بيع أمك، واشر الألماني، وعدن كل أشقر قوماني.
ومن اختباراته مع البدو أنه استبقى أحدهم معه في بغداد، واسمه «تويني»، أخو فايز المثقال شيخ بني صخر، وقد برم هذا بعيشة الحضر في بغداد فشكا أمره إلى القاوقجي، فسأله هذا ما يبغي؟ أجاب: «قطيعا أرعاه.» فاشترى له تسعة رءوس غنم، وراح التويني يرفه عن نفسه ويشغلها برعي هذا القطيع في جوار بغداد. ويوما دعا المضيف ضيفه لحضور حفلة سينما في بغداد، وكان الفيلم مزدوجا «ميكي موس» والصورة الشهيرة «لا جديد في الجبهة الغربية»، فلما انصرفوا من قاعة العرض سألوا التويني رأيه في الذي رأى، فأجاب أنه لم يفهم من «ميكي موس» شيئا، وما رأيك في «لا جديد في الجبهة الغربية»؟
أجاب البدوي: «ذبح، وقلة ربح.» وقد يكون هذا العنوان أصلح للرواية من:
All Quiet on the Western Front .
وسئل التويني رأيه في أحد السعوديين، وهو ذو سلطة عظمى، ومسئولية أكبر من هامة أجاب: «لعينيك ونا برضى.» أي إن نجدته تقتصر على صياحه «لعينيك»، ولكنه لا يبرح مكانه. وسئل رأيه في زميل للرجل الأول أجاب: «لا يدفع ظليمة ولا يجلب غنيمة.»
ومن البدو «افتهم» كيف يستغل الدعاية؛ إذ إنه وجد بعد أن وصل إلى العراق، واشتعلت الحرب العالمية الأولى، أن الإنكليز هيجوا القبائل على الأتراك بترويج أسطورة بينهم بأن العرب والبريطانيين كانوا فيما مضى فخذين من قبيلة واحدة، غزاهم الأتراك، فهجر فخذ إلى ما وراء البحار، وصار اسمهم بريطانيا، وبقي سائرهم في العراق بدوا مستعبدين. والآن في الحرب الأولى يعود الإنكليز ليحرروا إخوانهم من نير العدو الذي استعبد قبيلا ورحل عنه قبيل.
رجعت من «الأزرق» في شرق الأردن ومعي نحو من خمسين فارسا أكثرهم دروز، وكنت أرمي إلى أن أجعل من هذه القوة الصغيرة نواة لثورة ضد الفرنسيين. كان ذلك في خريف سنة 1936 والأمطار شديدة، وليس معنا مئونة ولا عشب حولنا تقتات به خيولنا، فصار من اللازم أن نلجأ إلى مكان ما، خصوصا بعد أن راح رفقائي يذكروني بأنهم إن قدروا أن يصبروا على الجوع، فالخيول لا تصبر؛ لذلك قررت أن أتجه إلى أراضي «الصفا» شرقي جبل الدروز، حيث ضربت خيامها قبائل «الغياث»، وهم أشداء ذوو بأس، وكان بيني وبين شيخها «خلف النعير» معرفة قديمة، وقد ساهم معي قبل ذلك في بعض المعارك.
غير أنني أدركت قبل أن أصل إلى خيمة الشيخ أن البدوي لا ينهض إلى القتال معنا إلا إذا وثق من قدرتنا على النصر، ووضح له من حقائق القوة أن الانضمام إلينا فيه له ربح وضمانة، وما كنت لأنخدع بعبارات المجاملة التي يغدقها البدوي على ضيفه، ولا بالعواطف الجياشة يرسلها كلمات فصيحة حارة، فالخمسون خيالا لا يوحون بالثقة لقتال دولة فرنسا. ولم أكن أملك مالا أوحي به ل «خلف النعير» ليستنفر قبائله، ونحن وخيولنا في ذلك الفصل ضيوف ثقلاء على جماعة من البدو قد يكونون هم في حاجة إلى الغذاء والكلأ، فلجأت إلى الحيلة بعد أن تفاهمت ورجالي على العمل.
فلما كان اليوم الثاني لنزولنا ضيوفا على خلف النعير، رحت أتحدث إلى المشايخ عن الترتيبات الهائلة التي نعدها لقتال الفرنسيين، وكيف أن الخيرات ستأتينا بالقناطير مع المعدات والعتاد والأموال، ثم رحت أتطلع برؤساء حملتي فأخاطب أحدهم مثلا: «أما أنت يا فلان، فاذهب إلى المنطقة الفلانية، وارجع بمئتي مقاتل، وخذ معك تسعة فرسان.» وهكذا انصرف رفقائي كلهم إلى ضياعهم، ولم يبق معي إلا خمسة دروز من عائلة النبواني، وبقي معي الدكتور أمين رويحة، واثنان من الشام. وخلت أنني بهذا خففت حمل الضيافة عن البدو، وأوهمتهم أن رسل الاستنفار ساروا إلى التعبئة على أن يرجعوا إلينا بعد شهر ونصف. وأصبح همي أن أقوم بعمل ما أشرك فيه القبيلة أو بعضها حتى تهب الثورة التي كنت أريد إشعالها، فطفقت أقول إنني أريد أن أهاجم الفرنسيين، ودعوت البدو للاشتراك معي، فتلكئوا منتحلين ألف عذر، مرجئين مساهمتهم إلى يوم مقبل، متمنين لي النجاح والسلامة في كل ما أعمل. وظل الأمر كذلك ونحن راكدون، ورسلي لم ترجع بعد، والحياة بين البدو أحاديث ومجاملات، وهم لا ينهضون إلى نصرتنا، إلى أن كان يوم 24 كانون الأول، فرجعت أحاول أن أحرك نخوتهم للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة لم أظفر منهم إلا بالأدعية والكلمات المعسولة؛ فخرجت من مضاربهم بسبعة فرسان؛ خمسة منهم دروز من آل النبواني، وفارس شامي نسيت اسمه، والسابع الدكتور أمين رويحة.
وتوجهنا نحو دمشق من غير أن أطلع رفقائي على ما عزمت إليه حتى بعد النهار، وقد ابتعدنا عن «الصفا»، فأخذت أخاطبهم: «ها نحن في هذه القطعة من بلادنا، وقد كانت بالأمس ميدانا وجبهة قتال، ولكن شهورا كثيرة مضت لم تسمع خلالها طلقة واحدة. الليلة هي ليلة عيد الميلاد، والفرنسيون سيحيونها ليلة مخمورة صاخبة، والمجاهدون من السوريين سيرجعون إلى دفء بيوتهم، والشعب قد يئس من الكفاح مع المستعمر، نحن حفنة رجال، ولكننا في هذه الوحدة، وفي هذه الليلة سنكون أبطال هذه الأمة، يجب أن نعكر على الفرنسيين أفراحهم، ونفيقهم من سكرة النصر، ونوقد الحماسة في صدور مواطنينا، هذا اليوم ...»
صفحة غير معروفة