النص المحقق
[ نص السؤال ]
الحمد لله رب العالمين .
صفحة ٢٩٢
سئل شيخ الإسلام ، أوحد الزمان . تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية قدس الله روحه ، ونور ضريحه(1) . [ ما تقول السادة العلماء ، أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ](2) في(3) النهوض ، والقيام ، الذي يعتاده الناس : من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر ؟ [ و](4) هل يجوز أم لا ، عند غلبة(5) ظن المتقاعد عن ذلك ، أن القادم يخجل أو يتأذى باطنه(6) ، وربما آل(7) ذلك : إلى بغض ومقت وعداوة(8) ؟ ! [ وهذه الألقاب ](9) المتواطأ عليها بين الناس ، والمعانقات(10) في المحافل وغيرها ، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض ، والانخفاض هل يجوز [ ذلك ](11) أو(12) يحرم ؟ ! فإن فعل رجل ذلك(1) ، عادة وطبعا ليس [ فيه له قصد ](2) ، هل يحرم(3) أم لا ؟ [ وهل ](4) يجوز ذلك : في حق الأشراف والعلماء ؟ [ وفيمن يبوس(5) الأرض مطمئنا بذلك دائما ، هل يأثم على ذلك أم لا ](6) ؟ وفيمن(7) يفعل ذلك ؛ لسبب أخذ رزق ، وهو مكره على ذلك(8) [ هل يأثم أم لا ](9) ؟ وإذا قال : سجدت لله ، هل يصح ذلك [ منه ](10) أم لا ؟
صفحة ٢٩٣
[ نص الجواب ]
[ صور القيام وأحكامها ]
فأجاب(1) :
صفحة ٢٩٤
الحمد لله [ رب العالمين ](2) . لم يكن من عادة(3) السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين ، أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه(4) السلام ، كما يفعل(5) كثير من الناس بل قد قال أنس بن مالك [ رضي الله عنه ](6) : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله(7) صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لما يعلمون من كراهته لذلك(8) . ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه ، تلقيا له ؛ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لعكرمة(9)(10) . وقال للأنصار ؛ لما قدم سعد بن معاذ(11) : « قوموا إلى سيدكم »(12) . وكان [ سعد متمرضا بالمدينة ، وكان ](1) قد قدم [ إلى بني قريظة ، شرقي المدينة ](2) [ ليحكم في بني قريظة(3) ، لأنهم نزلوا على حكمه ](4)(5) والذي ينبغي للناس ، أن يعتادوا اتباع السلف ، على ما كانوا عليه ، على عهد النبي(6) صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم خير القرون ، وخير الكلام كلام الله . وخير الهدي هدي محمد [ صلى الله عليه وسلم ](7) فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق(8) ، وهدي خير القرون ، إلى ما هو دونه . وينبغي للمطاع ، أن لا يقر(9) ذلك مع أصحابه ، بحيث إذا رأوه ، لم يقوموا له [ ولا يقوم لهم ](10) إلا في اللقاء المعتاد . فأما(11) القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له ، فحسن ، وإذا كان من عادة الناس ، إكرام الجائي(12) بالقيام ولو ترك [ ذلك ](13) لاعتقد أن ذلك بخس في حقه(14) أو قصد لخفضه(15) !! ولم يعلم العادة الموافقة للسنة . فالأصلح أن يقام له ؛ لأن ذلك إصلاح(1) لذات البين ، وإزالة للتباغض(2) والشحناء . وأما من عرف عادة القوم ، الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له . وليس هذا القيام [ هو القيام ](3) المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : « من سره : أن يتمثل له الرجال قياما ، فليتبوأ مقعده من النار »(4) . فإن ذلك ، أن يقوموا [ له ](5) وهو قاعد . ليس هو : أن يقوموا لمجيئه إذا جاء . ولهذا فرقوا [ بين ](6) أن يقال : قمت إليه ، وقمت له والقائم للقادم ؛ ساواه في القيام ، بخلاف القيام(7) للقاعد . وقد ثبت في صحيح مسلم : « أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا في مرضه ، [ و](8) صلوا قياما . أمرهم بالقعود ، وقال : لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا »(9) . فقد(10) نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد ؛ لئلا يشبهوا الأعاجم(11) ، الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود . وجماع ذلك [ كله ](12) [ أن ](13) الذي يصلح : اتباع عادات(1) السلف ، وأخلاقهم ، والاجتهاد [ عليه ](2) بحسب الإمكان : فمن لم يعتد(3) ذلك ، أو لم(4) يعرف أنه العادة ؛ وكان في ترك معاملته ، بما اعتاده [ من ](5) الناس : من الاحترام مفسدة راجحة . فإنه يدفع أعظم الفسادين ، بالتزام أدناهما . كما يجب فعل أعظم الصلاحين(6) ، بتفويت أدناهما .
فصل [ حكم الانحناء عند التحية ]
وأما الانحناء : عند التحية . فينهى عنه ؛ كما في الترمذي « عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنهم سألوه : عن الرجل يلقى أخاه [ أ](7)ينحني له ؟ قال : لا »(8) . ولأن الركوع والسجود ؛ لا يجوز فعله إلا لله [ عز وجل ](9) ، وإن كان هذا ، على وجه التحية ، في غير شريعتنا كما [ قال ](10) ، في قصة يوسف { وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل }(11) ، وفي شريعتنا : لا يصلح السجود إلا لله . بل [ قد ](12) تقدم(13) نهيه : عن القيام ، كما تفعل(14) الأعاجم بعضها لبعض(15) فكيف بالركوع والسجود ؟ ! وكذلك ما هو ركوع ناقص ، يدخل في النهي عنه .
صفحة ٢٩٧
فصل [ تأريخ استعمال الألقاب وحكمها ]
صفحة ٢٩٨
وأما الألقاب ، فكانت عادة السلف : الأسماء والكنى فإذا [ أكرموه ](1) كنوه بأبي فلان(2) : تارة يكنون الرجل بولده [ وتارة بغير ولده ](3) كما [ كانوا ](3) يكنون من لا ولد له : إما بالإضافة إلى اسمه ، أو اسم أبيه ، أو ابن سميه(4) ، أو إلى أمر(5) [ له ](6) به تعلق(7) ؛ كما كنى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة [ باسم ](8) ابن أختها : عبد الله(9)(10) ؛ وكما يكنون داود : أبا(11) سليمان ؛ لكونه باسم داود [ عليه السلام ](12) ، الذي اسم ولده سليمان . وكذلك كنية إبراهيم : أبو إسحاق : وكما كنوا(13) عبد الله بن عباس : أبا العباس وكما كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة : باسم هرة(14) كانت [ تكون ](15) معه(16) وكان الأمر على ذلك : في القرون الثلاثة ، فلما غلبت دولة الأعاجم بني بويه(1) : صاروا [ يضيفون إلى الدولة فيقولون : ركن الدولة ، عضد الدولة ، بهاء الدولة ](2) ثم بعد هذا(3) : أحدثوا الإضافة إلى الدين ، وتوسعوا في هذا(4) . ولا ريب أن الذي(5) يصلح ، مع الإمكان : هو ما كان السلف يعتادونه : من المخاطبات ، والكنايات(6) : فمن أمكنه ذلك ، فلا يعدل عنه [ و](7) إن اضطر إلى المخاطبة ، لا سيما وقد نهي عن الأسماء التي فيها تزكية - كما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسم برة : فسماها زينب(8) لئلا تزكي نفسها(9) - والكناية بهذه(10) الأسماء المحدثة - خوفا من تولد شر إذا عدل عنها - فليقتصر على مقدار الحاجة .
ولقبوا بذلك : [ لا ](11) [ أ](12)نه علم محض ، لا يلمح(13) فيه [ معنى ](14) الصفة ، بمنزلة الأعلام المنقولة : أسد وكلب وثور . ولا ريب أن هذه المحدثات [ المنكرة ](15) ، التي أحدثها الأعاجم وصاروا
صفحة ٢٩٩
[فصل : السجود لغير الله تعالى وموقف الإسلام منه]
يزيدون فيها ، فيقولون : عز الملة والدين ، وعز الملة والحق والدين ، و[ ما ](1) أكثر ما يدخل في ذلك : من الكذب المبين !! بحيث يكون المنعوت بذلك ، أحق بضد ذلك الوصف . والذين يقصدون هذه الأمور : فخرا وخيلاء . يعاقبهم الله بنقيض قصدهم : فيذلهم [ الله ](2) ويسلط عليهم عدوهم . والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به : من عبادته وطاعته ، يعزهم ، وينصرهم ؛ كما قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد }(3) وقال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }(4)(5) .
فصل(6) [ السجود لغير الله تعالى وموقف الإسلام منه ]
صفحة ٣٠٠
وأما وضع الرأس ، وتقبيل الأرض(7) [ ونحو ذلك ](8) : مما فيه السجود . كما(9) يفعل قدام [ بعض ](10) الشيوخ ، وبعض الملوك !! . فلا يجوز بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضا [ كما « قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل منا يلقى أخاه ، أينحني له قال : لا » ](1) « ولما رجع معاذ(2) [ رضي الله عنه ](3) من الشام . سجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا يا معاذ ؟ قال : يا رسول الله ؛ رأيتهم بالشام(4) يسجدون لأساقفتهم ، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم . [ فوددت أن أفعل ذلك بك يا رسول الله ](5) فقال : كذبوا عليهم . [ يا معاذ : ](5) لو كنت آمرا(6) أحدا : أن يسجد لأحد . لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ؛ من أجل حقه عليها . يا معاذ [ إنه ](7) لا ينبغي(8) السجود إلا لله »(9) .
صفحة ٣٠١
وأما فعل ذلك : تدينا ، (10) وتقربا ، فهذا من أعظم المنكرات !! ، ومن اعتقد مثل هذا : قربة ودينا(11) ، فهو ضال مفتر بل يبين(12) له أن هذا ليس بدين ولا قربة ، فإن أصر على ذلك(13) [ استتيب . فإن تاب ، وإلا قتل . وأما إذا أكره الرجل على ذلك ](1) . بحيث لو لم يفعله(2) ، لأفضى : إلى ضربه ، [ أ](3) وحبسه ، أو أخذ ماله ، أو قطع رزقه(4) الذي يستحقه من بيت المال ، ونحو ذلك من الضرر !! فإنه يجوز عند أكثر العلماء ؛ فإن الإكراه عند أكثرهم ؛ يبيح الفعل المحرم : كشرب الخمر ونحوه ، و[ هذا ](5) [ هو ](6) المشهور عن أحمد ، وغيره(7) . ولكن عليه مع(8) ذلك ، أن يكرهه(9) بقلبه ، ويحرص على الامتناع منه ، بحسب الإمكان . ومن علم الله منه الصدق ، أعانه [ الله تعالى ](10) ، وقد يعافى ببركة صدقه ، من الإلزام(11) بذلك . وذهب طائفة إلى أنه ، لا يبيح إلا : الأقوال دون الأفعال . ويروى ذلك ، عن ابن عباس ، ونحوه قالوا : إنما التقية باللسان ، [ وهو ](12) الرواية الأخرى ، عن أحمد(13) ، وأما فعل ذلك : لنيل(14) فضول الرياسة ، والمال فلا ! وإذا أكره على مثل ذلك ، ونوى بقلبه ؛ أن هذا الخضوع لله تعالى ، كان حسنا ؛ مثل أن يكره [ على ](15) كلمة الكفر ، وينوي معنى(16) جائزا . والله أعلم(17) .
صفحة ٣٠٢