اللغة إذ عدم الاطلاع لا يقضي بعدم الوقوع وأجيب عن الأول بأن الاطلاق المذكور مردود لوقوعه بعد النقل وهجر المعنى الأول فلا يعتد به وهذا مبني على أن اللفظ إذا هجر بالنسبة إلى معنى لم يصح إطلاقه عليه بحسب ذلك الوضع والتزامه بعيد اللهم إلا أن يقال حصل هناك منع عرفي بحيث قبح إطلاق اللفظ المذكور على غيره تعالى وهو بعد محل نظر وأما ما يقال من أن الاطلاق المذكور تعنت في كفرهم فلا يصلح للجواب إذ لا ينافي ذلك صحة الاستعمال كسائر كلمات الكفر وقول التفتازاني بأن الاطلاق المذكور كإطلاق لفظ الجلالة على زيد تعنتا فإنه لا يعتد به لظهور الفارق فإن لفظ الجلالة غير موضوع لزيد لا لغة ولا عرفا فلا يصح الاستعمال بوجه بخلاف لفظ الرحمن بل التحقيق في الجواب أن يقال يكفي في إثبات المقصود الاستعمالات السابقة على ذلك الاستعمال وعن الثاني بالاستقراء فإنا تتبعنا كلماتهم فلم نظفر باستعمالاتهم إياها في معانيها الأصلية و ظاهر أن عدم الاطلاع بعد الاستقراء يورث الظن بالعدم هذا و يبقى الكلام في حجية الظن في مثل هذه المسألة فصل الحق كما عليه المحققون إمكان الاشتراك ووقوعه في اللغة ومنهم من أوجب وقوعه ومنهم من أحاله والظاهر أن النزاع في الألفاظ اللغوية الأصلية أو فيها وفيما يجري مجراها لا غير ضرورة أن كل واضع لا يلزم أن يكون حكيما ولا مطلعا على جميع أوضاع لغته و ينبغي أن يراد بالاشتراك هنا مجرد كون اللفظ الواحد موضوعا بأوضاع متعددة لمعان متعددة سواء كانت الأوضاع ابتدائية أو لا فيتناول النقل التعييني والارتجال فإن حجة الموجبين لا تقتضي تعيين النوع الأول وحجة القول بالإحالة تقتضي الحالة الأقسام الثلاثة نعم لو اعتبر الهجر فيهما لم يتوجه القول بالإحالة إليهما ثم المراد بالوجوب لزوم وقوعه من حيث الحكمة الداعية إليه على التعيين و بالامتناع لزوم عدمه من حيث إخلاله بها وبالامكان انتفاء ما يوجب شيئا من ذلك وعلى هذا فلا يلزم القائل بوقوعه القول بوجوبه نظرا إلى ما تحقق في محله من أن ما لم يجب لم يوجد لاختلاف معنى الوجوب ويلزم الأشاعرة المصير إلى إمكانه على أصلهم المعروف من نفي التحسين والتقبيح ثم من القائلين بوقوعه في اللغة من منع وقوعه في القرآن والحق وقوعه فيه أيضا لنا على إمكانه عدم ما يقتضي وجوبه وامتناعه وعلى وقوعه في اللغة نص اللغويين عليه في ألفاظ كثيرة كالقر في الطهر والحيض والعين في الجارية و الجارحة وعسعس في أقبل وأدبر وظاهر أن نقلهم إذا سلم عن المعارض كان حجة اتفاقا ثم ثبوت الاشتراك في هذه الألفاظ يقضي بوقوعه في القرآن لوقوعها فيه حجة من أوجب وقوع الاشتراك أمران الأول أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية لتركبها من حروف متناهية فإذا وزعت الألفاظ على المعاني بقي ما زاد على عدد الألفاظ مجردا عن لفظ يكون بإزائها وحينئذ فإما أن لا تكون تلك الألفاظ وضعت ثانيا بإزائها فيلزم الاخلال بالمصلحة التي تضمنها الوضع أو وضعت فيلزم الاشتراك الثاني أنه لو لم يقع لكان الموجود في القديم والحادث مشتركا معنى والتالي باطل أما الملازمة فلان هذا اللفظ يطلق عليهما إطلاقا حقيقيا فلو لم يكن من جهة وضعه لخصوصهما لكان من جهة وضعه لما يشترك بينهما وهو المقصود باللازم وأما بطلانه فلان المسمى به إن كان نفس الذات فليس بمشترك وإن كان صفة فهي في القديم واجب وفي الحادث ممكن فلا يكون أمرا واحدا وإلا لكان الواحد بالحقيقة واجبا لذات وممكنا لأخرى وهو لا محالة و الجواب أما عن الأول فبأن المعاني وإن كانت غير متناهية لكن وضع الألفاظ بإزاء آحادها يوجب أوضاعا غير متناهية وهي على تقدير صحة صدورها من الواضع لا فائدة إلا في قدر متناه منها لامتناع تعقل أمور غير متناهية أو استعمال الألفاظ بحسب أوضاع غير متناهية فيلغو الوضع فيما زاد عليه سلمنا لكن المعاني إنما لا تكون متناهية بجزئياتها وأما بالنظر إلى كلياتها العالية أو ما قاربها فهي متناهية وظاهر أن الوضع بإزائها مغن غالبا عن الوضع بإزاء الخصوصيات والجزئيات لحصول المقصود بتركيب بعضها ببعض سيما مع انفتاح باب المجاز فلا يلزم تناول الوضع لجميع الألفاظ فضلا عن وقوع الاشتراك فيها وقد يجاب بمنع تناهي الألفاظ لأنها مركبة من الحروف بتراكيب غير متناهية فهي أيضا غير متناهية وإن كانت الحروف التي تتركب منها متناهية كمراتب الاعداد ويمكن دفعه بأن القدر الذي يصح معه الانتفاع في الاستعمال متناه قطعا فيتم به ما أراده الخصم إلا أن هذا لا يصحح ظاهر كلامه ولو تمسك المستدل بأن القدر الذي يصح الانتفاع به من الألفاظ أقل من القدر الذي يحتاج إلى التعبير عنه من المعاني فالحكمة الداعية إلى الوضع داعية إلى الاشتراك لكان أقرب إلى منهج السداد ولم يحتج إلى أخذ تلك المقدمات المتضحة الفساد لكنه أيضا مدفوع بما عرفت نعم يتجه البيان المذكور في إثبات وجوب الاشتراك في غير الألفاظ اللغوية الأصلية كالاعلام فإن الحاجة تمس إلى وضع اللفظ بإزاء مسمياتها وقلة الألفاظ التي يصح الانتفاع بها بالنسبة إليها يوجب وقوع الاشتراك فيها وقد نبهنا على خروج ذلك عن محل النزاع و أما عن الثاني فبأنا نختار أنه صفة ولا يلزم أن لا يكون أمرا واحدا لان الاختلاف في صفتي الايجاب والامكان لا يقتضي الاختلاف في موصوفيهما كما في سائر الصفات الاعتبارية إذ عند التحقيق يتحقق الوجوب والامكان في منشأ الانتزاع مع أن هذا الدليل على تقدير تسليمه لا يقتضي وجوب الاشتراك بل وقوعه وهو أعم مما ادعاه المستدل احتج من أحال الاشتراك بأنه يخل بالتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن و جوابه أن البيان ممكن بمعونة القرائن الواضحة مع أن القصد قد يتعلق بالبيان الاجمالي لحكمة داعية إليه حجة من منع وقوعه في القرآن أنه لو كان مبينا لزم التطويل بلا فائدة لامكان الأداء بدونه وإلا لزم عدم الإفادة وشئ منهما لا يليق بكلامه تعالى والجواب أن المقام ربما يعين المعنى المقصود من غير حاجة إلى قرينة لفظية فلا يلزم التطويل مع أن القرينة اللفظية ربما تكون مقصودة في الخطاب لنفسها كما في قوله تعالى وفجرنا الأرض عيونا فلا يلزم التطويل بغير فائدة على أن اللفظ المشترك قد يكون أفصح من غيره وأوفق بالقافية ونحو ذلك فيترجح من جهته مضافا إلى أن المشترك لا يخلو من دلالة إجمالية والغرض قد يتعلق بها
صفحة ٣١