أبوه كان قائدا شهيرا، وهو في تلمذته أصاب النجاح الباكر، فعلاماته في «وست بونيت»، أشهر كليات الدنيا العسكرية، ضربت الرقم القياسي - لمن سبقه أو لحقه - 98,14 على مائة! ولذلك كانت بلاغاته الحربية شكسبيرية!
وفي الحرب الأولى كان أصغر من تولى قيادة فرقة، غير أن اسمه لم يلمع في الحرب الأولى، ولكن لم يكن في سيرته العسكرية ما يعاب عليه.
وبعد الحرب الأولى تولى قيادة الجيش الأميركي في الفلبين، وراح يتبختر، وكان في عداد ضباطه كولونيل متواضع محبوب فوار الحيوية والذكاء، بدا اسمه يكسف اسم ماك آرثر، فما برح هذا يحمل على الكولونيل حتى نقل إلى واشنطن؛ ذلك الكولونيل هو اليوم الجنرال «أيزنهاور».
واستمر ماك آرثر خلال حياته العسكرية يعزل أو ينقل كل من اشتهر من معاونيه حتى عرفت «القيادة العامة» باسم «مقبرة النابغين».
لا أعتقد أن خيلاء ماك آرثر كانت كبرا في النفس أصيلا؛ لأنه حين انتدب لتدريب الجيش الفلبيني أمسى زحفطونا - من الزحف على البطن - يسرف في التودد والخضوع لرئيس الجمهورية الفلبينية، ولم يأنف أن يصبح شبه المرافق له، فهو إذن لين أمام من هو في حاجة إليه، صلف على مرءوسيه، وعلى الذين يحسب أنه أقوى منهم.
وانفجرت الحرب العالمية، وكان ماك آرثر في الفلبين، وانهار الجيش الأميركي الفلبيني، غير أن عار الانهيار لا يلحق قائده. وكان أهم ما يشغل قادة واشنطن أن يدفعوا روح اليأس عن شعوب أوروبا وأميركا، وأن يقنعوا شعوب الشرق الأقصى أن الغلبة في النهاية مضمونة لدول الديمقراطية؛ لذلك راحوا يتغنون في صحفهم ومحطات الإذاعة ببطولة ماك آرثر والجيش الأميركي الفلبيني، وخلقوا أسطورة «معركة باتان»، ونحن الذين لم نكن بعيدين عن «باتان»، وتسنى لنا التحدث إلى بعض الضباط والجنود الذين كانوا في المعمعة، نعلم أن اليابانيين بعد أن احتلوا أكثر جزر الفلبين تركوا شراذم من أضعف جنودهم أمام قوات ماك آرثر، فلما ربحوا معركة سنغافورة رجعوا بقواتهم إلى «باتان» فاحتلوها بعد أن استسلمت جيوش أميركا والفلبين.
كل هذا نفخ اسم ماك آرثر وضخم شأنه، وكان من الذين قادوا حملة الدعاية صحفي فلبيني يعبد نفسه، التحق بحاشية الجنرال، فصار هو الآخر جنرالا، وتغنى بماك آرثر فيما هو يتغنى بنفسه، ووصف معارك لم يشاهدها، وبطولات تخيلها، وباع كل ذلك في كتابين لقراء أميركا؛ فأثرى. اسم هذا الصحفي اللامع الجنرال رومولو الذي صار فيما بعد رئيسا لمنظمة الأمم.
قبل أن أخبرك أن هذا الصديق الحميم فر من الفلبين في غواصة أميركية، بأمر من قائده الأعلى روزفلت، وقف أمام المذياع ولفظ عبارة سجلها التاريخ: «سوف أعود.» كذلك يجب أن تعلم أن أسطول أميركا الهوائي من قلاع ب 17، حطمه اليابانيون بغارة مفاجئة، وأن الناس يتهمون صديقنا الحميم بخزي ذلك التحطيم؛ لأنه عرف قبل 18 ساعة بغدر اليابانيين في «برل هاربر»، ولم يتخذ أسباب الوقاية والدفاع، وأنه منع التحقيق في حادثة تحطيم الأسطول الجوي في الفلبين.
وتمركز ماك آرثر في أوستراليا، ومشى نحو اليابانيين بعد معارك بحرية وجوية وبرية اشتركت فيها كل أسلحة أميركا، ولما نزلت جيوشهم في الفلبين، وقف ماك آرثر أمام المذياع، وفاه بعبارته التاريخية الثانية: «قلت لكم سوف أعود، وها أنا قد رجعت!» منذ تلك اللحظة بدأت الشتائم تغمر اسم الجنرال الصديق. يقول له مبغضوه: «لقد رجعت.» رجعت وحدك؟ والمليون جندي الذين رافقوك؟ وألوف الطائرات، ومئات القطع البحرية، والذين قتلوا وجرحوا وتشوهوا ... كل هذا وهؤلاء ليس لهم من شأن؟ ثم يروون الغرائب عن بذخه وأنانيته، كيف شاد قصرا على جبل من غابات «نيوجنيه»، وفي اليوم الذي لم يكن للجيش الأميركي طائرات لنقل الجرحى والأدوية، كان ماك آرثر يستعمل الطائرات لنقل الرياش الفاخرة لقصره من أوستراليا إلى «نيوجنيه»، ثم يتساءلون: أين هي مقدرته الحربية، وقد كانت المعارك الحاسمة معارك بحرية أو جوية؟ ويحدثونك عن مسرحياته كيف تنشر صوره خائضا المعركة والصور أخذت بعد انتهاء المعركة، وكيف قتل ستمائة شاب أميركي حول أسوار المدينة القديمة في مانيلا، كل ذلك رغبة في سلامة بعض الأهالي وتزلفا لأصدقائه الفلبينيين، ثم يقولون إن حملة الفلبين من أولها لآخرها لم تكن ضرورية، ولكنه خاضها إرضاء لإثرته، ولكي يتسنى له أن يقول: ها أنا قد رجعت!
هنا أكشف عن سر يقودني إلى تفسيره الاستنتاج: لماذا لم يعد هذا القائد الظافر إلى أميركا بعد الحرب ليتمتع بالتكريم؟
صفحة غير معروفة