم هو يقول بالعودة إلى الطبيعة، وهذه العودة تقتضي بساطة العيش والرضى بأبسط الأطعمة وأقلها حاجة إلى عناية الطباخ وتعدد التوابل واختلاف الألوان. وهو بعد ذلك يجد في درس الطعام ما يبصره بالخطط الوطنية، كما رأينا في مسألة الملح.
فقد رأيناه يختار من بين الضرائب ضريبة الملح التي فرضتها الحكومة على الهنود ويطلب إلغاءها. ولهذا الالتفات الخاص لضريبة الملح علاقة بالطعام الهندي، فإن الهندوكيين أقل الشعوب تناولا للحم، إذ هم جميعهم يقدسون البقرة ولا يذبحونها، وفيهم طوائف لا تذوق اللحم بتاتا كالطائفة التي ينتمي إليها غاندي. ثم إن الفاقة التي تشمل الهند تجعل 99 في المائة من السكان لا يحصلون من الغذاء إلا على الأطعمة النباتية، ومن المعروف أن الطعام النباتي يحتاج إلى كثير من الملح الذي لا يحتاجه الطعام اللحمي، بل هذه الحاجة نجدها في الحيوانات التي تغتذي بالأعشاب، فإنها تشتهي الملح، فإن لم تجده لحست التراب لما فيه من ملوحة، حتى إن الصيادين في أفريقيا يضعون الملح شركا يصيدون به البهائم كالغزلان والجاموس ونحوهما. أما السباع التي تأكل اللحم فلا تحتاج إلى الملح. والطبقات الفقيرة في كل أمة تكثر من استعمال الملح لهذا السبب، أي لأنها تعتمد على الأطعمة النباتية الرخيصة ولا تستطيع أن تشتري أطعمة اللحم.
ومن هنا كانت حاجة الهنود إلى الملح كبيرة جدا؛ لأنهم يقتاتون بالأطعمة النباتية. ومن هنا أيضا اختيار غاندي لضريبة الملح عندما قر العزم على مخالفة الحكومة ودعا الجمهور إلى الكف عن أدائها، فإن هذا الاختيار يدل على علمه بحاجة الطعام النباتي إلى الملح وضرورته لجميع السكان.
وغاندي مثل جميع الزعماء وقادة الفكر ينفق من نفسه مجهودا كبيرا، ويحتاج إلى توفير الوقت والصحة، لكي يعالج نكبتي الاستعمار والتقاليد اللتين تروج بهما بلاده. وقد درس لنفسه موضوع الغذاء لكي يعرف أوفق الأطعمة لكي يعمل أطول الوقت، وينفق أكبر المجهود مع لزوم النسك، مع ما بين النسك والمجهود من مناقضة. فإن الناسك يكف شهواته بالصوم وقلة الغذاء، والمجاهد يحتاج إلى الغذاء الوافر الذي يحركه على الدوام إلى النشاط. وقد اضطر غاندي إلى أن يدرس الطريقة التي يلائم فيها هاتين الغايتين. وقد وجد بالتجارب التي أجراها على نفسه أنه لكي يراقب ما يدخل ذهنه يجب عليه أن يراقب ما يدخل معدته. وهو الآن يقتصر من الأطعمة على لبن عنزته وعلى الفواكه الجافة كالبلح وغيره. وهذا الطعام يكفيه بالغذاء الذي يلزم جسمه. ولبن الماعز كثير الدسم قليل المعادن، والفواكه الجافة خالية من الدسم كثيرة المعادن، ومنهما يؤلف طعام تام لرجل مثل غاندي لا يعمل بعضلاته وإنما يعمل بذهنه وينشد هدوء العواطف لا ثورتها.
وقد بدأ غاندي تجاربه في نفسه منذ سنة 1906 حين رأى العلاقة بين الأخلاق والطعام، وحين عين لنفسه أخلاقا خاصة يختار لها الطعام الذي يساعده على التخلق بها. وكان ينظر إلى أثر الطعام في الشهوة الجنسية التي يبدو من كلامه أنها أقلقته كثيرا حتى انتهى إلى القول إنه لا يصح للزوجين أن يناما في غرفة واحدة. وهذا القلق يدلنا على عبقرية غاندي، فإنه قل أن نجد عبقريا أو رجلا ممتازا بنشاط الذهن لا تقلقه الشهوة الجنسية قلقا كبيرا، وبعد ست سنوات من هذه التجارب انتهى إلى أن أحسن الأطعمة له هو الفواكه والجوز، مع إيثار الطازجة على الجافة. فعاش عليها مدة لا يتناول شيئا من الحبوب أو اللبن. وكان مع هذا الطعام البسيط يصوم بعض الأيام لا يتناول غير الماء. واستطاع بهذا الطعام أن يقمع الشهوة الجنسية قمعا باتا، ولكنه وجد همودا في الجسم جعله يطلب اللبن. فلما عاد إليه استيقظت الشهوة الجنسية، فكتب يقول عن ذلك: «ليس عندي أقل شك في أن اللبن يجعل ممارسة الطهارة شاقة.»
وقد رأى غاندي من هذه التجارب أن أفكاره بل أخلاقه كانت تتغير بتغير طعامه.
وأخيرا رضي بالتسوية بين ذهنه وشهوته، فأخذ باللبن والفواكه، واقتصد في قوته بالنوم في غرفة أخرى غير الغرفة التي تنام فيها زوجته. وبهذا النظام استطاع غاندي أن يعمل نهاره كله وبعض ليله لخدمة بلاده. فهو لا يقيل عقب الغذاء، كما نقيل، لأننا نثقل ونسترخي بعد طعام اللحم، ولكنه هو يبقى نشطا طول نهاره.
ولو أن كل رجل ممتاز في قواه الذهنية أو الأخلاقية مثل غاندي شرح للناس الطعام الذي يأكله والذي ساعده على أداء مهامه الشاقة لانتفع الناس بتجاربه، ولكن قل أن نقرأ ترجمة أحد العظماء، ونرى فيها وصفا لطعامه، كما نرى في ترجمة غاندي. ولسنا نعني أن الطعام الذي اهتدى إله غاندي يفيد جميع الناس، بل نرى خلاف ذلك، وهو أن مثل هذا الطعام قد يضر بعض الناس. ولكنا نعني أن اختيار الطعام، وخاصة عند القادة والزعماء الذين يطلب منهم مجهود كبير، يحتاج إلى عناية وتجارب حتى يهتدوا إلى ما يوافقهم منه. وطعام كل إنسان هو كالحذاء أو العمرة أو البذلة، يحتاج إلى قياس خاص بعد اعتبار الجسم من حيث مزاجه، ثم اعتبار الحرفة التي يحترفها الشخص. وقد عرف غاندي قياسه، واطمأن، ويجب على كل منا أن يعرف أيضا قياسه بعد التجارب التي يقوم بها في نفسه.
الجزء
مقالات بقلم غاندي
الفصل الحادي والعشرون
إلى الإنجليز في الهند
لا أستطيع أن أقيم البراهين على شرف غايتي إذا لم تحسوا أنتم ذلك. وبين إخواني الهنود من يتهمني بأني أضمر غير ما أظهر حين أقول لهم إنه يجب علينا ألا نكره الإنجليز وإن كنا نكره النظام الذي وضعوه لنا. فإني أحاول أن أفهمهم أننا نستطيع أن نكره الشر الذي ينزله بنا أحد الناس دون أن نكرهه هو. فقد كان المسيح يلعن شرور الكتبة والفريسيين دون أن يكرههم. وهو حين شرع الحب للناس، أو الكراهة لشرورهم، لم يكن يعني نفسه فقط، بل كان يقصد التعميم بين جميع الناس. والواقع أني أجد هذه الشريعة في جميع الكتب المقدسة في العالم.
وأنا أدعي أني على شيء من فهم الطبيعة البشرية، وأني أستطيع أن أعرف أماكن الضعف عندي. وقد وجدت أن الإنسان يفضل النظام الذي يخترعه ويسمو عليه، ولذلك أشعر أن كلا منكم يفضل النظام الذي وضعتموه جماعة. وقد كان كل واحد من الهنود في مدينة أمريتسار خيرا من الجماعة التي كان هو عضوا فيها، ولو أنه طلب إليه أن يقتل أولئك المديرين الأبرياء للبنك الإنجليزي لرفض. ولكنه نسي نفسه وهو في غمار الجماعة.
ومن هنا الفرق بين الإنجليزي، وهو في كرسي المنصب، وبينه وهو خارجه. وكذلك هناك فرق بين الإنجليزي في الهند والإنجليزي في إنجلترا. فأنتم هنا، في الهند، تنتسبون إلى نظام يتجاوز حدود الوصف في الخسة والدناءة، ولذلك يمكنني أن ألعن النظام بأشد لهجة دون أن أتهمكم أنتم بالسوء أو أن أنسب إليكم بواعث سيئة؛ لأنكم أنتم عبيد لهذا النظام كالشأن عندنا سواء. ولذلك أود منكم أن تبادلوني هذا النظر، فلا تتهموني بعواطف أو بواعث لا تجدونها فيما أكتبه. وأنا أصرح لكم بجملة هذه البواعث حين أقول إن صبري قد نفد عن هذا النظام القائم الذي يجعل الهند خاضعة لحفنة منكم، ويجعلكم تطمئنون فقط إلى المدافع والحصون التي تواجهنا في كل مكان في الهند. فإن هذه المناظر تحط من شرفكم وشرفنا معا، فنحن وأنتم نعيش ونحن نتبادل الخوف وسوء الظن. وأنتم لا بد تعرفون أن هذه الحال لا تليق بالرجال. ومثل هذا النظام لا يمكن أن يستند إلا إلى إبليس، بينما كان من الممكن أن تعيشوا في الهند كأنكم من بعض أهلها بدلا من أن تكونوا كما أنتم الآن أجانب تستغلونها. وإنه لمذهب من مذاهب اليأس المظلم ذلك الذي يقول إن حياة ألف هندي تساوي حياة إنجليزي واحد، ومع ذلك فإني أقول الصدق حين أقول لكم إن هذا المذهب صرح به سنة 1919 أعظم رجالكم.
إني أشعر بما يغريني بأن أدعوكم لكي تنضموا إلى هدم هذا النظام الذي وقعنا فيه نحن وأنتم، ولكني أشعر أيضا بأنني لا أستطيع ذلك الآن لأننا لم نبلغ بعد هذه الحال من الرغبة في بذل النفس، وضبطها، لكي نحقق هذا الاتحاد. ولكني أطلب إليكم أن تساعدونا في شيئين هما:
مقاطعة القماش الأجنبي.
ومقاطعة المشروبات الروحية.
فإن أقمشة لنكشير، كما أوضح ذلك المؤرخون الإنجليز، قهرت الهند على قبولها، بينما منسوجات الهند قد دمرت تدميرا منظما مقصودا. ولم تصبح الهند بذلك تحت رحمة إنجلترا وحدها بل أصبحت تحت رحمة اليابان وفرنسا وأمريكا. وانظروا أنتم الآن إلى مغزى هذا العمل، فإننا نرسل كل عام، في طلب الأقمشة الأجنبية نحو أربعين مليون جنيه، مع أننا نزرع من القطن ما يكفي حاجتنا من القماش. وإذن أليس من الجنون أن نرسل قطننا إلى الأقطار الأجنبية ثم نعود فنجلبه منها وهو مصنوع، وهل كان من العدل أن تحطموا الهند إلى هذه الحال؟
لقد كنا قبل 150 سنة ننسج جميع أقمشتنا، وكان نساؤنا يغزلن في القرى ويساعدن أزواجهن بذلك على العيش، وكان الغزل جزءا متمما للاقتصاد الوطني في بلاد زراعية مثل بلادنا، وكان يشغل فراغنا بطريقة طبيعية. ولكن نساءنا نسين الآن فن الغزل، وقهر الملايين من السكان على أن يبقوا في عطلة تزيد فاقتهم، حتى صار كثير من النساجين يشتغلون بكنس الشوارع، بينما كثير غيرهم قد تجند في الجيش يعمل مأجورا في العسكرية. وباد نصف النساجين الفنيين بينما النصف الآخر ينسج أقمشته بالغزل الأجنبي لأنه لا يجد غزلا هنديا.
ولعلكم تدركون الآن معنى مقاطعة الأقمشة الأجنبية، فإننا لا نتخذ هذه الخطة للعقاب، ولو أننا نلنا استقلالنا الآن لما كففنا عن المقاطعة، وأقل ما يعنيه الاستقلال أن نكون قادرين على أن نصون الصناعات الهندية التي تتعلق بها حياة الكيان الاقتصادي للأمة، وأن نمنع تلك الواردات التي تضر بهذا الكيان الاقتصادي. والزراعة والغزل كلاهما يؤلف رئتي الجسم الوطني، ويجب أن نحميهما من السل مهما كلفنا ذلك.
وهذه المسألة لا تجيز لنا التمهل والانتظار، ولا يمكننا أن نلتفت إلى مصالح أصحاب المصانع الأجنبية أو مصالح المستوردين من الهنود، لأن الأمة تموت الآن لحاجتها إلى صناعة أخرى تلحق بالزراعة هي صناعة الغزل.
ويجب ألا تخطئوا وتحسبوا أننا نقصد إلى مقاطعة جميع البضائع الأجنبية، فإن الهند لا ترغب في إقفال أبوابها دون التجارة العالمية. وتلك الأشياء التي تصنع عند الأمم الأخرى بأحسن مما تصنع عندنا يجب، مع استثناء الأقمشة، أن نقبلها مع الشكر بشروط يتبادل فيها الطرفان المنفعة. ولن تقبل الهند شيئا تقهر عليه. ومع أني لا أحب أن أطل من الآن على المستقبل فإني أقول إني أؤمل أن تستطيع الهند قريبا أن تتعاون مع إنجلترا على أساس المساواة بينهما، وعندئذ يمكن بحث العلاقات التجارية بينهما، ولكني الآن أناشدكم المعونة لتحقيق مقاطعة الأقمشة الأجنبية.
ثم تبقى بعد ذلك المسألة الثانية، وهي مقاطعة المشروبات الروحية. فإن الحانات لعنة مفروضة على الأمة ولا يمكن الصبر عليها، ولم تكن الهند في أي وقت من الأوقات متنبهة لهذه المسألة كما هي الآن، وإني أصرح هنا بأن رجال الدين في الهند هم الذين يمكنهم أن يعاونوا في هذه المسألة أكثر منكم، ولكني أحب منكم أن تكشفوا عن نياتكم، فإن الأمة الهندية ستلح على منع المشروبات الروحية منعا باتا مهما كان نظام الحكومة. ويمكنكم أن تساعدوا على نمو هذه الحركة بأن تضموا نفوذكم إلى جهود الأمة. وإني صديقكم الأمين.
الفصل الثاني والعشرون
إلى نساء الهند
أخواتي العزيزات
لقد قرر «مؤتمر جميع الهند» أن يعين يوم 30 سبتمبر (من سنة 1921) لكي يكون تاريخ إتمام حركة مقاطعة القماش الأجنبي التي أشعلنا نارها في 31 يوليو في بومباي في ذكرى الوطني طيلاك. وقد أعطيت امتياز إشعال النار في كومة كبيرة من أقمشة السيدات الغالية التي كنتن تعددنها إلى ذلك الوقت جميلة فاخرة. وإني أشعر أن أولئك الأخوات اللواتي قدمن أقمشتهن وملابسهن للنار قد أحسن صنعا؛ لأن إحراق هذه الملابس والأقمشة هو أحسن ما كان يمكن أن نعمله بها، حتى من الوجهة الاقتصادية، كما أن إحراق الأشياء الملوثة بمكروبات الطاعون هو أحسن عمل اقتصادي نعامل به هذه الأشياء. فلقد كان هذا الحريق عملية جراحية لجأنا إليها لكي نقي بها جسم الأمة من أمراض أخرى هي أعصى على العلاج وأشد فتكا.
لقد قامت نساء الهند في الأشهر الاثني عشر الماضية بالمعجزات في خدمة وطنهن، وقد أديتن أعمالكن في صمت، كأنكن ملائكة الرحمة، وأعطيتن نقودكن وجواهركن لقضية الوطن، وهذا إلى طوافكن من منزل إلى آخر للدعاية الوطنية. بل منكن من قمن بالتفتيش على المتاجر للبحث عن الأقمشة الأجنبية. وبعض منكن، ممن تعودن الملابس الزاهية التي تختلف ألوانها، والتي كن يبدلنها مرات في اليوم، تركنها واتخذن القماش الهندي الأبيض الساذج بديلا منها، فكان بياضه الناصع رمزا لهذه الطهارة التي تمتاز بها طبيعة المرأة. وقد فعلتن ذلك كله من أجل الهند ومن أجل الخلافة ومن أجل بنجاب. وليس في كل ما فعلته أيديكن، أو فاهت به ألسنتكن، إثم، لأن تضحياتكن خالية من روح الغضب أو الكراهية. وإني أعترف لكن حين أقول إن استجابتكن للدعوة الوطنية قد أقنعتني بأن يد الله معنا، وليس هناك من البراهين التي تدل على أن حركتنا هي تطهير للنفس ما هو أقوى من تقدم نساء الهند لمعاونتها.
لقد أعطيتن كثيرا، ولكن الحركة تحتاج إلى أكثر ... فإننا لن نحقق غايتنا إلا إذا أعطيتن أكبر نصيب فيها. ولن تمكن المقاطعة ما لم تسلمن جميع ملابسكن الأجنبية وتقلعن عنها، ولن يمكن هذا الإقلاع إذا كنتن تستحسنها وتستجملنها، لأن المقاطعة تعني أن تجحدن الذوق الأجنبي، إذ يجب علينا أن نقنع بالأقمشة التي تنتجها الهند كما نقنع بالأطفال التي تعطى لنا من الله. فإن الأم لا تطرح ابنها وتستغني عنه لأن الأغراب لا يستحسنون وجهه، وكذلك الحال مع المرأة الهندية الوطنية، فإنه يجب أن ترضى وتقنع بالمنسوجات الهندية التي غزلت خيوطها ونسجت أقمشتها أيدي الهنود. ويجب في فترة الانتقال هذه أن يرضيكن القماش الهندي الخشن، فإذا استطعتن أن تحلينه وتزينه فلكن ذلك. وإذا أنتن ارتضيتن هذا القماش على خشونته الآن، فلن تمضي أشهر قليلة حتى تتفق للهند نهضة فنية في صنع الأقمشة. وعندئذ نرى الملابس الزاهية الفاخرة التي كانت في الأزمنة القديمة موضع الحسد واليأس من العالم كله. وإني أؤكد لكن أنكن إذا عمدتن إلى إنكار النفس مدة ستة أشهر فإنكن ترين أن ما نحسب الآن أنه ذوق فني حسن إنما هو فن كاذب، وأن الفن لا يكون سليما صحيحا بما له من شكل فقط بل تتوقف سلامته على ما وراءه وما يختفي خلفه، فهناك فن للقتل والإعدام وفن آخر لبعث الحياة. وهذه المنسوجات التي ترد إلينا من أوروبا ومن الشرق الأقصى قد قتلت الملايين من إخواننا وأخواتنا، وكانت السبب في وقوع آلاف من بناتنا في حياة العار. ولكن الفن السليم يجب أن يكون مظهرا للسعادة والرضا والطهارة. وإذا أردتن هذه الخصال فعليكن باتخاذ القماش الهندي، بل عليكن أن تجعلن اتخاذه إجباريا.
وليس اتخاذ القماش الهندي ضروريا فقط، بل يجب على كل منكن أن تشغل فراغها كل يوم بالمغزل. وقد اقترحت على الصبيان والرجال أن يغزلوا، ومنهم آلاف يغزلون الآن. ولكن عبء الغزل يجب أن يقع عليكن كما كانت الحال في الأزمنة القديمة، فقد كانت نساء الهند قبل مائتي سنة يغزلن ما يكفي الهند ، بل ما يفيض عنها ويرسل إلى الأقطار الأجنبية. ولم يكن يغزلن الغزل الجافي فقط، بل كن يغزلن أيضا أدق الغزل، وأمتنه، وأرفعه، وهو ما لم تستطع الآلات الحديثة أن تصنع مثله أو تقاربه. فعليكن إذن أن تؤلفن أندية خاصة بالغزل، وأن تقمن بمباريات للتشجيع، حتى تملأ أسواق الهند بالغزل اليدوي. ولهذه الغاية يجب أن يكون منكن من يمهرن في الفن، ويعرفن التمشيط، ويستطعن إصلاح الآلات، وهذا معناه الدأب في العمل. وسيكون الغزل وسيلة العيش للمرأة الفقيرة، وعونا على العيش للمرأة المتوسطة، وستعود آلة الغزل رفيقة للأرملة كما كانت في الأزمنة السابقة. أما أنتن اللواتي تقرأن هذا النداء فيجب أن يكون الغزل عندكن واجبا، فإذا عمدت كل امرأة متيسرة إلى الغزل، وخصصت له من يومها وقتا، كثر في الأسواق وتحسن.
ولذلك أقول لكن إن خلاص الهند الاقتصادي، والأخلاقي، يتوقف في الأكثر عليكن. ومستقبل الهند الآن مطروح على حجر المرأة الهندية يطلب منها الغذاء للأجيال القادمة. ويمكنكن أن تنشئن أطفال الهند وتربينهم على أن يكونوا أحد شيئين: إما شجعانا يتحلون بالبساطة وخوف الله، وإما ضعفاء مدللين لا يستطيعون مصادمة العواصف التي ستواجههم ولا يطيقون الإقلاع عن البهارج التي اعتادوها.
الفصل الثالث والعشرون
التعليم في الهند
لقد قيلت أشياء كثيرة عن آرائي في التعليم في الهند، ولذلك أرى أنه قد يكون من المفيد للجمهور أن أحدد هذه الآراء وأوضحها.
إني أرى أن نظام التعليم في الهند، بصرف النظر عن علاقته بالحكومة الظالمة القائمة، ناقص من ثلاثة وجوه هي: (1)
أنه يعتمد على ثقافة أجنبية مع تنحية الثقافة الهندية أو مقاطعتها. (2)
أنه يتجاهل ثقافة القلب واليد ولا يبالي سوى ثقافة الذهن. (3)
أن التربية الحقيقية لا تقوم على أيدي الأجانب.
ولننظر الآن في هذه العيوب الثلاثة، فالكتب المدرسية التي يدرسها الصبيان لا تعالج الموضوعات التي تصدمهم في بيوتهم، وإنما تعالج موضوعات غريبة عنهم كل الغرابة. وصبياننا لا يعرفون ما يحق لهم وما يجب عليهم في البيت من هذه الكتب المدرسية. وهم لا يجدون فيها ما يوحي إليهم الشعور بالكرامة، والفخر من البيئة التي يعيشون فيها، وهم لذلك لا يجدون في البيت شيئا من الشعر، ومناظر القرية كتاب مطبق أمام عيونهم. وأما المدنية الهندية فتشرح لهم في هذه الكتب المدرسية كأنها شيء وحشي همجي لا فائدة منها أصلا للحياة العملية، وهذا التعليم ينتهي بالصبي إلى أن يفطمه من الثقافة الهندية. وإذا كان سواد الشبان لم يفقدوا إلى الآن قوميتهم فذلك لأن ثقافة أسلافنا أعمق من أن تستأصل بتعليم يضاد نموها. ولو كان لي الخيار لعمدت إلى معظم هذه الكتب المدرسية وأتلفتها لإيجاد كتب جديدة تتصل بالحياة المنزلية حتى يمكن للتلميذ أن يتعلم منها ما ينفعل به في بيئته المحيطة به.
ثم إن بلادا كالهند يعيش 80 في المائة من سكانها بالزراعة، و10 في المائة بالصناعة، يكون من الجناية على أبنائها أن يبقى التعليم فيها أدبيا فقط. فينشئون وهم عاجزون عن العمل اليدوي. وإني أرى أننا ما دمنا نقضي معظم وقتنا للكد في طلب العيش، فإن صبياننا يجب منذ طفولتهم أن يعرفوا للعمل كرامته، ويجب ألا يعملوا شيئا ينقص من هذه الكرامة ويجعلهم يحتقرون الكد والعمل. وليس هناك من سبب يجعل ابن الفلاح يكره العمل الزراعي عندما يتعلم، وإنه لمن المحزن أن نرى صبياننا يكرهون العمل اليدوي بل يحتقرونه. ثم إننا في الهند لا نستطيع أن نعمم التعليم بين جميع الصبيان إذا أردنا أن نؤسس المدارس على هذا النمط الحديث، لأننا نعجز عن توفير المال اللازم لها. ولن يمكن الآباء أن يؤدوا المصروفات المدرسية التي تطلب الآن لهذه المدارس؛ فالتعميم يقتضي المجانية. وظني أننا حتى عندما نحصل على نظام الحكم الذي ننشده فإننا لن نستطيع أن نرصد في الميزانية 2000 مليون روبية للتعليم، وهو المبلغ الذي يحتاج إليه تعميم التعليم بين جميع الصبيان. ولذلك لا بد لنا من أن نجعل الصبيان يؤدون بعملهم بعض، أو كل، نفقات تعليمهم. ومثل هذا العمل لن يكون مربحا، يقوم بنفقات التعليم، إلا إذا كان غزلا أو نسجا يدويا، وهذا رأيي. وقد يمكن الاهتداء إلى عمل آخر غير الغزل والنسيج، ولكن بعد النظر والتأمل لا نجد عملا يمكن التوسع فيه والاعتماد على نتائجه العملية في المدارس الهندية مثل الغزل والنسيج.
وإدخال الأعمال اليدوية في المدارس، في قطر فقير مثل قطرنا، ستكون له نتيجة مزدوجة. إذ هي تؤدي عن التلميذ مصروفاته طول مدة تعلمه بالمدرسة، ثم عقب خروجه تزوده بصناعة تمكنه من الاستناد إليها عند الحاجة لكسب قوته. وهذا النظام يعلم أبناءنا الاعتماد على النفس، والعمل للعيش. وليس شيء في العالم يهدم أخلاق الأمة مثل احتقار أبنائها للعمل اليدوي.
ثم لي كلمة موجزة عن حظ القلب من التعليم. واعتقادي أن هذا التعليم لا يمكن أن يتحقق من سبيل الكتب، وإنما سبيل ذلك هو العلاقة الحية بين المعلم والتلاميذ. ومن هم المعلمون في المدارس الابتدائية والثانوية؟
هل هم رجال إيمان وأخلاق؟ هل هم حائزون للصفات التي تبعثها تربية القلب؟ أوليست طريقة اختيار المعلم للمدارس الأولية كفيلة بحرمانه من الأخلاق؟ وهل هؤلاء المعلمون على ما يكفي عيشهم؟
ثم إن التعليم بالطرق الأجنبية والكتب الأجنبية قد علم أبناءنا الحشو، وأتعب أذهانهم حتى صاروا لا يصلحون للعمل أو التفكير البكر. كما أنه حال دون الصلة الثقافية بينهم وبين ذويهم أو بينهم وبين الجمهور، بل هو جعلهم أجانب في وسط بلادهم. وإذن لكي ننقذ أنفسنا من هذه الحال الخطرة يجب أن نقف تعليم أولادنا باللغة الأجنبية ونحتم على المعلمين والأساتذة تعليمهم باللغات الهندية، وإلا جاز لنا فصلهم وطردهم. ولست أنتظر تأليف الكتب المدرسية لتحقيق هذه الغاية لأن التعبير المنشود يجب أن يسبق هذه الكتب، وهو تغيير لا يحتمل التأخير.
وقد حمل علي بعضهم عندما أعلنت آرائي بشأن اللغة الأجنبية للتعليم، واتهموني بأني أكره الثقافة الأجنبية أو تعلم اللغة الإنجليزية. مع أنه ليس هناك قارئ لمجلة «يونج أنديا» إلا ويعلم أني أعد اللغة الإنجليزية اللغة التجارية العالمية، والسياسية الدبلوماتية، ولذلك لا بد من أن يتعلمها عدد منا. ثم هذه اللغة تحتوي على كنوز خصبة للآداب والأفكار. ولذلك أرى تشجيع القادرين على تعلمها إذا وجدوا في أنفسهم الاستعداد. وأرى أنه يجب أن ينقلوا إلى اللغات الهندية ما في هذه اللغة من كنوز أدبية.
فإقامة الحواجز لمنع الثقافة الأجنبية هو أبعد الأشياء عن ذهني. ولكني أقول إننا لن نستطيع تقدير هذه الثقافة إلا بعد أن نكون قد تشبعنا بثقافتنا الهندية. ورأيي الذي لا أحيد عنه هو أنه ليس في العالم ثقافة تحتوي من الكنوز مثل ما تحتويه ثقافتنا. ولكننا جهلنا ثقافتنا، بل نحن تعلمنا الانتقاص من قيمتها، وكفننا عن العيش على أساليبها. وليست الثقافة للتعلم فقط وإنما هي للعمل. فإذا قصرنا أنفسنا على العلم دون العمل صارت بمثابة الجسم المحنط، قد يبدو حسنا ولكنه لا يبعث الحياة أو العزة. وإن لي دينا يمنعني من استصغار شأن أية ثقافة أجنبية، ولكن هذا الدين نفسه يحتم علي أن أشبع نفسي بثقافة الهند وأن أعيش على أساليبها وإلا كان جزاء إهمالها الانتحار المدني.
الفصل الرابع والعشرون
مذهب السيف
في هذا العصر، عصر القوة الغشوم، يكاد يكون من المحال أن نؤمن بأن هناك من يجحد سيادة القوة. ولهذا السبب ترد إلي خطابات غير موقعة ينصح لي فيها كاتبوها ألا أعوق التقدم في حركة العصيان المدني ولو فشا في الحركة العنف والبطش. ثم يفد علي آخرون، وهم يحسبون أني أضمر في نفسي العنف، فيسألونني متى تأتي الساعة لإعلان القتال الصريح وحمل السلاح، ثم يؤكدون لي أن الإنجليز لن يخضعوا لا للعنف المضمر أو الظاهر. وهناك آخرون يعدونني أسفل إنسان في الهند لأني لا أصرح بنيتي، مع أنهم ليس عندهم ظل من الشك بأني أؤمن مثل سائر الناس بالعنف.
ولما كانت هذه الحال تدلني على تمسك الناس بمذهب السيف، ولما كان نجاح العصيان المدني يتوقف على انتفاء العنف، ثم لما كانت آرائي في هذا الموضوع تؤثر في سلوك عدد كبير من الأمة، أراني محتاجا إلى أن أنير الموضوع بقدر استطاعتي.
إني أومن بأنه إن كان هناك خيار بين الجبن والعنف، فإني عندئذ أنصح بالعنف. وقد حدث أن سألني ابني الأكبر ماذا يجب عليه أن يفعل لو أنه كان حاضرا يوم هوجمت سنة 1908، وهل كان عليه أن يتركني وهو يراني أكاد أكون مقتولا، أو كان يجب عليه أن يقف ويستعمل قوة جسمه للدفاع عني؟ فأجبته على هذا السؤال بأن واجبه عندئذ يقضي عليه بالدفاع والالتجاء إلى العنف.
وعلى هذا المبدأ اشتركت أنا في حرب البوير وفي فتنة الزولو وفي الحرب الكبرى. وعلى هذا المبدأ أيضا أدعو إلى التدريب الحربي لأولئك الذين يؤمنون بوسائل العنف. وعندي أن أرى الهند وقد عمدت إلى السلاح، تحمله وتتأهب به للذود عن شرفها، أحب إلي من أن تقف وهي ترى انتهاك حرماتها وجرح كرامتها وهي صامتة.
ولكني أعتقد أن المقاومة السلبية خير من العنف، لأن الغفران يزين الجندي ولا يشينه. على أن الإحجام عن القتال لا يعد غفرانا إلا حين تكون القدرة على إنزال العقاب. وليس الغفران معنى إذا هو نبع من العجز والخوف، فإن الفأر لا يغفر للقط تمزيقه لجسمه. ولذلك فإني مقدر للعواطف التي تبعث الآن بعض الهنود إلى المطالبة بمعاقبة الجنرال داير، وأمثاله، فإنهم يودون لو يمزقونه إذا استطاعوا، ولكني لا أعتقد أن الهند عاجزة قد وقفت موقف الجزع لهذا العجز. ولست أعد نفسي عاجزا وإنما أريد أن أستغل قوة الهند وقوتي لغاية سامية.
فأرجو ألا يسيء أحد فهم ما أقول. فإن القوة لا تصدر عن قوة الجسم وإنما هي ثمرة الإرادة الصادقة. فإن الرجل من قبائل الزولو يتفوق على الإنجليزي في قوته الجسمية، ولكنه يفر عندما يرى صبيا إنجليزيا، لأنه يخشى أن يكون مع هذا الصبي مسدس أو أن يكون هذا المسدس مع المنتقمين لهذا الصبي منه، فهو يخشى الموت على الرغم من قوة جسمه وضخامته.
ونحن في الهند نعرف أن مائة ألف إنجليزي لن يستطيعوا أن يخيفوا ثلثمائة مليون هندي. فالغفران هنا لا يعني الضعف بل هو اعتراف بقوتنا، ولا بد أن سيرافق هذا الغفران تيار عظيم من القوة نشعر به وكأنه يطموا بنا ويحول دون رجل مثل «داير» أو «فرانك جونسون» حين يبغيان هواننا ووصم جباهنا بالعار. وليس يهمني كثيرا الآن أن أقيم الأدلة على هذه النقطة. ولكنني أرى ألا أحجم عن القول بأن الهند تكسب أكثر لو أنها نزلت عن حقها في العقاب، وخير لنا أن نخلص العالم بهذا النوع الجديد من البر.
ولست خياليا في هذا القول، لأني أدعي أني أنشد المثل الأعلى بطريقة عملية. فإن ديانة المسالمة ليست مقصورة على القديسين، وإنما هي لعامة الأمة. وذلك أن المسالمة سنة البشر كما أن العنف سنة الوحوش التي يخمد روحها فلا تعرف سوى القوة الجسمية، أما الإنسان فإن كرامته الإنسانية تجعله يطيع سنة أخرى هي القوة الروحية.
وعلى ذلك تجرأت ووضعت أمام الهند ناموسها القديم، أي التضحية بالنفس. لأن «صطياجراه» أي «قوة النفس» التي تقول بها ديانتنا وما يتفرع منها من «عدم التعاون» و«العصيان المدني» ليست كلها شيئا سوى أسماء أخرى لناموس الألم. وأولئك الهنود الذين اكتشفوا ناموس المسالمة في وسط العنف كانوا أعظم في العقوبة من «نيوتن». وكانوا في الحرب أعظم من «ولنجنون» فقد كانوا يعرفون أساليب القتال، ولكنهم كفوا عنه، علموا العالم المتعب أن خلاصه لن يكون بالعنف وإنما يكون بالكف عن العنف.
والمسالمة تعني في شكلها الإيجابي آلاما محسوسة، وليست تعني الخضوع في وداعة لإرادة الأشرار. إنها تعني أن نجند النفس ضد إرادة الظالم، فإذا سرنا على هذا الناموس أمكن الفرد وحده أن يتحدى سلطان الإمبراطورية الظالمة لكي يزكي شرفه وديانته ونفسه ويضع الأساس لهدم هذه الإمبراطورية أو لبنائها من جديد.
وعلى هذا لست أدعو الهند إلى الكف عن العنف لأنها ضعيفة. وإنما أرغب إليها في أن تسير في خطة المسالمة. وهي ليست في حاجة إلى التدريب الحربي لكي تعرف هذه القوة. وعندنا من يظن أننا في حاجة إلى هذه القوة لأنه يعتقد أننا أجسام من اللحم فقط. ولكني أرغب إلى الهندي في أن يعرف أن له نفسا وأن هذه النفس لن تهلك، وأنها تستطيع أن ترتفع فوق الضعف الجسمي، بل تستطيع أن تتحدى القوة المادية في العالم كله.
وإني مع ذلك رجل عملي، ولست أنتظر حتى تعرف الهند فائدة الحياة الروحية في العالم السياسي. فإنها ترى نفسها الآن ضعيفة مشلولة أمام مدافع الإنجليز ودباباتهم. وهي تنتزع خطة المسالمة من هذا الضعف. وهي على الرغم من ذلك تحقق الغاية المرجوة، غاية الخلاص من وقر المظالم الإنجليزية، إذا مارس هذه الخطة عدد كاف من الأمة.
وهذه الخطة تختلف عن خطة «شن فين» الأرلندية من حيث إنه لا يمكن أن يرافقها عنف. وإني أدعو حتى القائلين بالعنف أن يجربوا هذه الخطة التي لن تفشل لضعف أساسها وإنما تفشل لضعف الاستجابة لها. وهنا يبدو الخطر، لأن الرجل السامي الذي لا يطيق هوان الوطن، يغضب، ويحتدم، ويحتاج إلى التنفيس، فيعمد إلى العنف. وهو عندئذ يهلك دون أن يخلص نفسه أو بلاده من المظالم. وإذا آمنت الهند بمذهب السيف فإن ظفرها لن يكون مقيما دائما، ولن أستطيع عندئذ أن أفخر بها، لأني أعتقد أن للهند مهمة خاصة في العالم، وليس عليها أن تحاكي أوروبا وتنقل عنها نقلا أعمى. وحين تعتنق الهند مذهب السيف تكون محنتي، ولن أضعف عندئذ، ولكني أقول إنه ليس لديانتي حدود جغرافية وإيماني الحي بهذه الديانة يتجاوز حدود الهند. فلقد أرصدت حياتي لخدمة الهند عن طريق الكف عن العنف، وهي طريق أرى أنها أساس الديانة الهندوكية.
الفصل الخامس والعشرون
الخوف من الموت
كنت قد أخذت أخيرا في جمع نعوت مختلفة للاستقلال، فمن هذه النعوت أن الاستقلال هو ترك الخوف من الموت، لأن الأمة التي تجيز لنفسها أن تتأثر من الخوف من الموت لن تنال استقلالها. وهي لو نالته لما استطاعت القيام عليه والاحتفاظ به.
إن الإنجليزي يحمل حياته في كفه. وكذلك العربي والياباني، كل منهما يعد الموت كأنه لا يزيد على ألم من الآلام المعتادة، وهو لا يبكي إذا مات له قريب. ونساء البوير لا يعرفن لهذا الخوف معنى. ولقد مات في الحرب الأخيرة بين البوير والإنجليز آلاف من الشبان، وترملت آلاف من النساء، فلم يبالين ذلك . إذ لم يكن يهمهن قليلا أو كثيرا أن يموت ابن أو زوج، لأنه كان يكفيهن، أو يزيد على كفايتهن أن الأمة برت بشرفها. وما منفعة الزوج إذا أصبحت الأمة عبيدا؟
لقد رأى البوير أنه خير لهم أن يدفنوا رفات أبنائهم ويذكروا حياتهم الخالدة، من أن ينشئوا في وسطهم عبيدا. وهكذا راضت الأمهات قلوبهن على الصرامة، وقدن أبناءهن في بشر وابتهاج إلى ملك الموت.
وأولئك الذين ذكرناهم، يقتلون غيرهم، ويقتلهم غيرهم. ولكن ماذا نقول في أولئك الذين لا يقتلون غيرهم وإنما يرضون بأن يكونوا هم القتلى والضحايا؟ إن هؤلاء يستحقون إعجاب العالم وحبه. إنهم ملح الأرض.
لقد حارب الإنجليز الألمان، وقتل كل منهم الآخر، وكانت نتيجة هذا القتال زيادة العداوات. وزاد القلق، وساءت حال أوروبا من هذه الحرب، وزاد المكر، وصارت كل أمة تحتال وتداور الأمم الأخرى.
ولكننا عندما نقول إنه يجب ألا نخاف الموت ندعو إلى ما هو أشرف وأطهر من القتال والحرب، وبهذا نؤمل أن نحقق الظفر العظيم في أقصر وقت.
وعندما نحقق استقلالنا يكون كثير منا قد أقلع عن الخوف من الموت. وإلا فإننا لن نبلغ الاستقلال. والذين ماتوا في قضية الوطن كانوا إلى الآن من الصبيان. ولم يزد عمر واحد من الذين قتلوا في عليكرة على 21 سنة، ولم يعرف أحد أشخاصهم. فإن لجأت الحكومة إلى الضرب بالرصاص فإني أرجو أن يكون في الصف الأول من الضحايا الذين يقدمون أنفسهم للموت بعض الرجال.
ولماذا نحزن إذا مات بعض الصبيان أو الشبان أو الشيوخ؟ إنه لا تمر لحظة على العالم حتى يولد ويموت فيها أناس. وعلينا أن نشعر ببلاهتنا عندما نفرح بمولود أو نحزن لميت. وأولئك الذين يؤمنون بالروح يعرفون أن الروح باق بعد الموت. وليس هناك بين الهندوكيين أو المسلمين أو البارسيين من لا يؤمن بالروح. وأرواح الموتى سواء وأرواح الأحياء. فإن الخلق والفساد دائبان لا يفتران، وليس فيهما ما يدعونا إلى الفرح أو الحزن. وحتى عندما نقصر الرحم الإنسانية على أبناء أمتنا فقط، ونجعل منها أسرة كبيرة ، ونسأل كم مولود يولد فيها لكي نحتفل به، ثم كم ميت فيها يموت لكي نرثيه، فإننا نقصر عن البكاء وتجف دموعنا. وحسبنا هذه السلسلة من الخواطر لكي نتخلص من الخوف من الموت.
وقد قيل إن الهند بلاد الفلاسفة، ولم نرفض نحن قبول هذه التحية، ومع ذلك فإنا لا نكاد نعرف أمة أخرى تجزع للموت كما نجزع، ثم في الهند نفسها ليست طائفة تجزع للموت كما يجزع الهندوكيون. ونحن نطير من الفرح إذا ولد لنا مولود، ويشملنا عندئذ طرب سخيف، فإذا مات ميت تهتكنا في العويل الصاخب الذي يؤرق الجيران طول الليل. فإذا كنا نرغب في الاستقلال، وإذا كنا نريد بعد تحقيقه أن نحتفظ به، فلا بد من أن نجحد هذه العادات ونقلع عنها.
ثم ما هو الحبس عند الرجل الذي لا يخشى الموت؟
إذا تأمل القارئ هذا الموضوع قليلا فإنه واجد أننا إذا لم نحقق استقلالنا فإن عجزنا عن تحقيقه سيعود إلى أننا لا نتقبل الموت، وما هو أقل من الموت، هادئين راضين.
وكلما ازداد عدد الأبرياء الذين يتلقون الموت بصدورهم ويضحون بأنفسهم، كانت تضحيتهم أداة لخلاص الآخرين، فتقل الآلام بذلك. وكل ألم نقبله بابتهاج، تزول عنه صفته، فيستحيل إلى فرح مقيم في النفس. وذلك الرجل الذي يفر من الآلام ويخشاها يبقى في هم وغم، حتى إذا وقعت به ألفته قد أشقى - من خوف وقوعها - على الهلاك. ولكن ذلك الذي يعد نفسه في ابتهاج لقبول أي شيء ينزل به لا يحس ألما، لأن ابتهاجه يقوم لديه مقام المخدر.
وإنما أكتب هذا لأني أرى أننا لا يمكننا أن نحقق استقلالنا إلا إذا كنا على أهبة الموت ننتظره ونقدر وقوعه. ومن استعد، وتأهب، كان حريا أن ينجو من الحوادث. واعتقادي الراسخ أن التأهب يقتضي اتخاذ القماش الوطني، وإذا نحن نجحنا في الاقتصار على القماش الوطني فإن هذه الحكومة، أو أية حكومة غيرها، لا يمكنها أن تجرب فينا تجربة أخرى.
ولكن مع ذلك يجب ألا نهمل الطوارئ، فإن للسلطان سكرة تعمي وتصم، حتى لا يقدر الأقوياء أن يروا ما تحت أنفهم أو يسمعوا ما يطرق آذانهم. ولسنا نعرف إلام تنتهي هذه الحكومة التي أسكرها سلطانها، وعلى ذلك يبدو لي أنه يجب على جميع الوطنيين أن يستعدوا للموت والحبس وما إليهما.
والشجعان يلقون الموت وعلى شفاههم الابتسامات، ولكنهم مع ذلك يحترسون. فإنه ليس في هذه الحرب السلمية للاستقلال مكان للرعونة ... فإنا لا نقترح الموت أو الحبس من أجل غاية تخالف الأخلاق الحسنة، ولكن يجب أن نستعد للصعود على المشنقة ونحن نقاوم مظالم الحكومة.
كان القديس فرانسس يطوف في الغابات، ولم ينله مع ذلك أذى من الثعابين أو سائر الوحوش، بل حدث العكس، وهو أن هذه الحيوانات كانت تألفه. والآن في الهند يعيش آلاف من «الفقراء» وأصحاب الطريقة في غابات هندوستان بين الأسود والببرة والثعابين، فلا نسمع أن واحدا منهم قد قتلته هذه الحيوانات. وإني أؤمن بذلك المذهب الذي يقول إنه ما دام الإنسان لا يعتدي على الحيوان فإن هذا لا يعتدي عليه أيضا. وأعظم صفات الإنسان وأجلها هو الحب. وعبادة الله هي هباء ما لم يكن الحب أساسها. •••
إنما ننشد بالحب أن نقهر غضب الإنجليز الحاكمين وأنصارهم. علينا أن نحبهم وندعو الله أن يحبوهم بالحكمة لكي يروا ما يبدو لنا من أخطائهم. ويجب أن نرضى بأن يقتلونا، ولكن يجب ألا نقتلهم نحن. وإذا ألقوا بنا في السجون فيجب أن نرضى بهذا الحظ دون أن نحس بالكراهة ونفكر في الانتقام.
الفصل السادس والعشرون
المنبوذون في الهند
إني أعد وجود المنبوذين في الهند أكبر وصمة للديانة الهندوكية. وأنا لم أهتد إلى هذا الرأي بالاختبارات القاسية التي مرت بي وأنا في أفريقيا الجنوبية، ولا لأني كنت في بعض أيامي الماضية متشككا في الدين. وكذلك من الخطأ أن يحسب أحد، كما ظن بعضهم، أني اكتسبت هذا الرأي من دراستي للديانة المسيحية وآدابها، لأن الحقيقة أن هذا الرأي يرجع إلى ما قبل معرفتي بكتب المسيحية أو الاختلاط بالمسيحيين.
لقد كنت في الثانية عشرة أو دونها حين أضاء ذهني بهذه الحقيقة، فقد كان يأتي إلى بيتنا زبال من المنبوذين يدعى «أوكا» ينظف المراحيض، وكنت كثيرا ما أسأل أمي لماذا لا يجوز لي أن ألمسه، ولماذا أمنع من لمسه؟ وكنت إذا اتفق لي أن لمسته خطأ يطلب مني أن أتوضأ. وكنت أطيع بالطبع ما يطلب مني، ولكني كنت مع ذلك أعارض في ابتسام وأقول إن الديانة الهندوكية لا تعرف أحدا منبوذا، وأنه من المحال أن نقر هذه الحال. وكنت صبيا مطيعا أؤدي واجباتي ما دامت تتفق مع احترامي لوالدي. وكثيرا ما كنت أجادلهما في هذه المسألة حتى قلت لأمي إنها مخطئة كل الخطأ في الاعتقاد بأني أذنب عندما ألمس «أوكا».
ولما كنت في المدرسة كنت كثيرا ما ألمس المنبوذين، ولما لم يكن من طبعي أن أكذب على والدي، فإن أمي كانت عندما أخبرها بأني لمست منبوذا تنصح لي بأن أقصر طريق لمحو النجاسة التي لحقتني من لمس المنبوذ هي أن ألمس أي رجل مسلم يلقاني في الطريق. وكنت أؤدي هذا العمل لا اعتقادا بأنه واجب ديني بل احتراما لأوامر والدتي.
ثم انتقلنا بعد ذلك إلى بلدة «بوريبندر» حيث شرعت في تعلم اللغة السنسكريتية، ولم أكن قد التحقت بعد بإحدى المدارس الإنجليزية، ولذلك كنت أنا وشقيقي في كفالة أحد البراهمة الذي علمنا هاتين الأدعيتين بالسنسكريتية: «إن الله كائن في الماء»
و«إن الله كائن في الأرض»
ولم أنس واحدة منهما إلى الآن.
وكانت امرأة عجوز تقيم بجوارنا، وكنت في تلك الأيام أخشى العفاريت كلما خيم الظلام وانطفأ المصباح، فلما عرفت العجوز بخوفي من الظلام نصحت لي أن أسرد أدعية خاصة تدعى «راما راكشا» فإذا سردتها تبددت الأرواح الشريرة. وقد استمعت لنصيحتها، وأفادني الاعتقاد، فصرت لا أخاف. ولم أعتقد أن في هذه الأدعية أي شيء يمكن أن يفهم منه أن لمس المنبوذين يعد خطيئة، ولم أكن أفهم هذه الأدعية، أو كنت أفهمها فهما ناقصا، ولكني كنت واثقا أن هذه الأدعية التي تصرف الشياطين والعفاريت لم يكن فيها أي شيء يتعلق بالخوف من لمس المنبوذين.
وكنا نقرأ أدعية «رامايانا» في أسرتنا ونواظب على قراءتها، وكان يأتي إلينا أحد البراهمة ويسردها. وكان هذا البرهمي مجذوما، ولكنه كان واثقا أنه إذا أدام تلاوتها فإنه يبرأ من الجذام. والواقع أنه برئ من مرضه. وكنت أتساءل في ذلك الوقت:
كيف يمكن أن يعد الرجل الذي نعتبره الآن منبوذا من الأنجاس الذين لا يصح لمسهم؟ إذا كانت «رامايانا» تقول إن واحدا منهم قد حمل «راما» فوق نهر الكونج على زورقه، إذ هل يعقل أن يعد مثل هذا الرجل منبوذا نجسا؟
ثم إننا ونحن نصلي نصف الله بأنه «مطهر الأنجاس» وهذا يدل على أنه من الخطأ أن نحسب إنسانا مولودا في الهندوكية من المنبوذين الأنجاس، لأن هذا الاعتقاد شيطاني. ومن ذلك الوقت وأنا لا أسأم من القول إن هذا الاعتقاد خطيئة كبرى. ولست أدعي بأن هذه العقيدة قد تبلورت في نفسي وأنا في الثانية عشرة، ولكني أقول إني في تلك السن كنت أعد النجاسة - أي اعتقاد طائفة من الناس بأنهم منبوذون - خطيئة. وأنا أذكر هذه القصة لإخواني الهندوكيين السنيين.
وأنا أعتبر نفسي هندوكيا من طائفة «سانا تاني» ولست أقصد بذلك أني لا أعرف كتبنا المقدسة القديمة، فإني وإن لم أكن عالما باللغة السنسكريتية علما عميقا، فإني قد قرأت هذه الكتب مترجمة وأستطيع أن أقول إني وقفت على روحها الصحيح. ولما بلغت الحادية والعشرين من عمري درست الأديان الأخرى، ومرت علي أوقات تأرجحت فيها بين الهندوكية والمسيحية، ولكن لما عاد إلي توازني الذهني شعرت أن خلاصي لا يكون إلا عن سبيل الديانة الهندوكية فازددت رسوخا في الإيمان بها كما ازددت نورا.
ولكني حتى هنا لا أعتقد أن النجاسة، أو وجود المنبوذين، هو جزء من الديانة الهندوكية.
الفصل السابع والعشرون
من غاندي إلى طاغور
مقتبس من خطاب طويل يرد فيه على تاجوري الذي استنكر إحراق الأقمشة الأجنبية
إني أقول إننا عندما فقدنا المغزل فقدنا رئتنا اليسرى، ولذلك نحن نشكو الآن مرض السل، ولن نستطيع وقف هذا المرض حتى نعيد المغزل. هناك أشياء يجب على جميع الناس أن يعملوها في جميع الأقاليم، وهذا المغزل واحد من هذه الأشياء التي يجب علينا جميعا في الهند أن نستعملها في طور الانتقال، ويجب على كثرة الأمة أن تستعملها في جميع الأوقات.
إن الذي أنزل المغزل في الهند من مكانته السامية هو تعلقنا بالأقمشة الأجنبية، ولذلك يجب أن نعد اتخاذ الملابس الأجنبية خطيئة، لأننا لا يمكننا أن نفصل بين الأخلاق والاقتصاديات التي تؤذي الأمة في أخلاقها، يجب أن تعد من الخطايا والذنوب.
وكذلك أيضا يجب أن نعد الاقتصاديات التي تقول باستغلال أمة لأخرى. ومن الخطيئة أيضا أن نشتري شيئا قد نهك العامل في صنعه أو بخس فيه حقه. ومن الخطيئة أيضا أن أشتري القمح الأمريكي في حين أن جاري الذي يبيع القمح الهندي لا يجد من يشتريه منه، كما أني أذنب ذنبا عظيما إذا أنا اشتريت الأقمشة الإنجليزية الغالية مع أني أعرف أني لو اشتريت القماش الذي غزله ونسجه عمال هنود فإني أستطيع أن أكسو نفسي وأكسوهم. ولذلك، فإنه عندما يتحقق لي ذنبي، وتفتضح أمام عيني خطيئتي، يجب أن أعمد إلى ما أملكه من ملابس أجنبية فألقيها في النار وأطهر بذلك نفسي، ثم أقنع بعد ذلك بأن ألبس القماش الهندي الذي ينسجه أبناء الهند حولي. وإذا لم أجد هنودا يغزلون، فإني أرى أنه يجب علي أنا نفسي أن أقوم بالغزل، حتى يقتدي بي الناس.
ولست أطلب من «تاجوري» أن يحرق قماشا لا يملكه، أما إذا ملك هذا القماش فقير ليس له غير الأطمار والأسمال، فليتركه له؛ لأني وأنا أحرق ملابسي الأجنبية إنما أمحو الخزي والعار عن نفسي، ثم لست أريد أن أهين العرايا بأن أقدم لهم ملابس أجنبية لا يحتاجونها، لأنهم إنما يحتاجون حاجة مرة إلى العمل الذي يكسبون منه العيش، ولست أريد أن أرتكب جناية التصدق عليهم لأني أرى أنه بدلا من أن ألقي لهم الفتات والأطمار البالية يجب أن أعطيهم من أطيب طعامي وأحسن ملابسي، وذلك بان أشترك معهم في العمل.
ثم لست أذهب إلى الاقتصار على الهند في وجوب التضحية وعدم التعاون، وإنما يمنعني تواضعي من أن أعلن للعالم كله هذا المذهب. ولكن ما الفائدة من إعلانه للعالم إذا لم يثمر في التربة التي غرس فيها أولا؟ إن الهند الآن لا تشارك العالم إلا فيما تعانيه من الهوان والفقر والطواعين. فهل يجوز لها أن تبعث بكتبها الدينية إلى العالم، إذا كنا نحن لا نعمل بها، ونحن ورثتها وحفظتها؟ ولذلك يجب، قبل أن أفكر في الاشتراك مع العالم، أن أمتلك شيئا. وأنا حين أقول بعدم التعاون لا أقصد إلى ألا نتعاون مع الإنجليز أو مع الغربيين، وإنما أريد أن نمتنع عن التعاون مع النظام الذي وضعه لنا الإنجليز بإملاء حضارة مادية وما يرافقها من جشع لاستغلال الضعفاء. ونحن حين نرفض التعاون ننكفئ إلى أنفسنا ونعلن للموظفين من الإنجليز أننا لن نتعاون معهم على الشروط التي يضعونها هم لنا. وكأننا نقول لهم: «هلموا نتعاون على شروط نضعها نحن، فيكون لنا ولكم وللعالم كله خير.» إذ يجب أن نأبى عليهم أن يجذبونا، ويوقفونا على أقدامنا، على الرغم منا.
ثم لا يمكن الغريق أن ينقذ غيره من الناس، وإذن لكي نستطيع إنقاذ الناس يجب أن ننقذ أنفسنا أولا. ولا تدعو الوطنية الهندية إلى العداء أو الهدم، وإنما هي وطنية دينية تزيد العالم صحة وإنسانية. وعلى الهند أن تتعلم كيف تعيش قبل أن تعلم الإنسانية كيف تموت. وليس للفأر الذي يقع بين مخالب القط فضل التضحية. وقد دعانا «تاجوري» دعوة تنبع من سليقته الشعرية، وهي أن نعيش للغد. ووضع لذلك أمام أعيننا صورة جميلة للطيور التي تبكر في الصباح فتشدو على أجنحة النسيم. ولكن هذه الطيور نالت نصيبها من الطعام، وارتاحت طول ليلها، وسرى في عروقها دم جديد. ولكني رأيت طيورا، وتألمت لرؤيتها، لأنها كانت ضعيفة خائرة، لم أستطع أن أغريها حتى برفرفة جناحيها. تلك هي الطيور الإنسانية التي تعيش تحت سماء الهند، فإذا كان الصباح لم تستطع أن تهب من النوم، لأن الإعياء يثقلها بأكثر مما كانت مثقلة عندما آوت إلى الفراش. وهذه حال تتجاوز الوصف ويجب أن يجربها الإنسان كي يعرفها. ولقد وجدت من المحال أن أسري عن المرضى آلامهم بأن أغني لهم القصائد. وملايين الهند إنما تطلب قصيدة واحدة من الشعر، هي الطعام المقوي. وهم ليسوا قادرين على أن ينالوه.
وإنما ينالونه بالعمل الذي نقدمه لهم.
الفصل الثامن والعشرون
لست قديسا ولست سياسيا
أرسل إلي صديق كريم قصاصة من مجلة «إيست أندوست» جاء فيها ما يأتي وصفا لي: «ذاعت للمستر غاندي شهرة القداسة، ولكن يبدو للمتأمل أن السياسة فيه تغطي على القداسة. فإنه يحض الهنود على العمل المباشر، وهذا العمل المباشر لا يؤدي إلى الاتحاد، فمن ذلك أنه يدعو إلى الاحتفال بذكرى قتلى شهداء «جالينواه لاباغ»، فهل هذه الذكرى، التي تزيد الأسى والمرارة، تؤدي إلى الوفاق؟ ثم ألا يمكننا أن نحتفل بالذكرى بإقامة معبد للسلام، ومعاونة اليتامى والأرامل، والصلاة على القتلى الذين لم يعرفوا لماذا قتلوا؟ إن العالم مكتظ بالسياسيين وأشباههم ممن يسممون الناس بالوطنية، وثمرة هذا التسميم هي الحروب والثارات والمذابح، كتلك المذبحة التي حدثت في «جالينواه لاباغ». أليس من الأليق بنا أن نعمل للتآلف الذي قصد إليه الأنبياء؟ لقد كان يمكن المستر أن يؤدي هذه المهمة، ولكن الظروف تدفعه إلى المقاومة وتأليب الجماعات. والوقت لا يزال يتسع أمامه لأن يعمل لاتحاد العالم.»
وقد نقلت جميع ما في القصاصة مع أن عادتي ألا أبالي النقد لشخصي أو لخططي، إلا حين أرى التصحيح واجبا، أو حين يجب التأكيد للمبادئ التي نعمل لها. ولي في نقل هذه القصاصة غرضان: وذلك أنى لا أريد فقط أن أوضح المبادئ التي أدعو لها، ولكني أريد أيضا أن أثبت احترامي لكاتب هذه الكلمات، الذي عرفته وأعجبت به في السنوات الماضية لما تمتاز به أخلاقه من جمال فريد. وهو هنا يأسف لأنه يرى أني سياسي ولست قديسا، ولكني أرى أن كلمة «قديس» يجب أن تمحى من ألفاظنا في حياتنا الحاضرة. وذلك لأن لها من الحرمة ما يجب أن تصان من الابتذال بوصف أحد الناس بها ، وخاصة إذا وصفت بها أنا. لأني لا أدعي أكثر من أني أنشد الحقيقة في تواضع، وأني أعرف حدود طاقتي، وأقع في الأخطاء التي أعترف بها وأحاول بالتجارب إصلاحها، كما يفعل العالم في معمله. ولكني حتى في هذه التجارب لا أدعي أني عالم، لأني لا أستطيع أن أبرهن على الصحة العلمية للطريق التي أتبعها، بل لا أجد النتائج المحسوسة لهذه التجارب. غير أني، وأنا أرفض وصف القديس لشخصي، وأخيب بذلك رجاء صديق في، أقول له أيضا إن السياسية لم تغط على آرائي، وإذا كنت أشترك في السياسة، فذلك لأنها تحوطنا وتتحوى علينا كما يتحوى الثعبان على فريسته، وليس في مستطاعنا أن نتخلص منها مهما حاولنا. وأنا إذن أجاهد هذا الثعبان منذ سنة 1894 إلى الآن، وأصيب من النجاح قليلا أو كثيرا، ومن قبل ذلك جاهدته، منذ أن بلغت سن الرشد.
وإني، لما فطرت عليه من أنانية، أجرب التجارب لكي أعيش في سلام في وسط يعصف بالزوابع بإدخال الدين في السياسة. وأنا لا أعني بالدين هذه الديانة الهندوكية، بل أعني به ما يتجاوز الهندوكية، وما يستطيع أن يبدل الطبيعة البشرية نفسها، ويقيد الإنسان بالحق، ويدأب في تطهيره. وهذا الدين هو النصر المقيم في الطبيعة البشرية، وهو الذي لا يبالي ما يلاقيه الإنسان في سبيل الأداء عما في نفسه. وهو الذي يجعل النفس قلقة حتى تسكن إلى الحق وتعرف خالقها وعلاقتها به.
وهذا الروح الديني هو الذي أوحى إلي خططي ... ولم أحد عن هذه الخطط حين اقترحت الاحتفال بذكرى «جالينوه لاباغ»، ولكن الكاتب ينسب إلي غرضا لم يخطر معناه ببالي حين قال إني أريد «الاحتفال بذكرى قتل الشهداء». إذ ليس شيء أبعد عن ذهني من ذكرى هذه الفعلة السوداء. وإنما أعتقد أننا سنرى تكرار هذه المأساة في المستقبل، قبل أن نحقق غايتنا. ولذلك ينبغي تهيئة أذهان الأمة لمثل هذه المأساة بالاحتفال بذكرى الأبرياء الذين قتلوا فيها. ونحن نعاون الأرامل والأيتام، ولكن ليس في مستطاعنا «الصلاة على القتلى الذين لم يعرفوا لماذا قتلوا» إذا لم نمتلك الأرض التي تقدست بالدم البريء ونقيم عليها نصبا تذكاريا للقتلى. وليس الغرض من هذا النصب تذكير الناس بفعلة شنعاء، ولكن الغرض هو تشجيع أفراد الأمة على أنه خير لهم أن يموتوا وهم عزل، ليس بهم من قدرة على رد الظلم، من أن يكونوا هم أنفسهم ظلمة جائرين. وإني أود لو تعرف الأجيال القادمة أننا نحن، الذين رأينا الأبرياء يقتلون، لم نرفض أن نذكرهم أو ننكر عليهم جميلهم. ولقد تبرعت السيدة «جينا» بمبلغ صغير لإقامة هذا النصب التذكاري، وقالت وهي تقدمه أن الاحتفال بذكرى هؤلاء الشهداء يقيم لنا على الأقل عذرا نعتذر به عن العيش في هذه الدنيا.
ثم إن الكاتب يقول عني إني أعمل «لتأليب الجماعات» بدلا من أعمل «لاتحاد العالم» وقد سبق أن قلت له، ونحن تحت سقف واحد، إني أومن بمذهب العالمية أكثر منه. وما زلت على هذا المذهب، وأرى أنه لولا تأليب الجماعات لما أمكن اتحاد العالم.
الفصل التاسع والعشرون
بعض آراء غاندي
فيما يلي بعض آراء لغاندي لا تحتاج إلى تعليق أو شرح عند الذين عرفوا أغراضه، ولكنها تنير هذه الأغراض
يقول لي بعض الناس إننا نعيش الآن في عصر الآلات: نخيط بآلة الخياطة، ونكتب بالمكتاب، وإن من الجنون أن نفكر في إحياء المغزل. ولكنهم ينسون أننا ما زلنا نستعمل الإبرة إلى جانب آلة الخياطة. وأننا ما زلنا نكتب بالقلم إلى جانب المكتاب. وليس هناك أي سبب يمنع من بقاء المغزل اليدوي إلى جانب مصانع الغزل الكبيرة، كما أن مطابخ البيوت لا تزال باقية إلى جانب المطاعم الكبيرة. بل يمكن أن تزول آلة الخياطة والمكتاب، أما إبرة الخياطة والقلم فلن يزولا. •••
إنما يقاس النظام في إحدى الأمم بانتفاء القحط من بين عامتها، وليس بعدد الأغنياء الذي يملكون الملايين فيها. •••
الطب هو لباب السحر. والتدجيل خير ألف مرة مما نسميه الآن مهارة طبية عالية. •••
نحن نكابد هذه الأيام وهما قاتلا حين نعتقد أن المرض لا يبرأ إلا بالعقاقير. وإلى هذا الاعتقاد يعزى كثير من الشرور في العالم. وبديهي أنه يجب أن نعمل لشفاء المرض، ولكن يجب أن نعرف أن العقاقير لا تشفي الأمراض. وليست العقاقير غير مفيدة فقط بل هي أحيانا تضر، وذلك أن المريض الذي يتناول الأدوية والعقاقير إنما يخطئ كما يخطئ ذلك الذي يغطي الزبالة التي تتجمع في المنزل ويسترها عن العين بدلا من أن يزيلها. فالمرض هو إنذار الطبيعة لنا بأن أقذارنا قد تجمعت في الجسم، ومن الحكمة إذن أن نتيح للطبيعة الفرصة لإزالة هذه الأقذار بدلا من أن نغطيها بطريق العقاقير. وأولئك الذين يتناولون العقاقير يزيدون المصاعب أمام الطبيعة في الشفاء. •••
لسنا في حاجة إلى أن نتعلم من الأجانب، فإن في أدواتنا القديمة، من المحراث والمغزل، ما يكفينا سعادة وحكمة. وعلينا أن نعود رويدا رويدا إلى هذه السذاجة القديمة، وعلى كل منا أن يكون قدوة حسنة في هذا العمل. •••
إني أجد في ديني كل ما أحتاج إليه للتكشف الداخلي، لأن ديني هذا يعلمني الصلاة، ولكني أصلي أيضا حتى يجد كل إنسان تكشفه الداخلي في دينه، وحتى يرقى المسيحي في دائرة دينه فيصير كل منا أصلح مما كان. وإني واثق أن الله سوف يسألنا عن حقيقتنا وعن أعمالنا، ولن يسألنا عن الاسم الذي تسمي به هذه الحقيقة أو هذه الأعمال. •••
لست أستطيع أن أصف شعوري نحو الديانة الهندوكية إلا بأنه يشبه شعوري نحو زوجتي، فإنها تحركني بأقوى مما يمكن أية امرأة أخرى في العالم أن تحركني. وليس ذلك لأنها بريئة من الأخطاء، بل يمكن أن أقول إن أخطاءها تزيد على ما أعرفه منها، ولكني أشعر أن بيني وبينها رابطة لا تحل. وهذا أيضا هو شعوري نحو الديانة الهندوكية مع كل ما فيها من أخطاء، فإني أعرف الرذائل الفاشية في المعابد الهندية الآن، ولكني أحبها على الرغم من هذه الرذائل. وأنا أرغب أشد الرغبة في الإصلاح ولكن حماستي لن تخرجني عن حظيرة الإيمان بالأصول الدينية في الهندوكية. •••
الحقيقة الأساسية للديانة الهندوكية هي حماية البقرة، وعندي أن حماية البقرة هو أعجب الظواهر في التطور البشري ، لأن البقرة تمثل جميع الأحياء التي دون الإنسان. ونحن بهذه الحماية مكلفون بأن نرى أن حياتنا وحياة الحيوان سواء، فالسبب في اختيار البقرة للتأليه في الهند واضح، لأنها رفيقة الإنسان، تدر عليه الخير ولا تقصر في إعطائه اللبن، بل هي التي جعلت الزراعة ممكنة. والبقرة قصيدة من الرحمة، فإننا نقرأ الرحمة في هذا الحيوان الأخرس مما خلقه الله. وحق هذه المرتبة الدنيا من المخلوقات علينا عظيم، لأنها خرساء، وحماية البقرة هي الهبة التي وهبتها الهندوكية للعالم، وستعيش الهندوكية ما دام هناك من يحمي البقرة.
صفحة غير معروفة