والإرادة التكليفية راجعة إلى الرضا بالفعل ومحبوبيته كما أشار إليه تعالى بقوله وإن تشكروا يرضه لكم وإرادته تعالى بهذا المعنى يجوز تخلفها عن المراد وسيأتي ما يتضح به ذلك في مبحث القبح و الحسن إن شاء الله والعجب أن من خالفهم في إثبات الملازمة وافقهم في نفي الاتحاد على الاحتجاج بالحجة الأولى وهي كما ترى لو تمت لدلت على نفي الملازمة أيضا ثم إن الأشاعرة نفوا كون مدلول الامر نفس الإرادة ولم يتبينوا له معنى فأورد عليهم بلزوم وضع الظاهر بإزاء المضمر وربما فسره من وافقهم بأنه نوع من الميل وهو غير واضح ثم اعلم أن الفرق بين الوجوب والايجاب و اللزوم والالزام اعتباري فإن الصادر من الامر أمر واحد إن قيس إليه باعتبار صدوره عنه كان إيجابا وإلزاما وإن قيس إلى الفعل باعتبار قيامه به كان وجوبا ولزوما فهما متحدان ذاتا ومتغايران اعتبارا وليس في قولك أوجبته فوجب دلالة على المغايرة الذاتية لجواز ترتب الشئ باعتبار على نفسه وباعتبار على آخر ومرجعه إلى ترتب أحد الاعتبارين على الاخر ولا ينافي ذلك كون الايجاب من مقولة الفعل والوجوب من مقولة الانفعال وكون المنقولات متباينة لأنا لا نريد اتحاد الفعل مع الانفعال كيف والأول قائم بالفاعل أعني الموجب والثاني قائم بالفعل أعني الواجب وتغاير الموصوفين قاض بتغاير الوصفين وإنما نريد اتحاد المورد أعني ما انتزع منه الاعتباران مقيسا إلى غيره وكذلك الحال في الايجاد و الوجود والتأثير والأثر ولهذا قد ينعدم الاعتبار الأول فيبقى الاعتبار الثاني كما في كثير من التأثيرات الاعدادية الثاني صيغة الامر كاشفة عن مدلولها باعتبار دلالتها عليه على حد كشف سائر المركبات عن معانيها ومصححة لتحققه في الخارج باعتبار دلالتها عليه نظرا إلى امتناع التكليف بدون الاعلام والافهام وهما متغايران بحسب الزمان وأما بحسب الرتبة فالدلالة تتوقف على المدلول وهو ظاهر ولا يتوقف المدلول عليها بل يستلزمها بمعنى أنه لا يصح وقوعه في الخارج بدونها فيندفع الدور والتحقيق في دفعه أن يقال مدلول الامر إرادة أو إلزام معلق تعلقه بالمكلف على علمه به ضرورة أن العلم من شرائط التكليف فمتى حصل العلم ولو بعد مضي زمن حال الخطاب تعلق الالزام به على حد سائر الشرائط التي تعتبر فيه فالدلالة تتوقف على وجود المدلول ووجوده لا يتوقف على وجود الدلالة وإنما يتوقف فعليته في حق المكلف على العلم بها بهذا ومما قررنا يظهر أن الصيغة كما تكشف عن مدلول الامر وتحققه كذلك يجوز أن يكشف عنه غيرها كالاجماع والعقل و أن تكرر الامر للتأكيد لا يصيره مجازا كما سبق إلى بعض الأوهام حيث زعم أنه موضوع لنشاء الطلب وإيقاعه فحيث تأتي للتأكيد لا يكون المقصود به ذلك وإلا لكان تحصيلا للحاصل فيكون مجازا لوقوعه مستعملا في غير ما وضع له ووجه دفعه أن الامر موضوع بإزاء المعنى الذي أنشأه المتكلم في نفسه من إرادة الفعل أو الالزام به كما يرشد إليه التبادر واقتضاؤه وقوع الطلب به من توابعه المترتبة عليه عند عدم سبق علم المكلف به وليس الوضع بإزائه الثالث الامر بالفعل مطلقا هل يقتضي مطلوبيته مطلقا أو بقصد الامتثال وجهان بل قولان أقواهما الأول ويدل عليه بعد مساعدة إطلاق اللفظ عليه القطع بأن العبد المأمور بشراء اللحم مطلقا مثلا إذا أتى به لا لأمر المولى لم يعد عاصيا لمخالفة الامر ولا يجب عليه الاتيان به ثانيا لامره بل كان ما أتى به نفس الواجب وعين المطلوب بشهادة العقل و العرف نعم لا يترتب على فعله حينئذ مدح ولا ثواب نظرا إلى عدم قصده الامتثال به ولا ملازمة بين فعل الواجب وبين ترتب ذلك عليه وهذا واضح ويعرف بمقايسة الحال في النهي فإن المطلوب في النواهي المطلقة نفس الترك وإن تجرد عن قصد الامتثال ويتوقف ترتب المدح والثواب عليه على قصده به هذا كله في الامر الايجابي أما الامر الندبي فإن دل دليل على ترتب الثواب على مورده مطلقا كما دل عليه في بعض الواجبات كالايمان والنية أو على كراهة تركه من حيث إيجابه لمنقصة دينية أو دنيوية موجبة لمنقصة دينية أو لخوفها لم يلزم أن يعتبر في استحبابه وقوعه بنية القربة ولا دلالة للامر أيضا عليه وإلا لزم فيه ذلك لانتفاء رجحانه على تقدير عدم القربة والفرق بينه وبين الواجب أن الواجب يترتب على تركه استحقاق العقوبة الموجب لمرجوحيته المستلزمة لرجحان الفعل مطلقا قضاء لحق المقابلة بخلاف المندوب الذي لا ثواب في فعله بدون القربة ولا كراهة في تركه فإنه لا رجحان في فعله بدون القربة أصلا فيتعين أن يكون استحبابه مقصورا على تقدير قصد القربة به لرجحانه حينئذ باعتبار ترتب الثواب عليه ومما حققنا يتبين أن ترك المندوب لا يستلزم الكراهة وإن استلزم المرجوحية لقضاء المقابلة به هذا ويمكن أن يوجه الوجه الثاني بأن الامر إما أن يقصد إلزام المأمور بالفعل له أو لا له إذ لا مخرج عنهما والثاني باطل ضرورة أن قول القائل افعل لا لي قبيح عرفا وعقلا بل ربما يعد من قبيل الالزام بالمحال فيتعين إرادة الأول وهو المطلوب وحينئذ فلا بد من ارتكاب التأويل فيما لا يعتبر في براءة الذمة منه إلى قصد الامتثال بجعل إلزامه فيه على تقدير عدمه من باب الاسقاط وجوابه أن المطلوب في الامر المطلق حصول الفعل مجردا عن القيدين أي من غير اعتبار شئ منهما وعدم كونه مجردا عنهما في الواقع لا يستلزم أن يكون معتبرا في تعلق الطلب بالفعل وقبح التكليف به مقيدا على تقدير تسليمه لا يوجب قبحه مطلقا فإن قبح التكليف في الفرض المذكور إنما هو من حيث كون التكليف مقيدا لا من حيث كون الفعل مقيدا إذ لا استحالة في إتيان الفعل لا بقصد الامتثال وإنما يستحيل تخصيص التكليف به إن تم مما يناظر المقام في عدم جواز التكليف به مقيدا وجوازه مطلقا الواجب الذي يمكن التوصل إليه بمقدمة جائزة ومقدمة محرمة فإن التكليف به مطلقا جائز و مقيدا بالتوصل إليه بالمقدمة المحرمة قبيح هذا مع أن دعوى عدم جواز أمر الامر بالاتيان لغيره في محل المنع كما يدل عليه وجوب الامر بالعبادات الواجبة والحث عليها ووجهه أن المأمور متمكن من إحداث الدعاوي الإلهية في نفسه فيصح أن يأمر بتحصيلها واحتج العلامة على
صفحة ٦٩