فأسرع محمود ونيكلسون إلى الديوان - وكان الزحام حوله شديدا - فاخترقا الصفوف حتى دخلا، فرأيا عثمان خجا ومعه الأعيان والتجار - لأن العلماء أبوا أن يستجيبوا لدعوته - وقد جلسوا وهم صموت يبدو عليهم الذعر والحيرة، ورأيا رسول السيد محمد كريم واقفا أمامهم، فاتجه عثمان خجا، وقد جف ريقه وارتعدت أوصاله وقال للرسول: نبئنا بخبر هذه الداهية مفصلا.
فقال: وصلت بالأمس إلى مياه الإسكندرية عمارة فرنسية عند مطلع الفجر، فلما ارتفع النهار رآها أهل الثغر وقد غطت سفنها مياه البحر، ولكنها لم تقف بالميناء بل اتجهت إلى ناحية العجمي، فأرسل السيد محمد كريم طوائف العربان إلى هذه الجهة، فرأوا أنها أخذت تنزل الجنود بالزوارق عند المكس بعد منتصف الليل، حتى إذا تجمع الجيش سار في ثلاث فرق نحو الإسكندرية، وحاول بعض عربان الهنادي مناوشة الجنود فلم يفلحوا إلا قليلا، وجمع السيد محمد كريم كل رجاله وجنوده فانهزموا لقلة عددهم وسلاحهم، وقدم مدافعهم وتهدم حصونهم، ودخل الإفرنج المدينة في صباح اليوم بعد أن قاومهم الأهالي فمزقوهم بقذائفهم. أما رئيسهم: فيدعى: نابليون، وهو شاب صغير السن نحيف الجسم، ولكن جميع قواده يبجلونه ويخضعون له خضوع العبيد للسيد، وهو يدعي أنه صديق الدولة العثمانية، وحبيب الإسلام والمسلمين، وأنه لم يأت إلى مصر إلا لإنقاذ أهلها من ظلم المماليك، ويبلغ جيشه نحو الثلاثين ألفا، ومعهم من آلات الحرب ما لا عهد لنا به، وقد أظهر السيد كريم الخضوع لنابليون وشرع يساعده في الظاهر في جمع الخيل والجمال، ودعوة العربان إلى مناصرته، وأرسلني إليكم سرا لتأخذوا حذركم وأسلحتكم وتحصنوا المدينة، وتجمعوا الجنود والأهلين للقاء هذا الطاغية، فقد يسقط جيشه على رشيد في أي يوم، فقال عثمان خجا: لا بد من المقاومة والاستماتة في الدفاع، وربما استطعنا أن نلقن هؤلاء الإفرنج درسا لا ينسى.
فقال السيد محمد البواب، وكان شيخا في الخمسين فارع الطول متين بناء الجسم، جريئا شجاعا: إن حصون المدينة ضعيفة وأسوارها مهدمة، ومحال أن يستطاع تقويتها في زمن قصير.
فقال خجا غاضبا: هذا دأبكم دائما يا أبناء العرب، لا تثبتون على الشدائد. - نحن أثبت على الشدائد من الجبال، ولكنا نحمل الآن أوزار ظلمكم وعبثكم بشئون البلد، أتظن يا أغا أن في المدينة رجلا واحدا يرضى أن يشد أزرك في قتال؟ لقد زهدتهم في الحياة، وأخمدت في نفوسهم البطولة وحب الوطن، حتى أصبحوا يؤثرون في قرارة نفوسهم أن يحكمهم مجوسي أو وثني، لقد زرعتم الحنظل واليوم تجنون ثماره، وقتلتم كل نازعة للرجولة في كل نفس، ثم جئتم تستنهضون الهمم بعد أن ماتت الهمم، إنما يدافع عن وطنه من يشعر أنه ملهى صباه ومصدر مجده، ومقر سعادته وموئل حريته، وأن ما فيه من أرض وماء وهواء ملك له ولسلالته من بعده، أما من يعذب في وطنه ويحرم خيراته، ويساق إلى العمل كما تساق البهائم لينعم غيره وهو جائع، فلن يعرف معنى للوطن، أو معنى للدفاع عن الوطن.
فبهت عثمان أغا والتفت إلى التجار، وقال: أهذا رأيكم في رجال مدينتكم؟ فانبرى إليه الحاج أحمد شهاب وقال: إن هذا ليس عارا على أهل المدينة، إنما العار على من يطلب من المذبوح أن يدفع عن نفسه، وهنا قام السيد محمد البواب وقام الأعيان منصرفين خلفه، وتركوا عثمان خجا يتحرق غيظا، ولو استطاع أن يقبض عليهم ويذيقهم صنوف النكال لفعل، ولكن اضطراب المدينة واقتراب الأعداء لم يدعا له سبيلا لشفاء نفسه، ومال نيكلسون في الطريق على أذن محمود يقول في صوت خافت: سأرحل الليلة فقد أعددت كل شيء، ثم أسرعا إلى الدار وأحضرا من يحمل المتاع إلى السفينة، وغير نيكلسون ملابسه وتزيا بزي المغاربة، وحمل في منطقته مسدسين وأكياسا بها من الذهب ما يزيد على ألف محبوب، ولبست لورا حبرتها والدموع تتساقط من عينيها، وسارت معهما إلى السفينة، وهناك ودع نيكلسون صديقه وداع الأب الشفيق للولد البار، وهمس في أذنه: إذا قدمت القاهرة فسل عن الحاج محمد السوسي بسوق المغاربة. وتقدمت لورا نحو محمود باكية الطرف دامية القلب وهي تقول: إلى اللقاء القريب يا محمود! ثم أقلعت السفينة وهبت الريح شمالية فدفعتها إلى الجنوب، ووقف محمود حزينا يقلب كفيه أسفا، وقد أحس أنه كان له جناحان فرماه الدهر فيهما، ثم نظر فرأى السفينة وقد التقمها اليم وطواها الظلام.
الفصل الرابع
في يوم الثلاثاء الثالث من شهر يولية سنة 1798م كانت رشيد كالبحر المائج المضطرب، عصفت رياحه وتواثبت أمواجه، فكنت تسمع جلبة في كل مكان، وترى أفواجا من الأهلين تساق بالسياط، وجنودا من الفرسان تعدو بخيولها هنا وهناك، والبنادق في أيديهم يهددون بها كل من لاذ بداره أو حاول الفرار، فقد أصدر عثمان خجا أوامر قاسية، بأن يقوم كل رشيدي بالمعاونة في تجديد الأسوار وتقوية الأبواب والحصون، وأن يعد كل رشيدي سلاحا كيفما كان نوعه لقتال الغزاة الغاصبين، ولم تستثن أوامره طفلا ولا شيخا هما ولا مريضا زمنا، وكان سليم بك رئيس العسكر، وعلي جاويش مساعده، يمران على الجند لحثهم على بذل أقصى الجهد في حشد الناس، واتخاذ كل وسائل الشدة والعسف في سوقهم إلى العمل، فوثبوا على المنازل واستباحوا حرمتها، وقبضوا على النساء لدفع أزواجهن أو آبائهن إلى الظهور، وقتلوا كثيرا ونهبوا من مدخرات البيوت كثيرا، كانت رشيد في هذا اليوم وما تلاه من أيام جحيما أججها الظلم وأشعلها الغباء، فكنت لا تسمع فيها إلا رنات السياط على الظهور، وقصف المدافع والبنادق ممتزجا بصراخ الأطفال وولولة النساء.
وفي صبيحة يوم الجمعة السادس من شهر يولية، رأى الناس من المآذن - وكانوا يصعدون إليها في كل يوم - جيشا يبلغ عدده نحو ألفي مقاتل يزحف على رشيد بعد أن غادر أدكو، وهنا أعد عثمان خجا جنوده، وكانوا لا يزيدون على مائة من الإنكشارية وبعض الباشبوزق، وانضم إلى هؤلاء بعض الأهلين كارهين، وقد سلحوا بالعصي والسكاكين، وهجم الجنرال «دوجا» بجيوشه وآلاته الحديثة على رشيد عند الظهيرة، وما كان أشد دهشته حين رأى جيش المماليك يفر من غير أن يجرد سلاحا، وحين رأى الأهلين يرحبون بقدومه ويحيونه تحية الفارس المنقذ الذي أرسله الله لخلاصهم من ظلم المماليك، أما عثمان خجا وسليم بك: فقد كانا في الفرار أسرع من جنودهما، فركبا النيل إلى دمياط.
دخل «دوجا» رشيد دخول الفاتحين، وبقي بها يومين أو ثلاثة حتى قدم الجنرال «جاك فرنسوا مينو» الذي عينه نابليون حاكما لرشيد، فهرع الأعيان وعظماء المدينة إلى استقباله، وأظهروا البشر والسرور، وتلقوه بالزمر والطبول، وأطلت النساء من النوافذ ومن فوق سطوح الدور، يحيينه بالأغاريد، وسلم إليه علي جاويش مفاتيح المدينة في حفل حافل، وقف فيه مينو فألقى خطبة مسهبة لخصها ترجمانه «إلياس فخر» فقال: إن جناب الجنرال لن يتدخل في الحكم الداخلي للمدينة، ويطلب من الأعيان وكبار البلد أن يؤلفوا منهم ديوانا للنظر في شئون الناس، ثم إنه يؤكد أن كل ما يشترى للجيش يصرف ثمنه للتجار ذهبا، ويعلن ميله وميل دولته الشديد للإسلام، وأنه سيكون أول من يذهب إلى المساجد للصلاة، وأن حكم الجمهورية الفرنسية مؤسس على الإخاء والمساواة، وأنه جاء لينشر العدل ويبدد ظلام الجهل والظلم.
كان مينو في نحو الثامنة والأربعين من عمره، ربعة في الرجال غليظ الوجه ثقيل الملامح، أشقر الشعر دب الشيب إلى فوديه قليلا، وكان سريع التأثر، يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، سريع الغضب والرضا ومعتدا بنفسه كثير الزهو بذكائه، يعتقد أن حكمة الدنيا وفلسفتها أنزلت عليه وحيا، وأن محجبات الغيب دانت لعبقريته طوعا، وقد أدى به ذلك الاعتقاد إلى الصلف واحتقار آراء غيره، ودعاه إلى العجلة وسرعة البت في الأمور الخطيرة بلا أناة أو تفكير أو مشاورة، فجر عليه ذلك بغض زملائه ومرءوسيه، وسخطهم عليه والسخرية منه، وكان من أسرة نبيلة بفرنسا، وربما زاد هذا النسب في كبريائه على أنداده من رجال الحملة، وربما أبطره عطف نابليون عليه عطفا حار في تعليله المؤرخون.
صفحة غير معروفة