كثيرا منهم نقلوا الاتفاق على كونه حقيقة في هذا المعنى أعني قول المخصوص وجعلوا النزاع في بقية معانيه فذهب بعضهم إلى أنه مجاز فيها لأنه أولى من الاشتراك ومنهم من جعله مشتركا معنويا بينه وبين الشأن حذرا من المجاز والاشتراك المخالفين للأصل ومنهم من جعله مشتركا لفظيا وعلى هذا جرت كلمة من وقفنا على كلامه وهو منهم بمكانة من الوهن ومنشؤه الخلط بين المعنى المصطلح عليه و بين غيره لأنا نقطع بأن الامر لا يطلق على نفس القول لا لغة ولا عرفا إلا مجازا فإن المفهوم من قول القائل أنا آمر بكذا وزيد أمر بكذا وقوع الطلب منه دون صدور لفظ منه نعم ربما يسبق ذلك إلى الفهم في مثل الفرض الثاني نظرا إلى أنه الطريق المتداول في التأدية عن الطلب فلو سلم دلالة اللفظ عليه فإنما هو من باب الملازمة العرفية الناشئة من الغلبة دون الوضع مع أنهم لو أرادوا بالقول المخصوص نفس اللفظ أعني الملفوظ كما هو الظاهر من كلماتهم لكان بمنزلة الفعل والاسم والحرف في مصطلح علماء العربية فكان اللازم عدم صحة الاشتقاق منه لعدم دلالته حينئذ على معنى حدثي مع وقوعه منه بجميع تصاريفه ويمكن توجيه ما وقع في كلام الأشاعرة من تفسير الامر باعتبار اللغة بالقول بحمله على القول النفسي بناء على ما هو المعروف من مذهبهم فيرجع إلى ما ذكرناه هذا وأما ما تمسك به القائل بمجازيته في غير القول فمدفوع بأن الأولوية إنما تصلح مستندا إذا لم يقم هناك ما يوجب الاشتراك وقد بينا ثبوته بدليل التبادر وغيره فلا سبيل إلى الاستناد إليها مع أن المجاز يتبع العلاقة ولا علاقة بين القول المخصوص وبين الشأن بحيث يعتمد عليها في الاستعمال ويعول عليها في المقال وكذا ما تمسك به القائل بالاشتراك المعنوي مدفوع على تقدير تسليم أصله بأنا لا نجد هناك قدرا مشتركا بين القول وبين الشأن إلا مفهوم أحدهما ولا ريب أن المتبادر منه عند الاطلاق ما صدق عليه مفهوم أحدهما دون نفس مفهوم أحدهما فلا يكون حقيقة فيه ثم المراد بالطلب المخصوص طلب العالي من الداني حصول الفعل على سبيل الالزام فخرج الدعاء والالتماس لعدم الوصفين والندب لعدم الالزام ودخل فيه الطلب بالقول المخصوص وبقول غيره وبغير القول كالإشارة و الكتابة ومن خصه بالنوع الأول فقد تعسف لشهادة العرف على خلافه مضافا إلى تصريح أئمة اللغة به والمراد بالفعل مطلق الحدث أعني ما دل عليه لفظ المصدر فخرج الاستفهام باعتبار معناه الحرفي وإن دخل فيه باعتبار ما يلزمه من المعنى الاسمي أعني طلب الفهم كما في نحو علمني وفهمني إذا اشتمل على بقية القيود ودخل نحو اترك باعتبار الترك فإنه أمر به حقيقة وإن صدق باعتبار المقيد به أنه نهي عنه وخرج نحو لا تترك فإنه نهي عن الترك وإن صدق عليه باعتبار الفعل المقيد به أنه أمر به وبالجملة فهما داخلان في الامر باعتبار وفي النهي باعتبار ومنهم من عين دخول الأول في النهي والثاني في الامر جمودا على ظاهر الحد نظرا إلى أن الفعل ظاهر في الامر الوجودي وهذا منه مخالفة للغة والعرف والاصطلاح ثم منهم من اعتبر الاستعلا بدل العلو ومنهم من اعتبرها معا والحق أن اختصاص لفظ الامر وضعا بالطلب الصادر عن العالي يوجب إظهار المستعمل وإفادته لعلو من يسنده إليه على المأمور كما أن اختصاص الدعاء بطلب السافل من العالي يوجب عكس ذلك واختصاص الالتماس بطلب أحد المتساويين في الرتبة من الاخر يوجب إفادة تساويهما في الرتبة وعلى هذا فاختصاص الامر بالعالي اختصاص وضعي وقد يسبق إلى النظر أن اختصاص الامر بالطلب الإلزامي يقتضي اختصاصه بالعالي لان الالزام بمعنى جعل الشئ لازما حقيقة إنما هو شأن العالي دون غيره فيفيد الاستعلا على ما تقدم ويدفعه أنا لا نريد بالالزام إلا طلب الفعل مع عدم الرضا بتركه وهذا لا يستلزم الالزام الحقيقي على أن الالزام الحقيقي لا يختص بالعالي لجواز صدوره عن المساوي و السافل كما لو التزم المولى بإنجاح حاجة لعبده ولو بعبد وشبهه أو واعده على وجه يلزمه الوفاء به عقلا فإن الالزام يتحقق منه شرعا أو عقلا مع أنه لا يصدق الامر ثم إن أراد القائل بأنه يدل عليها معا ما أردناه فلا مشاحة معه وإن لم يساعد لفظ الاستعلا عليه فإن معناه طلب علو النفس وإظهاره لا ما يعم إظهار علو الغير وإلا فندفع قوله و قول من اعتبر الاستعلا فقط بعد عدم المأخذ بشهادة التبادر على خلافه ثم هل يعتبر في العالي أن يكون عاليا حقيقيا ولو بحسب العرف والعادة أو يكفي كونه عاليا في دعواه أو دعوى من يسند إليه الامر أو أحدهما وجوه وأما قوله تعالى حكاية عن قول فرعون لملئه فما ذا تأمرون فإن قدرنا المفعول العساكر والرعايا فلا إشكال في كونه حقيقة وإن قدرناه ضمير المتكلم كان مبنيا على تنزيلهم منزلة العالين استمالة لهم فيبتني كون الاستعمال حقيقة أو مجازا على الوجوه المذكورة ثم ما اعتبرناه في الحد من قيد الالزام مما نفاه بعضهم فأدرج الندب فيه والذي يدل على ما اخترناه بعد مساعدة التبادر عليه قوله صلى الله عليه وآله لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك حيث نفي الامر مع ثبوت الاستحباب وما نقل أن بريرة لما أراد النبي صلى الله عليه وآله منها الرجوع إلى زوجها قالت تأمرني يا رسول الله فقال لا بل إنما أنا شافع فنفي الامر وأثبت الشفاعة وهي للندب ويساعد عليه ظاهر بعض الآيات الآتية حيث اشتملت على تهديد مخالف الامر وذمه و يمكن المناقشة فيها بأن استعمال الامر في هذه الموارد في الايجاب لا يوجب أن يكون موضوعا له بخصوصه بل يكفي ظهوره فيه عند الاطلاق مع أن مجرد الاستعمال لا يقتضي الحقيقة واستدل بعض المعاصرين بأن دلالة الامر على الاستعلا تقتضي الايجاب والالزام إذ لا معنى لاظهار العلو في المندوب لأنه إرشاد وليس بشئ إذ لا نعني بالاستعلا إلا طلب العلو وإظهاره بإطلاق لفظ موضوع للعالي على ما عرفت وظاهر أن إفادة هذا المعنى لا تقتضي أن يكون هناك حكم على المخاطب أو غيره فضلا عن كونه إيجابا وبالجملة فالعالي في أوامره الايجابية وغيرها غير خارج عن كونه عاليا فإذا أتى بلفظ منبئ عن علوه كان ذلك منه استعلا ألا ترى أن التعبير عن المفرد بلفظ الجمع يفيد التعظيم لتنزيله منزلة الجماعة ولم يسبق إلى وهم أنه يقتضي حكما أو إلزاما وهذا ظاهر وأما تعليله بأن المندوب إرشاد فعري عن الجدوى لأنه إن أراد بالارشاد الدلالة إلى ما هو طريق السداد فالايجاب أيضا كذلك وإن أراد ما هو قسيم الطلب فظاهر الفساد احتجوا بأنهم قسموا الامر إلى إيجاب وندب ولا بد أن
صفحة ٦٣