فلما سمع عبد الرحمن ذلك جذب يده ممن كان ممسكا به، وحول وجهه إلى يزيد وقال: اقتلوني الآن عسى أن ألقى عليا وحجرا على عجل، وإذا كان لا بد من تأجيل قتلي فلا أرضى بالموت قبل أن أؤدي شهادتي على رءوس الملأ، فاعلموا يا بني أمية أنكم توليتم هذه الخلافة بغير الحق، وأخرجتموها من أهل بيت الرسول بالحيلة، وحاربتم من هو أحق بها من سائر المسلمين، ولم تفوزوا بها من دونه إلا لرغبتكم في الدنيا ورغبته في الآخرة، ولسوف تلقون عاقبة ما جنته أيديكم.
فانتهره ابن زياد قائلا: أتقول ذلك جهارا يا خائن؟
فالتفت عبد الرحمن إليه وصعد الدم في رأسه واشتد غضبه وتذكر ما افتراه زياد والده على عمه حجر حتى تمكن من قتله فقال: لا تذكر الخيانة؛ فما هي إلا من شأنك وشأن أبيك من قبلك، وليس في هذا المجلس أحد لا يعرف أباك زيادا وأمه سمية، وكلهم يعرفون لماذا سموه ابن أبيه. اذكر يا عبيد الله شهادة أبي مريم خمار المدينة، ألم يقل: إن جدتك سمية كانت بغيا من بغايا المدينة؟ هل وصلت أنت وأبوك إلى هذا المجلس إلا بفضل بغائها؟ وما في هذا الجمع من يجهل أن معاوية لم يستلحق زيادا بنسبه ولم يرض به أخا لأبيه إلا لاستخدامه في إيذاء أهل البيت، فإذا رضيت بهذا الاستلحاق فإنما هو شهادة على قذارة أصلك، وإن لم ترضه فأخبرني ما هو نسبك؟ أتزعم أني خائن؟! وهل الخائن إلا من عرف الحق وانحرف عنه طمعا في الدنيا كما فعل أبوك وأمثاله، وكما فعلت أنت وأمثالك؟ فلا غرو إذا استغربت المجاهرة بانتصاري للحق، وهي شهادة حق أموت في سبيلها، وإذا مت فإن عظامي تنادي بها من أعماق القبر.
فضج الناس، وتشوش المجلس، والكل معجبون بتلك الجرأة، ثم تقدم شمر إلى يزيد وهو يقول: إلى متى يصبر أمير المؤمنين على هذه الوقاحة. مرني فأقطع رأسه في هذه الساعة.
فصاح فيه عبد الرحمن: اقتل، جرد سيفك، إنكم ما قتلتم من قتلتموه من أنصار الحق إلا بمثل هذا؛ تتكاتفون على الرجل عشرات ومئات، اقتل قتلك الله. ثم التفت إلى يزيد وقال: أتظنون قتل رجل مثلي يؤيد سلطانكم؟! وأشار إلى عمامته وقال: إن دون هذه العمامة ألوفا من الرجال الصناديد سوف يذيقونكم مرارة ما جنته أيديكم، إن سلطانكم يا ابن معاوية لم يؤيد إلا بالحيلة؛ أطمعتم الناس بالدنيا فنصروكم، واستلحقتم زيادا بنسبكم، وأطمعتم ابن العاص بمصر فنصركم، ولولاه ما بقيتم بعد وقعة صفين يوما واحدا، ولولا فعلته بالأشعري في مجلس التحكيم لم تقم لكم قائمة، ولكن دهاء معاوية غلب دهاءه فاستخدمه في مصلحته، فأطعمه مصر وأكل هو الشام وغيرها، ولكنها لقمة لن تهضموها، وسوف ترون ونرى.
وقبل أن يتم كلامه قال يزيد: خذوه إلى السجن وأتوني برأسه في الغد باكرا. قال ذلك وهو يضحك مستخفا، فساقوه، فمشى وهو يرسف في قيوده بخطوات ثابتة، ولا تسل عما أصاب سلمى؛ فقد أخذها الاضطراب والجزع واغرورقت عيناها رغما عنها، ولكنها فرحت بما أبداه عبد الرحمن من الأنفة والجرأة، فلما خرج من المجلس انخلع قلبها، وتعاظم قلقها. عادت إلى ثباتها وعللت نفسها بقتل يزيد في ذلك المساء قبل أن يقتل خطيبها، وكانت إلى تلك الساعة تتهيب جريمة القتل لغلبة غريزة النساء عليها، فلما سمعت ما دار بينهم وبين عبد الرحمن هان عليها كل أمر، واشتد بها الهياج.
وبعد هنيهة دخلت العجوز ووراءها جماعة يحملون آنية الطعام والشراب، فمدوا السماط ووضعوا فوقه الآنية من الذهب والفضة، وفيها الدجاج المشوي وأنواع اللحوم والحلوى والفاكهة ، وصفت الأقداح، فتظاهرت سلمى بأنها استيقظت لتوها، ثم رفعت الغطاء عن رأسها فوقع نظرها على ذلك السماط وعليه أنواع الأشربة وألوان الطعام، ورأت بجانب السماط طنبورا فتذكرت ما كانت تسمعه عن اشتغال يزيد بشرب الخمر وضرب الطنابير.
أما العجوز فلما رأتها ترفع الغطاء عن رأسها تفرست فيها فرأت وجهها قد زاد احمرارا وتوردت وجنتاها، وازدادت هيبة وجمالا، فأسرعت إليها وقبلتها بين عينيها وقالت: هنيئا لأمير المؤمنين متى فاز بمثل هذه القبلة، وهنيئا لك ما ستحوزينه من المكانة الرفيعة عنده.
فظلت سلمى ساكتة ولم تبد حراكا، فظنتها لا تزال تشكو الصداع فقالت لها: كيف تشعرين الآن يا بنية؟
قالت: إني أحسبني أحسن قليلا.
صفحة غير معروفة