وبينما أنا كذلك إذ أوقف مجرى أفكاري صوت رنات الساعة وكانت تسعا - وهي ابتداء تاريخ قصتي العجيبة - فلم أنته من عدها حتى وقفت مبهوتا إذ عثرت رجلي بسلم لم أعهده قبلا في منزلي.
فمن يقدر أن يصف ما خامرني من العجب والخوف في تلك الساعة، فاستعنت بالله وصعدت ذلك السلم وكان خمس درجات، فوقفت في أعلاه متحيرا في أمري بين أن أرجع أدراجي أو أداوم المسير، وصرت أناجي نفسي قائلا: لعلي دخلت في غير مسكني، ولكن كيف يمكن ذلك والمفتاح قد ولج في القفل بسهولة فالبيت إذن بيتي، ولكن لا علم لي بوجود هذا السلم فيه.
وهكذا تضاربتني الأفكار حتى ظننت نفسي في حلم، فوضعت يدي على وجهي ثم قرصت طرف أذني حتى كدت أصرخ من شدة الألم، فتأكدت حينئذ أني مستيقظ، ثم تذكرت أنه يوجد في حائط غرفتي الخارجي حجر ناتئ كنت ألمسه بيدي كلما دخلت، فانطلقت إلى حيث ظننت الطريق الموصلة إليه ولكني لم أحظ بالعلامة المذكورة، بل عثرت يدي بحلقة باب فاتضح لي حينئذ غلطي، وتيقنت ما كنت مرتابا منه.
فحولت وجهي نحو الباب قصد الرجوع من حيث أتيت، ولكني رأيت نفسي غير قادر على السير في الطريق المستقيم بدون دليل؛ لأنه من المحتمل أن المفتاح يناسب سائر أبواب ذلك الشارع، وعليه فأطرق جميع المنازل في جوف الليل، فلا يعد أمرا عجيبا إن خالني الناس لصا وأوسعوني ضربا وشتما قبل أن يفهموا حقيقة حالي. فقلت في نفسي: ما ضر لو دنوت من باب الغرفة وقرعته بلطف، ثم أعرض حالتي على من سيقابلني وأفهمه سبب مجيئي، والمفتاح أعظم شاهد على صحة مقالي، وهذا الفكر قد أعاد إلي الطمأنينة.
فرفعت يدي لأقرع الباب؛ إذ وقع في أذني صوت أناس يتكلمون، وسمعت عقيبه لحنا شجيا وتبعه غناء امرأة بصوت رخيم جدا يأخذ بمجامع القلوب، ثم انقطع الصوت فجأة، وناب عنه صيحة شديدة وصوت وقوع جسم على الأرض وتبعه أنين ضعيف، وعلى أثر ذلك حدثت غوغاء وكثر اللغظ والضجيج، فصح عندي حدوث جريمة داخل القاعة التي لا فاصل بيني وبينها إلا ذاك الباب الخشبي، فخفق قلبي وجرى الدم بسرعة في عروقي، وشعرت أن الأرض مادت تحت رجلي، وأخذ العرق البارد ينسكب من جبيني، ولم أعد أفكر بحالتي ولا بالخطر المحدق بي، بل كان اهتمامي معرفة ما هو جار بالداخل.
فدفعت الباب بيدي ودخلت كأني أريد إغاثة من لا بد أن يكون مظلوما، بيد أني لم أجهل كوني أعمى وغير قادر أن آتي بنفع، ولكن قوة غريبة دفعتني إلى صحن القاعة، فما خطوت خطوتين حتى عثرت بجسم ملقى على الأرض، فهويت فوقه، وأصابت يدي منه مادة لزجة فاترة، وعند ذلك طوقتني الأيدي من كل صوب وضغط بعضها على عنقي حتى كادت تبلغ روحي التراقي، فأيقنت أن لا نجاة لي منهم، وأقبلت على نفسي باللوم والتقريع لمخاطرتي وإقدامي على ما أجهله بدون أن أنظر في العواقب، فوقعت في هاوية لا أرجو منها مناصا ولا آمل خلاصا، أنا الذي منذ قليل كنت أستدعي الموت ولا يجيب، وجدت في تلك الساعة أن حياتي المنكودة المظلمة ثمينة بل هي أثمن شيء عندي، فصرخت بصوت أرجفه الخوف وقواه الأمل بالحياة: ارحموني ارحموني أنا أعمى.
الفصل الثاني
حلم أو سكر
قلت ذلك وقد جعلت نفسي كآلة صماء بين أيديهم، وأصبحت أطوع لهم من بنانهم؛ لأني تأكدت عدم مقدرتي على المقاومة، وتيقنت أن أقل إشارة آتي بها للدفاع عن نفسي ستكون مني الحركة الأخيرة، فرأيت أولى بي وأوفق أن أكرر القول بأني أعمى، لعلهم يرحموني أو يوجد فيهم من يسمع صوتي فيرثي لحالي، فما كان منهم إلا أن ألقوني بجانب الجسم الممدد على الأرض، ثم فرجت عني الأيدي.
فليتصور القارئ حالة شاب وجد دون قصد منه في بيت أناس يجهل حقيقة حالهم، فكان كلما يطرق سماعه همس يظنهم يتآمرون على إعدامه، وأقل حركة يشعر بها بينهم يظنها اليد التي تقصد قتله فيتصورها ماسكة خنجرا وستغمده في صدره.
صفحة غير معروفة