فردت عليه وقد كشرت عن أنفة وكبرياء: أبدا .. لن أسمح بهذا ما حييت.
فصمت يوسف لحظة يمتع نفسه بحماسها الفاتن، لكن لم يطل به الصمت السعيد؛ لأنه تذكر العقبات الأوابد التي تسد عليه الطريق، فتنهد، وقال كأنما يحدث نفسه: ترى هل أبلغ أمنيتي يوما فأتزوج منك؟
وكانت تلك المرة الأولى التي ينطق فيها بتلك الكلمة الخطيرة، ولذا أنكرتها أذنه وخيل إليه أن قائلها غريب عنه، أما سوسن فقد ارتجفت شفتاها عن اضطراب، وتدفق الدم إلى وجهها فصار كالجمان .. ولم يكن يطمع أن تجيبه بأكثر من هذا .. وبعد هنيهة ذهبت في التفكير والأحلام فسألته: «أي مستقبل تبتغي؟»
فأجاب: «أنا ما زلت في مستهل الطريق ومبتدأ العمر .. وكل صعب يسير مع الجهد والعزيمة الصادقة، فعليك الاختيار وعلي الاجتهاد.»
ففكرت لحظة تختار لزوج المستقبل ما تحب من المهن والأعمال، ثم قالت: ألا تستطيع أن تكون من الأعيان؟ إنني أسمعهم دائما يقولون عن بابا إنه من الأعيان، فلم لا تكون مثله؟ - من الأعيان؟! .. ولكنها ليست وظيفة ولا مهنة .. الوظائف التي أعني مثل المهندس والمدرس والضابط والطبيب ...
وعادت مرة أخرى إلى التفكير والمفاضلة، وكانت عيناه لا تفارقان وجهها، فرآه تضيق عيناه وتنفرج شفتاه من الذهاب مع التفكير، ففتنه منظره وأنساه نفسه كما فعل به في المرة الأولى، فاقترب منها وهوى برأسه يريد أن ينال منها قبلة .. ولكنه أحس بغتة .. نعم بغتة، بشيء يصيب رأسه وسمع صوتا يصرخ به: أتجرؤ يا كلب؟! .. والتفت مذعورا فرأى أخا الآنسة الأصغر ينهال عليه لكما وضربا. وأراد دفع السوء عن نفسه فأمسك بتلابيبه، فضاعف غضب الأخ وضاعف له الضرب .. ووقفت على بعد قريب سوسن تشاهد ما يقع بعينين محملقتين ووجه شاحب كوجوه المرضى. ولا يدري كيف نمى الخبر إلى أبيه فجاء يجري مضطربا وأمسك بيوسف بعيدا عن الصبي الآخر، وسأله بصوت ملؤه الاحترام: «لماذا تجد عليه يا سيدي؟ ماذا فعل؟» فأجابه بصوت عال مغيظ: «رأيته يحاول أن يغتصب ... قبلة من سوسن بالقوة!» فصرخ الرجل: «يا للفظاعة! .. هل حقا يا سيدتي؟» وكانت سوسن لا تزال ملازمة لحالة المباغتة التي استولت عليها .. فلما سمعت سؤال الرجل اضطربت ثانية .. ثم بلعت ريقها، وقالت بصوت خافت: «نعم.» وفرت هاربة من الواقفين ومن عيني يوسف خاصة.
بعد هذا شد الرجل على يد ابنه وساقه أمامه .. وقد هم يوسف أن يتكلم فما أحس إلا بيد أبيه تصيب مؤخرة رأسه فيقع على وجهه بين الإعياء الشديد والإغماء .. وهكذا كان ختام حديث الحب والمستقبل .. وهكذا كانت نهاية مغامرته في قصر سليم بك عامر.
لقد بدا له تصرفها أول الأمر غدرا وخيانة. ولكنه لم يلبث أن انتحل لها الأعذار .. وما كان الغضب ولا الموجدة ولا الاعتقاد في غدرها بمستطيعة أن تزحزح الحب عن قلبه قيد أنملة، فانزوى في حجرته يعاني الحرمان والألم واليأس المميت شهرا بعد شهر وعاما بعد عام، حقا لقد كان حبا عجيبا رهيبا .. وأنه لن ينسى ما عاش تلك الأعوام التي شهدت أيامها وساعاتها ودقائقها معاناته الألم الشديد واليأس والحب الخائب، وفي بعض ساعات اليأس والشوق رسم صورتها على حائط حجرته التي شهدت آلامه جميعها وكتب إلى جانبها تلك الأبيات الشعرية، وجعل يرددها كل حين عله ينسى ويتعزى.
وما كان يستطيع أن يتصور أنه ينسى.
ولكن للأيام أحكامها وقد تسرب النسيان إلى طيات قلبه نقطة نقطة حتى برئ وشفي وعفا من قلبه الهوى. ثم تقدم به العمر ووظف ثم تزوج وخلف وضاق بالحب.
صفحة غير معروفة