بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله الذي ضمن النصر لمن نصره، وأيد بسلطان الحق من عرف سبيله فأبصره، وسلب التوفيق عمن (2) ألحد فيه وأنكره.
وإليه الرغبة في إدامة النعمة، وبه نعوذ من العذاب والنقمة.
وصلواته في سيدنا محمد وآله الأئمة المهدية، وسلم كثيرا.
وبعد، فإني قد خلدت (3) من الكلام في وجوب الإمامة، واختصاص مستحقيها (4) عليهم السلام بالعصمة، وتمييزهم من رعاياهم بالكمال والفضل بمحاسن (5) الأفعال والأعلام الدالة على الصدق منهم في الدعوى إلا ما دعوا إليه من الاعتقادات والأعمال، والنصوص الثابتة عليهم من الله تعالى، بجلي المقال.
صفحة ٤١
وأوضحت عن فساد مذاهب المخالفين في ذلك والذاهبين بالجهل والضلال، بما قد ظهر في الخاص من الناس والعام، واشتهرت بين الجمهور من الأنام.
وبينت عن أسباب ظهور دعوة الناطقين منهم إلى الدين، وصمت المتقين عن ذلك، لضرورتهم إليه بظلم الجبارين، والاشفاق على مهجتهم (1) [من] المبيحين لدمائهم، المعتدين بخلاف قتلة (2) النبيين والمرسلين فيما استحلوه من ذلك. بما ضمه الفرقان والقرآن (3) المبين، فيما ثبت في غيبة خاتم الأئمة المهديين عليهم أفضل السلام والتسليم، واستتاره من دولة الظالمين، ما دل على إيجابه إلى ذاك وضرورته إليه. مثمر العلم به واليقين.
وتجدد بعد الذي سطرته في هذه الأبواب، وشرحت معانيه على وجه السؤال فيه والجواب (4)، وشواهد الحق فيه بحجة العقل والسنة والكتاب، رغبة ممن أوجب له حقا، وأعظم له محلا وقدرا، وأعتقد في قضاء حقه (5) ووفاق مشربه (6) لازما وفرضا، في إثبات نكت من فصول خطرت بباله في مواضع ذكرها، يختص القول فيها بإمامة صاحب الزمان عليه وعلى آبائه أفضل السلام، آثر أن يكون القول فيها على ترتيب عينه وميزه من جملة ما في بابه وبينه.
فاستخرت الله تعالى في رسم ما ذكره من الفصول، والقول فيها بما تعم معرفته ذوي العقول، ولا يحتاج معه إلى فكر (7) يمتد زمانه ويطول، ويستغني به
صفحة ٤٢
عن الرجوع إلى العمد (1) التي أودعتها كتبي السالفة في ذلك ومهذبه (2) فيها من الأصول، وبالله استعين.
صفحة ٤٣
ذكر الفصول على ترتيبها ونظامها وشرحها ومواضع الشبهات فيها:
الفصل الأول : القول فيما يدعيه الإمامية من وجود خلف لأبي محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا ولد في حياته، مع خفاء ذلك على أهله، واستتاره عن بني عمه وأوليائهم وأعدائهم في وقته إلى هذه الغاية، لم يشرك الإمامية في دعوى ذلك غيرهم من الناس.
الفصل الثاني: إنكار جعفر بن محمد بن علي (1) - أخي الحسن بن علي - دعوى الإمامية ولدا له، وحوزه ميراثه، والتظاهر بتكذيب من ادعى لأخيه ولدا في حياته وبعد وفاته، ورفع خبر المدعين ذلك إلى السلطان، حتى بعثه (2) على حبس جواريه (3) واستبراء حالهم (4) في الحمل، فلم يظهر لواحدة منهن
صفحة ٤٥
حملا، وصار ذلك شبهة في إبطال دعوى ولد الحسن عليه السلام.
الفصل الثالث: وصية الحسن المشهورة إلى والدته - المسماة بحديث (1) المكناة بأم الحسن - في وقوفه وصدقاته، وإمضائها (2) على شروطها، ولم يذكر فيها ولدا له موجودا ولا منتظرا.
الفصل الرابع: ما الداعي إلى ستر ولادته، والسبب إلى خفاء أمره وغيبته؟ مع ظهور نسب آبائه وولادتهم ونشئهم (4) واشتهار وجودهم، وقد كانوا في أزمان التقية فيها أشد من زمن الحسن بن علي بن محمد، وخوفهم فيها من ملوك بني أمية ومن بعدهم أعظم، ولم يغب أحد منهم، ولا خفيت ولادته ووجوده عن الناس.
الفصل الخامس: خروج دعوى الإمامية في غيبة الإمام عن حكم العادة في استتاره عن
صفحة ٤٦
فصول الكتاب.
الخلق (1) طول المدة التي يدعونها لصاحبهم، وانسداد الطرق إلى الوصول إليه (2)، وعدم معرفة (3) مكان له على حال.
الفصل السادس انتقاض العادة في دعوى طول عمره وبقائه منذ ولد على قول الإمامية قبل وفاة أبيه بسنين، وكانت وفاته في سنة ستين ومائتين إلى وقتنا هذا وهو سنة عشرة وأربعمائة.
الفصل السابع: إن غيبته متى صحت على الوجه الذي تدعيه الإمامية بطلت الحاجة إليه، إذ كان وجود منعها كعدمه (4) من العالم، ولا تظهر له دعوة، ولا تقوم له حجة، ولا يقيم حدا، ولا ينفذ حكما، ولا يرشد مسترشدا، ولا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يهدي ضالا، ولا يجاهد في الإسلام.
الفصل الثامن : بطلان دعوى الإمامية
صفحة ٤٧
في الغيبة بما به اعتصموا في إنكار قول الممطورة (1):
إن موسى بن جعفر عليهما السلام حي موجود غائب منتظر، وبما به شنعوا (2) على الكيسانية (3)
صفحة ٤٨
والناووسية (1) والإسماعيلية (2) في دعواهم حياة أئمتهم محمد بن الحنفية (3) وجعفر بن محمد
صفحة ٤٩
وإسماعيل بن جعفر (1)، وتناقض (2) مقالهم في ذلك.
الفصل التاسع: اعتراف الإمامية بأن الله تعالى أباح للإمام (3) الاستتار عن الخلق، وسوغ له الغيبة عنهم بحيث لا يلقاه أحد منهم فيعرفه بالمشاهدة لطفا له في ذلك ولهم، وإقرارهم بأن الله سبحانه لا يبيح إلا ما هو صلاح ولا يسوغ إلا ما هو في التدبير صواب ولا يفعل بعباده. إلا ما بهم حاجة إليه ما دامت المحنة (4) والتكليف باقيا، وهذا ينقض قولهم في مشاهدته وأخذ معالم الدين فيه (5) مصلحة تامة وأن بظهوره تمام المصالح والنظام والتدبير (6).
الفصل العاشر: اضطرار الإمامية عند
صفحة ٥٠
قولهم بالغيبة في إثبات الأعلام بالمعجزات لإمامهم عند ظهوره، إذ كان لا يعرفه متى ظهر أحد بشخصه، وإنما يصل إلى معرفته بمعجزه الدال على صدقه بصحة (1) نسبه وثبوت إمامته ووجوب طاعته، وهذا إخراج الآيات (2) عن دلائلها، وإيجاب لظهورها على غير من اختصت به (3) من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وفي ذلك إفساد أدلة النبوة وأعلام الرسالة، وذلك باطل باتفاق أهل الملل كلها.
صفحة ٥١
الكلام في الفصل الأول وأقول: إن استتار ولادة المهدي بن الحسن بن علي عليهم السلام عن جمهور أهله وغيرهم، وخفاء ذلك عليهم، واستمرار استتاره عنهم ليس بخارج عن العرف، ولا مخالفا لحكم العادات، بل العلم محيط بتمام مثله في أولاد الملوك والسوقه (1)، لأسباب تقتضيه لا شبهة فيها على العقلاء.
فمنها: أن يكون للإنسان (2) ولد من جارية قد أستر (3) تملكها من زوجته وأهله، فتحمل منه فيخفي ذلك عن كل من يشفق (4) منه أن يذكره ويستره عمن لا يأمن إذاعة الخبر به، لئلا يفسد الأمر عليه مع زوجته بأهلها وأنصارها، ويتم الفساد به ضرر (5) عليه يضف عن دفاعه عنه، وينشئ الولد وليس أحد من أهل الرجل وبني عمه وإخوانه وأصدقائه يعرفه، ويمر (6) على ذلك إلى أن يزول خوفه من الإخبار عنه، فيعرف به إذ ذاك.
صفحة ٥٣
وربما تم ذلك إلى أن تحضره وفاته، فيعرف به عند حضورها، تحرجا من تضييع (1) نسبه، وإيثارا لوصوله إلى مستحقه من ميراثه.
وقد يولد للملك ولد لا يؤذن به حتى ينشؤ ويترعرع، فإن رآه على الصورة التي تعجبه... (2) وقد ذكر الناس ذلك عن جماعة من ملوك الفرس والروم (3) والهند (4) في الدولتين معا (5)، فسطروا (6) أخبارهم في ذلك، وأثبتوا قصة كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس ملك الفرس (7)، الذي جمع ملك بابل (8) والمشرق،
صفحة ٥٤
وما كان من ستر أمه حملها وإخفاء ولادتها لكيخسرو (1)، وأمه (2) هذه المسماة بوسفا فريد (3) بنت فراسياب (4) ملك الترك، فخفي أمره مع الجد (5) كان من كيقاوس - جده الملك الأعظم (6) - في البحث عن أمره والطلب له، فلم يظفر بذلك حينا طويلا.
والخبر بأمره مشهور، وسبب ستره وإخفاء شخصه معروف، قد ذكره علماء الفرس (7)، وأثبته محمد بن جرير الطبري (8) في كتابه التاريخ (9)
صفحة ٥٥
وهو نظير لما أنكره الخصوم في خفاء أمر ولد الحسن بن علي عليهما السلام، واستتار (9) شخصه، ووجوده وولادته، بل ذلك أعجب.
ومن الناس كل من يستر ولده عن أهله مخافة شنعتهم (2) في حقه وطمعهم في ميراثه ما لم يكن له ولد، فلا يزال مستورا حتى يتمكن من
صفحة ٥٦
إظهاره على أمان منه عليه ممن سميناه.
ومنهم من يستر ذلك ليرغب في العقد له من لا يؤثر مناكحة صاحب الولد من الناس، فيتم له (1) في ستر ولده وإخفاء شخصه وأمره، والتظاهر بأنه لم يتعرض بنكاح من قبل ولا له ولد من حرة ولا أمة، وقد شاهدنا من فعل ذلك، والخبر عن النساء به (2) أظهر منه عن الرجال (3).
واشتهر من الملوك من ستر ولد لإخفاء شخصه (4) من رعيته لضرب من التدبير، في إقامة خليفة له، وامتحان جنده بذلك في طاعته، إذ كانوا يرون أنه لا يجوز في التدبير استخلاف من ليس له بنسيب (5) مع وجود ولده ثم يظهر بعد ذلك أمر الولد عند التمكن من إظهاره برضى القوم، وصرف الأمر عن الولد إلى غيره ، أو لعزل مستخلف عن المقام، على وجه ينتظم للملك أمور لم يكن يتمكن من التدبير الذي كان منه على ما شرحناه.
وغير ذلك مما يكثر تعداده من أسباب ستر الأولاد وإظهار موتهم، واستتار الملوك أنفسهم، والإرجاف بوفاتهم، وامتحان رعاياهم بذلك، وأغراض لهم معروفة قد جرت من المسلمين بالعمل عليها العادات.
وكم وجدنا من نسيب (6) ثبت بعد موت أبيه بدهر طويل، ولم يكن أحد من الخلق يعرفه بذلك حتى شهد له بذلك رجلان مسلمان، وذلك لداع دعا الأب إلى ستر ولادته عن كل أحد من قريب وبعيد، إلا من شهد
صفحة ٥٧
به من بعد عليه بإقراره به على الستر (1) لذلك والوصية بكتمانه، أو بالفراش الموجب لحكم الشريعة إلحاق الولد بوالده.
فصل:
وقد أجمع العلماء من الملل على ما كان من ستر ولادة أبي (2) إبراهيم الخليل عليه السلام وأمه لذلك، وتدبيرهم في إخفاء أمره عن (3) ملك زمانه لخوفهم عليه منه (4).
وبستر (5) ولادة موسى بن عمران عليه السلام، وبمجئ القرآن بشرح (6) ذلك على البيان، والخبر بأن أمه ألقته في اليم على ثقة منها بسلامته وعوده إليها، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله جل وعلا (7) لمصالح العباد (8).
فما الذي ينكر خصوم الإمامية من قولهم في ستر الحسن عليه السلام ولادة ابنه المهدي عن أهله وبني عمه وغيرهم من الناس، وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من عددناه وسميناه، وسنذكرها عند الحاجة إلى ذكرها من بعد إن شاء الله.
صفحة ٥٨
والخبر بصحة ولد الحسن عليه السلام قد ثبت بأوكد ما تثبت (1) به أنساب الجمهور من الناس، إذ كان النسب يثبت: بقول القابلة، ومثلها من النساء اللاتي جرت عادتهن بحضور ولادة النساء وتولي معونتهم (2) عليه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على إقرار الأب بنسب الابن منه.
وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة والفقه عن الحسن بن علي (3) عليهما السلام: أنه اعترف بولده المهدي عليه السلام، وآذنهم بوجوده، ونص لهم على إمامته من بعده ، وبمشاهدة بعضهم له طفلا، وبعضهم له يافعا وشابا كاملا، وإخراجهم إلى شيعته بعد أبيه الأوامر والنواهي والأجوبة عن المسائل، وتسليمهم له حقوق الأئمة من أصحابه.
وقد ذكرت أسماء جماعة ممن وصفت حالهم من ثقات الحسن بن علي عليهما السلام وخاصته المعروفين بخدمته والتحقيق به، وأثبت ما رووه عنه في وجود ولده ومشاهدتهم من بعده وسماعهم (4) النص بالإمامة عليه.
وذلك موجود في مواضع من كتبي، وخاصة في كتابي المعروف أحدهما:
صفحة ٥٩
ب الارشاد في معرفة حجج (1) الله على العباد (2)، والثاني: ب الايضاح (3) في الإمامة والغيبة (4).
ووجود ذلك فيما ذكرت يغني عن تكلف (5) إثباته في هذا الكتاب.
صفحة ٦٠
الكلام في الفصل الثاني وأما المتعلق بإنكار جعفر بن علي شهادة الإمامية (1) بولد لأخيه الحسن ابن علي عليهما السلام ولد في حياته بعده، والحوز لتركته بدعوى استحقاقها بميراثه مثلا دون ولد له، وما كان منه من حمل أمير الوقت على حبس جواري الحسن عليه السلام واستبذالهن بالاستبراء لهن من الحمل ليتأكد (3) بقية (4) لولد أخيه، لإباحته دماء شيعة الحسن بدعواهم خلفا من بعده كان أحق بمقامه من بعده من غيره وأولى بميراثه ممن حواه.
فليس بشبهة (5) يعتمدها عاقل في ذلك، فضلا عن حجة، لاتفاق الأمة على أن جعفرا لم تكن له عصمة الأنبياء فيمتنع عليه لذلك إنكار حق ودعوى باطل، بل كان من جملة الرعية التي يجوز عليها الزلل، ويعتريها السهو، ويقع منها الغلط، ولا يؤمن منها تعمد الباطل، ويتوقع منها
صفحة ٦١
الضلال وقد نطق القرآن بما كان من أسباط يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن - عليه وعلى ولده الأنبياء وآبائه المنتجبين الأصفياء وكافة المرسلين الصلاة الدائمة والتحية والسلام - في ظلم أخيهم يوسف عليه السلام وإلقائهم له في غيابة الجب، وتغريرهم بدمه بذلك، وبيعهم إياه بالثمن البخس، ونقضهم (2) عهده في حراسته، وتعمدهم معصيته في ذلك وعقوقه (3)، وإدخال الهم عليه بما صنعوه بأحب ولده إليه وأوصلوه إلى قلبه من الغم بذلك، وتمويههم على دعواهم على الذئب أنه أكله بما جاءوا به على قميصه من الدم ويمينهم بالله العظيم على برأتهم مما اقترفوه في ظلمه من الإثم، وهم لما أنكروه متحققون، وببطلان ما ادعوه في أمر يوسف عليه السلام عارفون (4).
هذا وهم أسباط النبيين، وأقرب الخلق نسبا بنبي الله وخليله إبراهيم.
فما الذي ينكر (5) ممن هو دونهم في الدنيا والدين: أن اعتمد باطلا يعلم خطؤه فيه على اليقين، ويدفع حقا قد قامت عليه الحجج الواضحة والبراهين.
صفحة ٦٢