فنظر الحر إليه وعيناه تعتذران عن جرأته وقال: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة ريثما أكتب إلى عبيد الله فأستشيره في أمرك.
الفصل السابع عشر
زينب بنت علي
رضي الحسين بذلك، وأمر الناس بالركوب، فلما سمعت سلمى ما دار بينهما تحققت عجز الحسين عن قتال هؤلاء، واستعاذت بالله من عاقبة ما تراه، ثم عادت إلى شأنها واعتزمت أن تبحث عن عبد الرحمن وعامر بحثا دقيقا، فلم تر خيرا من أن تدخل خباء النساء، وكانت تعرف أكثرهن وهن لا يكدن يعرفنها؛ لأنها لم تقم بينهن طويلا، فتحولت إلى فسطاط دخلته فرأت امرأة لم يقع نظرها عليها حتى عرفت أنها زينب أخت الحسين، وكانت شديدة الشبه به؛ لأنهما من أم واحدة (فاطمة بنت الرسول)، فرأتها في انهماك وبغتة وقد علت جبينها دلائل الاهتمام وعيناها تتوقدان ذكاء وتعقلا، وكانت زينب مشتغلة بطفل بين ذراعيها لا يزيد عمره على سنة وبعض السنة، تربته وتشدو له وعيناه ذابلتان للرقاد وقد أشرق وجهه كأنه يتدفق نورا وحياة، والطفل في غفلة عما حاق بأهله من الأمر العظيم، فعلمت سلمى أنه علي الأصغر ابن الحسين، وهو أصغر أولاده، وكان للحسين ثلاثة أبناء كل منهم اسمه علي، وإنما يعرف بعضهم من بعض بلقب السن فالأكبر اسمه علي الأكبر والثاني علي الأوسط - زين العابدين - والثالث علي الأصغر، وهو هذا.
أما زينب فحالما وقع نظرها على سلمى عرفتها، واستغربت حضورها في تلك اللحظة، ولكنها لعظم ما عانته من الأهوال لم تعد تستبعد شيئا، فابتسمت ابتسامة الترحاب بالرغم من شواغلها واستأنست بها، فأسرعت سلمى إليها تعرض عليها مساعدتها، فأشارت إليها قائلة: خذي هذا الغلام على ذراعك ريثما ينام، فتناولته وحنت عليه حنو الوالدة على ولدها، فلما خلت يد زينب تحولت إلى فراش في بعض جوانب الخباء عليه غلام مضطجع، فتبعتها سلمى ببصرها وتفرست في الراقد فإذا هو علي الأوسط وقد توردت وجنتاه وتصبب العرق من جبينه وذبلت عيناه وهما مفتوحتان حمراوان كالدم ودلائل الحمى بادية فيهما، ورأت صبية جملية الخلقة نجلاء العينين جاثية بجانب المريض، وهي مرتبكة والدموع في عينيها مع ما يتجلى في وجهها من البشاشة الغريزية، فعلمت سلمى أنها سكينة بنت الحسين أخت ذلك الراقد، وكانت سكينة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقا مع خفة في الروح.
فوقفت سلمى وهي تتشاغل بتربيت الطفل وتنظر إلى زينب فإذا هي قد دنت من فراش المريض وجست يده ومسحت العرق عن وجهه، ثم التفتت إلى سكينة وقالت: لا بأس عليه يا حبيبتي بإذن الله، ولا تلبث الحمى أن تفارقه عما قليل بما ينسكب منه من العرق.
فأجابتها سكينة بالبكاء ثم رفعت صوتها وقالت: صبرا على حكم العناية، أما كفانا ما أحدق بنا من الأخطار حتى أصيب أخي هذا بالمرض، فماذا عسى أن تكون عاقبة هذه النوازل؟ قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فأومأت إليها زينب وهي تتجلد: لا تقولي هذا على مسمع من المريض؛ لئلا يشتد مرضه. ثم أمسكتها بيدها وأنهضتها وقالت: قومي يا بنت أخي هلم بنا نتأهب للرحيل فإن أباك قد أمر بالركوب.
فنهضت الفتاة وأخذت تهتم بنفسها، فوقع نظرها على سلمى فعرفتها واستأنست بها؛ لأنها لم تكن تطيق الانقباض؛ لانطباعها على المرح والسرور.
وكان الطفل قد نام على ذراعي سلمى وهي تضمه إلى صدرها وتتيمن بقربه؛ لأنه ابن الحسين وفيه من دم الرسول، فلما أرادت زينب أن تأخذه منها قالت لها: دعيه نائما على ذراعي فإن ذلك أكثر راحة له من الانتقال.
صفحة غير معروفة