لأن الطرق العالمية تحولت من الشرق إلى الغرب، وانكشفت للملاحين شواطئ أفريقية الغربية، وما هو أبعد منها غربا في القارة الأمريكية، فأصبحت الجزر البريطانية وهي محور الحركة الدائمة بين أوروبا وأمريكا وأفريقية، وسائر أقطار المعمورة، وانفردت هذه الجزر بالإشراف على جميع هذه الأنحاء بعد انتصار الإنجليز على الأسبان في المعارك البحرية المشهورة، فجاشت هنالك الخواطر وتحفزت الهمم ونشطت بواعث الكشف والاستطلاع في شتى نواحيه، ولاح على العالم كله بين سمائه، وأرضه، وبحره، وبره، وضميره، وفكره كأنه خلق جديد.
وإنه يومئذ لخلق جديد بغير مراء.
لأن العالم الذي يراه الرجل الرشيد غير العالم الذي يراه الطفل القاصر، والعالم الذي تراه العينان معصوبتين غير العالم الذي تريانه مفتوحتين بصيرتين.
كان الإنسان لا يختبر شيئا لنفسه إلا بإذن من وليه، وهو بين أمين جاهل أو عاقل غير أمين، فأصبح جريئا على الاختبار الميسر له لا يقف به عند شأن من شئون عقله، ولا جسده، ولا عمل من أعمال دنياه أو أعمال دينه.
وكان كل شيء حراما عليه حتى يقال له: إنه حلال، فأصبح كل شيء حلالا له حتى يتبين له أنه حرام.
ومن خصائص الآداب والفنون أنها تعرض هذه الأحوال عرضا لا شبهة فيه؛ لأنه يصدر من طوايا النفس عفوا بلا روية ولا اصطناع، فإذا أخطأ التاريخ أو ضلت الأفكار، فلا خوف على الآداب والفنون في هذا المجال من خطأ أو ضلال.
وآداب اللغة الإنجليزية في ذلك العصر - عصر الرشد - أصدق مرآة لأحوال النفوس والأفكار في جيل باكون الرجل، وجيل باكون الفيلسوف.
فهو القائل: إن المعرفة قوة، وإني «أحسب أن ميداني يتناول المعرفة كلها على أنواعها».
وهذا الذي قاله الفيلسوف قصدا قد جاء من طريق الإلهام الشعري أو الأدبي على لسان كل شاعر أو كاتب أو أديب تمخض عنه ذلك العصر العجيب.
فشكسبير في رواياته وقصائده لا يدع سريرة من سرائر النفس البشرية إلا غاص فيها وترجم عنها، ولا يدع صفحة من صفحات الكون إلا نظر في مرآتها، وبسط مثال النفس البشرية عليها، ومن كلامه على لسان هملت في فضائل العقل وأغوار الضمير:
صفحة غير معروفة