أما الجنود المرتزقة التي يستعان بها في هذه الأحوال، فالأمثلة كلها شاهدة بأن الأمير الذي يلقي كل اعتماده عليها قد ينشر جناحيه إلى مدى، ولكنه لا يلبث أن يطويهما بعد حين، ولن تتلاقى بركة يهودا وبركة يساكر، فتصبح الأمة الواحدة في وقت واحد شبل أسد وحمارا لحمل الأثقال، أو تصبح الأمة المثقلة بالضرائب أمة شجعان مقاتلين.
وصحيح أن الضرائب التي تفرض بالرضى والموافقة أقل مساسا بشجاعة السكان، كما يشاهد في البلاد الواطئة «أثناء الحرب الأسبانية»، أو كما يشاهد على نحو ما في تبرعات الشعب الإنجليزي لعرش بلاده، فالقلب - وليس الكيس - هو مناط الأمر في هذه الحالة، وإذا كانت الضريبة التي تجبى قسرا والضريبة التي تجبى طوعا سواء في عرف الكيس فهي في عرف القلب غير سواء، ومن ثم يجوز لك أن تقرر أن الأمة التي ترهقها الضرائب لا تصلح للسيادة وسعة السلطان.
وعلى الدول التي تنزع إلى العظمة ألا تغفل عن سرعة تكاثر العلية من طبقاتها؛ لأن كثرتها تسقط العامة إلى مرتبة الفعلة الأخساء الذين لا قلب لهم ولا همة، ولا شأن لهم إلا أنهم عبيد السادة النبلاء، وقد رأينا أن الأشجار إذا كثفت في الأدغال هزل النبات الذي تحتها، فلا ينجم منه إلا العشب الشاحب الهزيل، وهكذا الأمم كلما كثر نبلاؤها خست عامتها، ورذلت منزلتها. وكن على يقين في هذه الحالة أن مائة رأس لا تكون كفاء خوذة واحدة، ولا سيما في المشاة الذين هم عصب الجيوش وعضلها، فيكثر عدد السكان وتنقص قوة الجيوش.
ولا يشاهد مصداق ذلك في شيء كما يشاهد في المقابلة بين إنجلترا وفرنسا، فإن إنجلترا على قلة اتساعها وقلة سكانها لا تقوم لها فرنسا ندا في ميدان الكفاح، إذ كان أبناء الطبقة الوسطى فيها جندا صالحا لا ينهض له الفلاحون من أبناء البلاد الفرنسية، ويتضح هنا أن خطة هنري السابع - الذي توسعت في شرح سيرته - كانت بعيدة الأمد حقيقة بالإعجاب، حين عني بتوزيع البيوت والمزارع على نحو يكفل لمن يعيشون فيها أن ينعموا باليسر ولا تنحدر بهم الحال إلى الضنك والمذلة، وأن يظل المحراث في أيدي مالكه لا في أيدي الأجير المسخر لغيره، وبذلك يصح فيها وصف ڨرجيل للإقليم الذي توافرت له صلابة السلاح ورخاء الأديم.
وهناك طبقة (لعلها مقصورة على إنجلترا إذا استثنينا بولندة)، نعني بها طبقة الخدم والأتباع الذين يلحقون بالنبلاء والسراة، وهي لا تقل صلاحا لحمل السلاح عن طبقة ملاك الأرض والزراع، ومما لا جدال فيه أن الأبهة، وسعة الحاشية والكرم الذي يتسم به النبلاء ويصبح في حكم العادة الموروثة خصال تنزع إلى العظمة العسكرية ونقيضها البخل والضيق في معيشة النبلاء، فإنهما يحيفان على الطبيعة العسكرية في الحاشية والأتباع. •••
وعلى أية حال تنبغي العناية بأن تكون ساق شجرة «نبوخذنصر» - شجرة الملك - من المتانة، بحيث تحمل الفروع والأغصان، ونعني بذلك أن يكون سكان المملكة الأصلاء على عدد كاف بالقياس إلى عدد الرعايا الغرباء المحكومين في الدولة، وكل حكومة سمحة في تبني رعاياها الغرباء، فهي حكومة صالحة لاتساع الملك وسياسة الإمبراطورية، إذ إن الفئة القليلة - وإن كانت على أعظم نصيب من الشجاعة والسياسة في العالم - قد تحيط بملك يتسع إلى حين، ولكنه وشيك أن يخفق فجاءة.
وقد كان الإسبرطيون شعبا سمحا في مسألة التبني والتجنيس يوم كانوا في حيز نطاقهم، فلما تجاوزوا هذا الحيز وأربت فروع الشجرة على طاقة الساق عصفت بهم العاصفة على حين غرة.
وما فتحت أمة صدرها قط للتبني والتجنيس كما فعل الرومان، فوافقتهم هذه الخصلة كل الموافقة، وبلغوا الغاية من سعة السلطان، وقد كان من خطتهم أن يمنحوا الحق المدني في أوسع حدوده وأرفعها، فلا يقتصرون على منح حق الاتجار أو حق الزواج أو حق الوراثة، بل يضيفون إلى هذه الحقوق حق الانتخاب وحق ولاية المناصب العامة، ولا يخصون بذلك أفرادا قلائل معدودين، بل يعمون الأسر بل المدن بل الأمم في بعض الأحوال، يضاف إلى ما تقدم تعودهم أن ينشئوا الجاليات الرومانية، حيث ينتقل الرومان إلى التربة الأجنبية، فإذا قرنت بين الخطتين ساغ لك أن تقول: إن الرومان لم ينتشروا في الدنيا، بل الدنيا هي التي انتشرت في رومة، وهذا هو الضمان الوثيق للعظمة والسلطان.
ولقد عجبت أحيانا لأسبانيا كيف انبسطت على كل هذه المدن من المستعمرات بفئة قليلة من الأسبان الأصلاء، ولكن نطاق أسبانيا ولا ريب ساق أعرض وأضخم من ساقي رومة وإسبرطة، ثم هي على تشددها في تبني الأجناس الأخرى قد فعلت ما يتلو التبني في الفائدة، وهو قبول كل الأجناس جنودا في جيشها، وضباطا أو قادة في بعض الأحايين، ومع هذا يشعر الأسبان الآن بحاجتهم إلى مضاعفة السكان، كما يظهر من قانون تشجيع الزواج والنسل الذي أصدروه.
ومن المحقق أن صناعات الجلوس أو الصناعات البيتية الدقيقة، التي تحتاج إلى الإصبع، ولا تحتاج إلى الذراع من دأبها أن تناقض النزعة العسكرية في طبيعتها، وقد جرت العادة بأن تجنح الشعوب العسكرية إلى الكسل، وتؤثر خطر الجهاد على مجهود العمل، وليس من اللازم الإفراط في صرفها عن هذه العادة للمحافظة على حميتها.
صفحة غير معروفة