تقدمة
عن باكون
من باكون؟
تقدمة
عن باكون
من باكون؟
فرنسيس باكون
فرنسيس باكون
تأليف
عباس محمود العقاد
تقدمة
في الصفحات التالية تعريف بالمفكر الباحث الفيلسوف فرنسيس باكون، الذي ينسب إليه بناء العلم الحديث على أساس التجربة والاستقصاء.
وينقسم القول فيها إلى قسمين: قسم «عن باكون»، ويشمل النظر في عصره ونشأته وأخلاقه ورسالته الفكرية ومكانته الأدبية.
وقسم «من باكون» ويشمل المختارات من كتبه، التي يخلد بها بين رجال القلم، ولا تنقضي قيمتها الفكرية أو الأدبية بانقضاء فترة من فترات الثقافة الإنسانية أو الثقافة الأوروبية.
وكلا القسمين متمم للآخر في التعريف بالمفكر الكبير، ولكن في حدود هذه الصفحات التي تكفي لإجمال الجوهري من عمله وأثره، ولا ترمي إلى استيعاب النوافل والزيادات، وإن كانت تومئ إليها أقرب إيماء.
وحسبنا من هذه الصفحات أنها تعرف به من لا يعرفه، وأنها تضيف شيئا - ولو يسيرا - إلى هذه الناحية أو تلك من وجهات النظر العديدة إليه، في رأي عارفيه.
عباس محمود العقاد
فرنسيس باكون.
عن باكون
عصر الرشد
نشأ فرنسيس باكون في إبان عصر الرشد، بعد تمهيد غير قصير في طريق اليقظة والاستطلاع والكشف والتجربة.
ونسميه عصر الرشد؛ لأن العصور التي قبله كانت عصورا قاصرة يفكر فيها العقل البشري بهيمنة من الوحي المسيطر عليه، ولا يجرؤ على التفكير لنفسه والاستقلال برأيه وعمله.
فلما نشأ باكون كانت القارة الأوروبية قد مضت شوطا بعيدا في التفكير المستقل والبحث الطريف والاستطلاع الذي لا يحجم عن مسلك من المسالك في عالم المجهول أيا كان وحيثما كان: في السماء أو في الأرض، وفي أعماق الفكر، أو في أغوار الضمير.
كان كوبرنيكوس وجاليليو قد عرفا سر الشمس، ووضعا الأرض في مكانها من السماء أو من المنظومة الشمسية.
وكان كولمبس قد كشف الأرض لنفسها، وجمع بين شطريها بعد طول افتراق وانفصال.
وكانت النهضة قد عمت القارة الأوروبية بين شرقها وغربها، وهجمت عليها هجوم الجيش المحاصر من جميع منافذها: فمن الشرق جاءها الرهبان بعد فتح القسطنطينية يحملون كتب الإغريق وكتب العرب وسائر الكتب التي اجتمعت لطلاب المعرفة من نساك الأديرة في العصور الطويلة، ومن الجنوب جاءتها فلول الصليبيين تنقل عن الشرق كل ما اقتبسته من صناعاته ومصنوعاته، ومن الغرب سرت فيها بقايا الحضارة الأندلسية، بعد أن تفرق مريدوها وتلاميذها في الأقطار الأوروبية، ومنهم قسيسون ورهبان، ومرتابون في العقائد والأديان.
وعكف الإنسان على أغوار ضميره ينقب فيها، ويكشف عن خوافيها ... فاستنقذ ضميره من سلطان الجمود الديني، ونهج له نهجا في محاسبة نفسه وانتظار الحساب من ربه يخالف ما درج عليه الأولون مئات السنين، وتلك هي الحركة المعروفة باسم الإصلاح، وما تفرع عليها من المذاهب والنظم والأخلاق.
فهو كما أسلفنا كشف شامل لأجواز السماء وأرجاء الأرض، وفجاج الفكر ودخائل الضمير.
وهو عصر الرشد الذي يرى فيه الإنسان بعينيه بعد أن رأى طويلا بعيني أبويه، وهما مغلقتان لا تبصران.
وكان للبلاد الإنجليزية شأن في ذلك العصر غير سائر الشئون.
لأن الطرق العالمية تحولت من الشرق إلى الغرب، وانكشفت للملاحين شواطئ أفريقية الغربية، وما هو أبعد منها غربا في القارة الأمريكية، فأصبحت الجزر البريطانية وهي محور الحركة الدائمة بين أوروبا وأمريكا وأفريقية، وسائر أقطار المعمورة، وانفردت هذه الجزر بالإشراف على جميع هذه الأنحاء بعد انتصار الإنجليز على الأسبان في المعارك البحرية المشهورة، فجاشت هنالك الخواطر وتحفزت الهمم ونشطت بواعث الكشف والاستطلاع في شتى نواحيه، ولاح على العالم كله بين سمائه، وأرضه، وبحره، وبره، وضميره، وفكره كأنه خلق جديد.
وإنه يومئذ لخلق جديد بغير مراء.
لأن العالم الذي يراه الرجل الرشيد غير العالم الذي يراه الطفل القاصر، والعالم الذي تراه العينان معصوبتين غير العالم الذي تريانه مفتوحتين بصيرتين.
كان الإنسان لا يختبر شيئا لنفسه إلا بإذن من وليه، وهو بين أمين جاهل أو عاقل غير أمين، فأصبح جريئا على الاختبار الميسر له لا يقف به عند شأن من شئون عقله، ولا جسده، ولا عمل من أعمال دنياه أو أعمال دينه.
وكان كل شيء حراما عليه حتى يقال له: إنه حلال، فأصبح كل شيء حلالا له حتى يتبين له أنه حرام.
ومن خصائص الآداب والفنون أنها تعرض هذه الأحوال عرضا لا شبهة فيه؛ لأنه يصدر من طوايا النفس عفوا بلا روية ولا اصطناع، فإذا أخطأ التاريخ أو ضلت الأفكار، فلا خوف على الآداب والفنون في هذا المجال من خطأ أو ضلال.
وآداب اللغة الإنجليزية في ذلك العصر - عصر الرشد - أصدق مرآة لأحوال النفوس والأفكار في جيل باكون الرجل، وجيل باكون الفيلسوف.
فهو القائل: إن المعرفة قوة، وإني «أحسب أن ميداني يتناول المعرفة كلها على أنواعها».
وهذا الذي قاله الفيلسوف قصدا قد جاء من طريق الإلهام الشعري أو الأدبي على لسان كل شاعر أو كاتب أو أديب تمخض عنه ذلك العصر العجيب.
فشكسبير في رواياته وقصائده لا يدع سريرة من سرائر النفس البشرية إلا غاص فيها وترجم عنها، ولا يدع صفحة من صفحات الكون إلا نظر في مرآتها، وبسط مثال النفس البشرية عليها، ومن كلامه على لسان هملت في فضائل العقل وأغوار الضمير:
إن الإنسان قطعة من الخلق ما أعجبها! ما أنبله في الفكر! وما أوسع آفاقه في الملكات والمواهب والكيان والحركة! وما أمضاه وأحقه بالإعجاب في العمل، وما أشبهه بالملك في القريحة! ما أقربه إلى صورة الأرباب! إنه لجمال الدنيا والقدوة المثلى في عالم الأحياء!
وقد أصاب النقاد الذين خصوا الشاعر مارلو “Marlowe”
بالتنويه في تعبيره عن ذلك العصر الطامح إلى القوة والبسطة في كل شعبة من شعب الحياة؛ لأنه في الواقع قد تناول جوانب القوة الإنسانية جميعا، فوزعها جانبا جانبا على رواياته الثلاث، وهي تيمور وفوست واليهودي من مالطة.
فالقوة في تيمور هي قوة الملك والسلطان، حيث يقول بلغة الوثنية: «إن الأرباب في السماء ليس لها من المجد ما للملك على الأرض، وليس من حظها في عليين أن تنعم بمسرات الملوك على هذه الغبراء، إنهم يلبسون التاج المرصع باللؤلؤ والنضار، الذي تناط به الحياة والموت، وإنهم ليسألون ويأخذون، وإنهم ليأمرون ويطاعون!»
والقوة في فوست هي قوة السيطرة على عناصر الطبيعة بالسحر، والمعرفة، ومحالفة الشيطان، وهو القائل: «أية دنيا من الغنم والمسرة، ومن القوة والشرف والعظمة، موعودة للباحث العليم! كل هذا الذي يتحرك بين القطبين الساكنين سيصبح رهينا بأمري، وإنما يطاع العواهل والملوك في دولهم وأقطارهم ولا قبل لهم فيها بإرسال الريح أو شق السحاب، ولكن السلطان الذي يملكه الحاذق بهذه الفنون ينبسط إلى حيث يمتد عقل الإنسان.»
والقوة في اليهودي من مالطة هي قوة الرجل الذي يفعل الأعاجيب بماله، ويقبض على أعنة الحوادث برشوة نضاره وجوهره ولجينه، وما من قوة تتاح للمخلوق الآدمي في هذه الدنيا وراء هذه القوى الثلاث: قوة الملك وقوة المعرفة وقوة المال، اللهم إلا قوة الجمال وليس هو بالذي ينال بالسعي والتحصيل.
وظاهر من هذا وأشباهه أن العقل البشري لم ينطلق من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليطلب المعرفة في الأوراق أو يستحيل إلى دودة من ديدان الكتب، كما يكني الأوروبيون عن طلاب المعرفة، الذين يعتزلون الحياة ويعيشون ويموتون بين الشروح والمتون.
كلا! إنما انطلق العقل البشري من عقاله في ذلك العصر العجيب؛ ليقبل على كل مجهول وينعم بكل متعة، وينهل ويعل من كل مورد، ويفكر ليعيش ويعيش ليفكر على السواء.
فكان معيبا على الباحث الدارس في ذلك العصر أن يغشى المجامع، ولا يشارك الناس في الرقص والعزف والغناء وسائر ما يتعاطاه الخاصة والعامة من الملاهي والأسمار، وفي الثالوث الروائي المعروف بالعودة من برناسس
The Return form
، الذي صنفه أدباء كامبردج يصفون العالم القح بأنه ذلك المخلوق «... الذي له ملكة خاصة في السعال، ورخصة في البصاق ... أو الذي يوصف نفيا بأنه ذلك المخلوق الذي «لا» يحسن الخطو و«لا» الأكل النظيف و«لا» ركوب الجياد، ولا تحية المرأة وهو ناظر إلى عينيها».
وتحدث توماس مورلي في كتابه «مقدمة الموسيقى العملية» عن عالم يذكر كيف دعوه في بعض المحافل إلى مشاركتهم في الغناء، فأنكروا منه أن يعتذر بالجهل وعدوها منه قلة أدب! وتساءلوا: أين يا ترى تربى هذا المخلوق؟
ولعل الشاعر سبنسر قد وصف النموذج الأدبي قبيل ذلك حين وصف سير فيليب سدني
Sidney ، فقال: «إنه لخفيف في الصراع سريع في العدو، سديد في الرماية، قوي في السباحة، حسن العدة للضرب والقذف والوثب والرفع، وكل ما يزاوله الرعاة من رياضة ولعب». •••
ولقد كانت هذه النزعات الحية تتمثل في الشعائر العامة والعادات الشعبية، كما تتمثل في الشعر والآثار الأدبية.
فمن العادات التي كانت شائعة في بيئة الفقهاء والأدباء عادة البلاط الأدبي، الذي كانوا يعقدونه بعلم من الحكومة ومساهمة منها في بعض الأحيان، فينصبون لهم أميرا يمنحونه لقب الإمارة، ويقضون برئاسته بضعة أسابيع في محاكاة البلاط ومراسمه وعرض فكاهاته وأضاحيكه، ويطوفون المدينة في موكب حافل يرحب به عمدتها، ويدعوه إلى وليمة فاخرة يشهدها العلية، ورجال الحاشية الملكية ونساؤها، وهي عادة مقتبسة من المغرب العربي، ولا تزال لها بقية مشهودة في موكب سلطان الطلبة، الذي يؤلفه الطلبة بالبلاد المراكشية بموافقة السلطان وتشجيعه، ويظهر أن العادة من نشأتها الأولى عربية مغربية وصلت إلى الإنجليز وغيرهم من هذا الطريق، واسم هذه المواكب في اللغات الأوروبية عربي بلفظه ومعناه؛ لأن كلمة مسكراد
masquerade
التي تدل عليه مأخوذة من كلمة مسخرة أو مسخرات، وهي تتناول مظاهر الحكاية والسخرية، ومحافل البسط والقصف وما إليها.
ويقضي هذا البلاط الملفق بتنصيب بعض النبلاء، وحملة الألقاب، ولكنه يشترط فيمن يستحق ألقابه أن يطلع على جميع المؤلفات المشهورة، ويتردد على المسرح ويحسن نظم المقطوعات الشعرية، التي تستخدم للتحية أو الفكاهة في المجالس العامة، ثم يشترط في هذا النبيل الأديب أن يكون على رضى العصر من صفات الأدب والكياسة، فلا يكتفي منها بالعلم والاطلاع دون الكياسة الاجتماعية والخبرة بآداب الخطاب والسلوك والإشراف على المآدب والمراقص، وسهرات السمر والغناء، وعليه - من واجباته المختلفة - أن يتصدر إحدى الولائم، ويدير فيها الحديث، ويتكفل بتحية المدعوين والمدعوات.
ومن دأب العصور التي تشيع فيها هذه النزعات الحية أن تتبرم بتعليم المدارس والجامعات، ولا ترى فيه الكفاية لتنشئة الرجل المهذب والعامل الناجح في مطالب الحياة؛ لأنهم ينشدون الملكات التي ترشحهم لارتقاء المناصب الرفيعة، وتحصيل الثراء والعتاد ومزاولة الأعمال، ومداورة الفرص واجتناء اللذات، ولم يكن تعليم تلك العصور كفيلا بشيء من هذا؛ لأنه مقصور على حشو الأذهان بالنصوص والشروح، وتخريج علماء العزلة وحفاظ الدفاتر والأوراق.
وقد ينظر العالم من هؤلاء إلى رجل قليل النصيب من العلم المدرسي، ولكنه مزاول مداور حول قلب ببداهة الحياة وتجارب الأيام، فيراه خيرا منه وأوفر نصيبا من مطالب الحياة في تلك الأيام، وفي سائر الأيام، فيداخله الشك في العلم الذي تعلمه أو يغتر به غرورا لا يجديه في غير السلوى والعزاء.
ولهذا ساء ظن الأذكياء بالعلوم التي كانت تدرسها الجامعات في ذلك الحين، وتحدث بذلك طلاب الجامعات قبل سواهم كما جاء في رواية الحج إلى پارنساس التي أنشأها أدباء جامعة كمبردج، وكنوا فيها عن جامعتهم باسم پارنساس القديم، وهو الجبل اليوناني المقدس الذي كانوا يزعمون أن أبولون رب الفنون، يأوي إليه مع عرائس الشعر والموسيقى والرقص والتمثيل.
ففي تلك الرواية شابان يقبلان على الپارنساس طمعا في المجد والجاه، فيلقاهما أستاذ معوز ناقم على العلم والتعليم، فيثنيهما عن هذه النية الخادعة، ويقول لهما: إن رب الفنون أپولون قد أفلس من الذهب والفضة إلا ذهب الكلام الموشى، وفضة الروائع الناصعة، وأما الذهب النفيس والفضة الغالية، فهما من نصيب النساجين وبائعي الحلل والأحذية وسماسرة الأسواق، وإن هوبسون - ساعي كامبردج المعروف - يجمع من المال في ذيول اثنتي عشرة جارية ما يعز على الأستاذ أن يجمعه من مائتي كتاب.
ولم يبالغ أستاذ الرواية في وصف بؤس العلماء وقلة جدواهم من أدب الكتب والدفاتر، فإن المسرحية - وهي عمل نافع في السوق - كانت تباع يومئذ بعشرة جنيهات أو دون ذلك، وكان قصارى ما يطمع فيه الكاتب المسرحي من المورد السنوي، لا يتجاوز الستين أو السبعين من الجنيهات، ولولا الهبات التي كانت تصل إلى الشعراء والأدباء من حماة الآداب ونصرائها لهجروا هذه الصناعة، أو عاشوا في لجة ذلك الرخاء عيشة العظماء والمترفين. •••
ليس أقرب إلى العقل البشري في عصر كهذا من التوجه إلى علم جديد غير علم العزلة وديدان الأوراق، وهو العلم المفيد الذي يمتزج بالمعيشة، ويعين الأفراد والأمم على الحياة، وهذا هو لباب الفلسفة الباكونية، ولباب العصر كله بعلمه وعمله وأخلاقه ومساعيه.
وكانت في العصر بواعث أخرى أعانت طلاب العلوم والمعارف على الطموح إلى المجد الدنيوي، والتطلع إلى المناصب العليا والخوض بعلومهم ومعارفهم في غمار الحياة:
منها أن مناصب الدولة العليا كانت قبل ذلك وقفا على كبار رجال الدين، أو كبار رجال السيف من النبلاء ووراث الألقاب، فلما تحولت البلاد الإنجليزية عن سلطان الكنيسة البابوية خلا مكان الكهان والكرادلة في تلك المناصب، واتسع فيها الأمل لرجال المعرفة والذكاء.
وكانت المجالس النيابية قد أخذت في محاسبة الملوك على الضرائب، ونفقات الخزانة وحقوق الامتياز المشروعة أو غير المشروعة، فاحتاجت الحكومة إلى وزراء من رجال الفقه والمال، وقادة المجالس النيابية، وخلا كذلك مكان الأكثرين ممن كانوا يرتقون إلى كراسي الوزارة من طريق الوظائف العسكرية دون سواها.
وعمت فتنة الذهب والكسب السريع بعد فتح الطريق إلى الهند من المغرب، وبعد الهجرة إلى القارة الأمريكية، فتهافت الناس على الثراء، وأصبحت القناعة عارا على القانعين واسما آخر من أسماء الكسل والعجز وسقوط الهمة، فكان الطموح والاستطلاع سمة العصر كله، وكان العلم المنشود يومئذ بابا من أبواب الطموح والاستطلاع. •••
وتنبه العصر - بطبيعة ما أشرج عليه من الطموح والاستطلاع - إلى أسلوب من أساليب العلم والتثقيف هو بلا ريب من أنفع الأساليب لتوسيع النظر، وترويض العقل على حسن المقابلة بين الأمور، والنفاذ إلى دخائل العادات والشعائر القومية، ونعني به السياحة، وهي أشبه أساليب التعليم والتهذيب بعصر الحركة والكشف، واستقصاء النظر في الأرض والسماء.
فكانت الرحلة إلى إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وهولندة وغيرها من الأقطار الأوروبية، وبعض الأقطار الشرقية فرضا على كل فتى مستطيع من أبناء العلية وذوي اليسار؛ وشجعتها الحكومة لأنها كانت في أوائل عصر التوسع والاتصال بالأقطار الأجنبية، فكانت تعول أكبر التعويل على أخبار أولئك السائحين، وهم عائدون إلى بلادهم من تلك الأقطار، وكثيرا ما رشحتهم للسفارة ومناصب السلك السياسي بما تتوسم فيهم من سداد الملاحظة وسرعة الخاطر وصدق الغيرة الوطنية في مشاهداتهم الخارجية.
وكان أبناء الأمة الإنجليزية يكبرون أولئك السائحين، ويتهمونهم بالترفع والحذلقة في نقد عادات البلاد، وتكلف المعيشة على غير السنن التي ألفوها من قديم. وهو اتهام لا يخلو من الإكبار، أو من الاعتراف بما للسياحة من قدرة على تحسين العادات، وإقناع السائحين بارتفاعهم عن البيئة، التي درجوا عليها قبل التنقل في مختلف الأقطار.
هذه وأمثالها هي أساليب العصر في التعليم ومباشرة الحياة؛ لأنه كما أسلفنا عصر طموح واستطلاع، ولكنها في الواقع لم تكن لتروج في عصر من العصور ما لم تكن فيها موافقة لخلائق السكان، ومجاراة لنزعاتهم الحية التي فرضتها عليهم طبيعة المكان، فلم يعرف عن سكان الجزر البريطانية قط في عصر من العصور، أنهم جنحوا إلى المعيشة الراكدة، وتعلقوا بالمعارف النظرية والدراسات الكلامية التي تنعزل بصاحبها عن معترك الحياة، ولكنهم نشئوا على الملاحة والصيد واللعب في المروج الفيح، والمرانة على الفروسية وفنون الرياضة، والتأهب لبرد الشتاء بحرارة العمل وحركة الأعضاء، وهيأتهم هذه النشأة لتلبية مطالب العصر، الذي وسم قبل سائر العصور بسمة الطموح والاستطلاع. •••
وكل أولئك لم يكن ليغني شيئا لو لم يكن طموح الفكر منطلقا إلى مراميه بغير عائق من حجر ذوي السلطان، سواء كانوا من رجال الحكم أو من رجال الكنيسة.
وقد انطلق طموح الفكر إلى مراميه في ذلك العصر بغير عائق من هذا السلطان أو ذاك؛ لأن الكنيسة كانت مشغولة بالدفاع عن وجودها فترة طويلة، ولم تزل في هذا الشاغل حتى تغلب عليها سلطان التاج، والحكومة النيابية، فاستكانت في حدودها إلى حين، وشاء عصر الطموح أن تتجرد الكنيسة من الرجال الأشداء، الذين يبسطون مشيئتهم بقوة العارضة ومضاء العزيمة وسعة الحيلة، ولو لم يكن لهم سلطان من الوظيفة أو الصفة الدينية؛ لأن معيشة الكنيسة الوادعة وأجورها القانعة لم تكن في ذلك العصر مما يغري أمثال أولئك الرجال الأقوياء بالركون إليها والبقاء فيها، فمن بقي في الكنيسة يومئذ فهو غير ذي طموح وغير ذي عزيمة، ومن كان كذلك لم يخش منه الحجر على حرية الفكر، ولا الوقوف في وجه التيار وهو في أوائله جارف عنيف.
أما سلطان الحكومة فقد كانت له رقابة على الكتب والمطبوعات، ولكنها لم تكن من الصرامة والضيق بحيث تحول بين الكتاب وإظهار ما يكتبون، وقلما كانت الحكومة تلتفت إلى حملات الكتاب حتى تكون قد صدرت من المطبعة، وتداولتها الأيدي ولغط بها الناس، وكان لها الأثر المحذور الذي يستوجب الالتفات. فإذا صدر الكتاب من المطبعة مشحونا بما شاء صاحبه من التنديد والتشهير، ولم يلغط به أحد ولا ثارت حوله الضجة المحذورة، فكثيرا ما تغفل عنه الحكومة أو تتغافل عنه، ثم تهمل التأليف والمؤلف كما أهملتهما جمهرة القراء. •••
على أنه كان عصرا من عصور التاريخ يسري عليه ما يسري على جميع العصور، فما من عصر من العصور في تاريخ الإنسان خلا كل الخلو من بعض عوامل الضعف والنكسة، أو بعض عوامل التهيؤ للانتقال والتبديل.
ولم يكتب لعصر باكون شذوذ عن هذه القاعدة التي لا شذوذ فيها، فقد كمنت فيه عوامل شتى للتبدل والانتقال، وجاء بعضها من القوة والطموح، كما جاء بعضها من النكسة والجمود.
فازداد سلطان التاج بعد الغلبة على الكنيسة، والغلبة على نظراء الدولة من الأمم الأجنبية، وخيل إلى أنصار الحكم المطلق أنهم قادرون على إطلاق ما تقيد منه، وتوسيع ما ضاق من حدوده، فجمعوا إليهم الأنصار وأكثروا لهم الرشى والهبات، وكلفهم ذلك طلب المال وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وليس إلى كسب الأنصار في عصر كذلك العصر من سبيل بغير العطاء الجزيل، وليس لهذا الإرهاق من مغبة غير النقمة فالثورة والانتقاض.
وكان قمع الكنيسة على كره من الأتقياء المتنطسين، وهم غير قليلين في البلاد الإنجليزية، ولعلهم كانوا يطيقون هذا القمع لو حسنت الأخلاق الدينية، وروعيت الآداب المسيحية، ولكنهم نظروا فيما حولهم فأنكروا الترف والبذخ، والتهافت على المتعة والمغالاة بالحطام والإباحة في مغامسة اللذات، فقرنوا بين ذلك وبين قمع الكنيسة، وحسبوا أن الأمر محتاج في تقويمه إلى حماسة دينية، وتنطس شديد في التحريم والتحليل، فجاءت ثورة المتطهرين مشفوعة بثورة المتمردين على المستبدين.
وجاء الطموح والفتوح بنظام جديد في توزيع الثروة، فاختل النظام القديم وتصدعت أركان البناء العريق، وكل اختلال فلا مناص فيه من شكاية وقلق واستياء.
وغلا الناس في الطموح فعرض لهم ما يعرض لكل غلو في الرجاء من خيبة وصدمة، واتهام للواقع وطلب للتبدل.
فكان الطموح في عنفوانه، وكانت هذه العوامل الكامنة في بدايتها، ولكنها لم تحتجب عن بديهة الشعر والحكمة في زمانها، فتراءت في وساوس هملت ونقمة تيمون، ويأس لير كما تخيلها شكسبير، وتراءت في تلميح باكون إلى القلاقل والثورات خلال مقالاته، وفي أطواء صفحاته التاريخية.
وجملة ما يقال عنه أنه كان عصرا لا يوجد في عصور التاريخ ما هو أولى منه بتخريج باكون؛ لأننا نلمس مراجع العصر في أخلاقه كما نلمسها في أفكاره وكتبه، فهو عصر يصدف عن علم النظر والعزلة، ويقبل على علم المزاولة والقوة، ويأنف من التسليم بكل شيء، ويتشوف إلى تجربة كل شيء والتذوق من كل شيء، ويركب كل مركب في سبيل الكشف والاستطلاع، ويستسهل كل عسير في سبيل المال والمتاع، وكذلك كان باكون الذي جرب العلم والحياة، واستباح في سبيل المال والمنصب ما لا يباح.
نشأة باكون
كان عصر الرشد - عصر باكون - عاملا مهما في توجيه سيرته وإخراج فلسفته، ولكنه لم يكن بالعامل الوحيد في هذا ولا ذاك، بل أعانه على الأقل عاملان آخران: بنيته وبيته ...
فلم يكن الرجل قط من أصحاب الخلق الوثيق والبنيان الركين، سواء في صباه أو بعد صباه، ولم يتفق له ما اتفق لكثيرين غيره من تصحيح بنيتهم بعد الشعور بالهزال، أو التوعك في إبان الشباب.
وكانت أمه تحذر أخاه الأكبر - أنتوني - أن يحذو في معيشته حذو أخيه الأصغر، وتوصيه أن يذهب إلى الصلاة مرتين كل يوم، ولا يقتدي بأخيه الذي يهمل هذا الجانب ولا يقوم بفرائضه، وتقول: إنها تحسب ضعف الهضم عنده آتيا من اختلال مواعيده واضطراب عاداته، وذهابه مبكرا إلى الفراش ثم سهره على التفكير والقراءة، ثم بقائه في فراشه طويلا بعد تيقظ الناس في الصباح.
وإذا ضعفت البنية واشتد الطموح، وتفوق الذكاء فالطريق مرسوم: طريق الظهور في ميدان الفكر الهادئ، والحيلة الوادعة، والمناصب السلسة المؤاتية، لا طريق المغامرات العنيفة، والشهوات الجامحة والصراع المرهوب.
ويبدو من سيرة باكون أن ضعف بنيته قد تناول شهوات جسده، فملكها ولم تملكه، وعاش حياته كلها ولم تغلبه قط نزوة من نزوات الشباب، أو دسيسة من دسائس الهوى في الكهولة والشيخوخة، وتوجه به عصر المتاع بالحياة إلى ناحية من نواحي هذا المتاع لا يعوقها ضعف البنية، وهي ناحية الوجاهة والبذخ والرئاسة المرموقة بالأنظار. وربما كان مصيبا حين وصف نفسه في أوائل شبابه، فقال من خطابه إلى رئيس الوزراء: «إنني أعترف بأنني على قدر اتساع مطامعي الفكرية تعتدل بي مطامعي المدنية.» ويقصد بها ما نسميه اليوم بالمطامع السياسية والمظاهر الاجتماعية.
أما العامل الآخر وهو بيته فأثره في حياته كبير طويل الأمد، سواء بالوراثة أو بالتلقين والاختبار.
ولد بلندن في أوائل سنة 1561، في بيت من بيوت الرئاسة من جانبي أبيه وأمه، فكان أبوه السير نيقولاس باكون حامل أختام الملكة في عهد اليصابات، وكانت أمه بنت السير أنتوني كوك الذي كان مربيا لإدوارد السادس، وركنا من أركان الإصلاح الديني في زمانه، وكانت سيدة مثقفة تحسن اللاتينية واليونانية، وتتشيع لمذهب كلڨن وتغلو في التشبث بآراء المتطهرين والمتنطسين، الذين يمقتون التيسير والسماحة في مسائل الدين.
فكان تأثير هذه النشأة الدينية مزدوجا في سيرة باكون وتفكيره: بعضه في اتجاه بيته وبعضه مناقض لهذا الاتجاه.
فالبحث في مسائل الدين وحقائق الإيمان، وأصول الجزاء والثواب كانت بابا مطروقا - بطبيعة الحال - في ذلك البيت خلال تلك الفترة، التي كثرت فيها المنازعات بين النحل والمذاهب الدينية، فنشأ باكون في صباه معود الذهن على البحث في هذه الأمور وما يتصل بها ويجري في مجراها.
وكان الغلو في التنطس بقية من بقايا عصر مضى، لا تطرد مع النزعة الغالبة في عصر الطموح والاستطلاع والتهافت على المال والمتاع، فلم يكن لهذا التنطس البيتي ثبات في وجه العصر وجمحاته ودواعيه، ولعله كان من شأنه أن يضاعف الاندفاع مع العصر في كل ما يقتضيه من غواية، وكل ما تتسع له القدرة والمزاج من مجاراة.
وكتب على باكون أن يتلقى أثرا آخر من بيته وذوي قرباه، يخيل إلينا أنه أبلغ الآثار المكسوبة في توجيه أخلاقه، وإبراز كوامنه وتغليب أطوار مزاجه، فإنه لقي العقبة الكبرى، بل العقبات الكبار جميعا من ذوي قرباه، فكانت الوزارة في أيديهم والبلاط رهنا بمشورتهم، أو غير معرض عن توسلهم ورجائهم، وكان للناشئ باكون أن يطمع بحق في معاونتهم وكلاءتهم، ويصعد إلى أرفع المراتب بأعينهم وعلى أيديهم، ولكنهم صدموه في آماله ولم يزالوا يصدمونه من عنفوان صباه إلى أن شارف الكهولة، وبلغ من مناوأتهم إياه أنهم كانوا لا يساعدونه، ولا يتركون غيرهم يساعده بما يستطيع، فوقفوا له بالمرصاد كأنهم ألد الأعداء، وشوهوا عقيدته في الناس، وفي استقامة الأخلاق من حيث يشعر ولا يشعر، ومن حيث يشعرون ولا يشعرون.
أرسل فرنسيس إلى كامبردج وهو في الثانية عشرة من عمره، وكان يتردد على أبيه في البلاط، فكانت الملكة تداعبه كلما رأته وتدعوه باسم «حامل أختامها الصغير»، فكان ذلك مما يملي له في الثقة بالارتقاء إلى أرفع المناصب يوم يحين أوانها، وقد لاح له في بادئ الأمر أنه جد قريب.
ففي السادسة عشرة ترقى في سلك طلاب العلم إلى طبقة الراشدين أو الأقدمين، كما كانوا يسمونهم في ذلك الحين، وفتح له أول باب من أبواب المناصب، أو أبواب العلم السياسي الذي يتزودون به يومئذ لتلك المناصب، فذهب إلى باريس في صحبة السير أمياس پوليت
Amyas paulet
سفير إنجلترا لدى البلاط الفرنسي، وتنقل بين المدن الفرنسية تنقل الدارس المستفيد، ومضت عليه قرابة ثلاث سنوات وهو يتهيأ ويتحفز للترقي في مناصب الدولة بمعونة أبيه، ولكنه فوجئ بموته وهو على أشد ما يكون ثقة بمعونته وحاجة إلى الاعتماد عليه، فمات أبوه سنة 1579 وهو في الثامنة عشرة من عمره، وعوجل بالموت قبل أن ينجز لولده ما كان يفكر فيه من أمر توظيفه وأمر ميراثه، فقد كان في نيته أن يوصي له بضيعة تغنيه أو تكفيه، وتتيح له أن يظهر بين أقرانه بالمظهر الذي يرضيه. فأصبح فرنسيس بعد موته خلوا من الوظيفة المأمولة وخلوا من الميراث الموعود، إلا القليل الذي يقع من نصيب الولد الثاني في بلاد الإنجليز.
وكان اللورد برجلي
Burghly
رئيس الوزراء من أقرب ذويه، فألقى اعتماده عليه ووثق من أخذه بيده في مراتب الدولة مرتبة بعد مرتبة ومقاما فوق مقام، ولكنه لم يلبث أن تطامن في رجائه وكفكف من غلوائه، وعلم أنه الطريق الموصد العسير، وليس كما كان يحسبه بالطريق الممهد اليسير.
وأعاد الرجاء كرة بعد كرة، وأفضى إلى قريبه بغاية ما يرجوه لو شاء أن يصغي إليه، وهو منصب معتدل المورد يعينه على الدرس ويكفيه لنفقة أمثاله، فوعده بوظيفة كاتب المجلس الخاص بعد خلوها، وهي قلما تخلو مرة في كل عشرين سنة!
ويحار المؤرخون في تعليل هذا العداء العجيب الذي لا يعرف له سبب، ولم ينقل من كلام باكون ولا كلام أقربائه ما يفسره ويبطل الحيرة فيه، فالذين يحسنون الظن باللورد برجلي يردونه إلى شكه في ولاء فرنسيس واعتقاده - من لمحات أخلاقه في صباه - أنه ليس بالولي الذي يركن إليه ويؤتمن على صنيعة، ويضاف إلى ذلك سوء ظن الساسة بأصحاب الأقلام، وعشاق الكتب والدروس، ونظرتهم إليهم - فطرة - تلك النظرة التي تمتزج فيها السخرية بالارتياب.
والذين يسيئون الظن برئيس الوزارة يعزون عداءه المستور لقريبه الناشئ إلى خوفه من منافسته لولده روبرت، وهو من أقران فرنسيس في السن والدراسة، ولا يخفى على الوالد الفطن فرق ما بينه وبين فرنسيس في الذكاء، والحيلة، وذرائع الوصول.
وأيا كان سر هذا العداء فقد علم الحكيم الصغير بعد قليل أن المساعدة الثانوية هي قصارى ما يرجوه من أقربائه، ووزراء زمانه، فهم لا يضنون عليه بالمساعدة في أعمال المحاماة، أو الانتخاب لمجلس النواب أو بسداد ديونه إذا أحرجه الدائنون، وقد أحرجوه مرتين، وساقوه إلى السجن في هاتين المرتين، فوفى روبرت دينه في المرة الثانية وقسطه عليه.
أما المناصب التي ترجى وتخشى فقد صدوه عنها، وصدوا من يعينه عليها من كبراء الدولة، ولجوا في الحيلولة بينه وبينها حتى جرت بينهم وبين أنصاره في سبيلها ملاحاة عنيفة قلما تجري بين الكبراء.
ففي سنة 1584 دخل مجلس النواب عن مالكومب رجيس
Malcombe Regis ، وعاد فدخله مرة ثانية نائبا عن ليفربول سنة 1588، وهي سنة انتصار الإنجليز على الأسبان في معركة «الأرمادا» المشهورة.
وتيسرت له وظيفة «محام مستشار» لا مرتب لها ولا عمل في الحكومة، ولكنها من وظائف الشرف التي يستعين الوزراء بأصحابها في تحضير بعض التهم أو ترتيب بعض القضايا أو مناقشة بعض الخصوم.
وفي سنة 1593 خلت وظيفة النائب العام، فظن باكون أن أقرباءه لا يحولون بينه وبينها في هذه المرة، بعد أن تمرس بالنيابة والمحاماة، وشئون القضاء برهة تحسب لمثله في ذكائه ووفرة محصوله.
فإذا هم وقوف له بالمرصاد.
وكان يؤيده في طلب هذه الوظيفة لورد إسكس
Essex
الفارس النبيل الجميل صديق الملكة المشهور، وصديق العلماء والأدباء.
فاشتدت الملاحاة بينه وبين رئيس الوزراء وابنه روبرت سسل في ترشيح باكون لتلك الوظيفة، وغضب إسكس حين اعتذر روبرت سسل بشباب باكون، وحاجة الوظيفة المطلوبة إلى السن والدربة، فقال مجبها له: إنك مثله في السن، وأنت تشغل من مناصب الدولة منصبا أرفع وأحوج إلى السن والدربة من منصب النائب العام.
وقيل غير مرة للورد إسكس، وهو يلح في ترشيح باكون لذلك المنصب: إنهم يدخرون له وكالة النائب العام، فهي حسبه في الثانية والثلاثين من عمره وفي بداية ارتقائه لسلم المناصب الكبيرة، وخيل إلى اللورد إسكس هنيهة أنهم جادون فيما يعدون، ولكنه ما لبث أن علم أنهم وعدوا بما ليس في اليد؛ لأن الوكالة قد كانت مشغولة في ذلك الحين، فلما خلت بعد قليل إذا هم يضنون على صديقه بوظيفة الوكيل، كما ضنوا من قبل بوظيفة الرئيس!
وقد كان اللورد إسكس رجلا ذكيا كريما شريف الخصال شجاعا مفرطا في الشجاعة محبوبا في الجيش والأمة، وسيم الطلعة يفتن النساء بوسامته ونخوته، وعلو صيته، ولم يكن يعاب في أخلاقه إلا بفرط الشجاعة والخيلاء، وقلة الدهاء في عصر لا تصان فيه حوزة بغير الدهاء، وكانت الملكة اليصابات تعجب بشجاعته وجماله، ولكنها لا تركن إلى رأيه وتدبيره، ولعلها كانت تستريح إلى مخالفته في بعض المطالب معاندة له أو تدللا عليه؛ لتكف من تيهه وتذكره بقيمة الزلفى لديها، وتذكي الغيرة بينه وبين منافسيه، وتجعل رجحانه عليهم أبدا في يديها، فتملكه على الدوام بهذا الزمام، وكانت في نفسها موجدة على صاحبه باكون لكلمات قالها بمجلس النواب جاوز بها حدود الصراحة التي ترضاها في مناقشة حقوق الملكة، وحقوق المجالس النيابية، وهي ولا ريب كانت تدخر وظائف الأبناء لمرضاة الآباء والأسر الكبيرة، التي ينتمون إليها، فإذا كانت أسرة باكون ترضى بتأخيره ولا ترضى بتقديمه، فهي إذن في حل من تحويل الوظيفة عنه إلى الرجل الذي ترشحه أسرته وترشحه أسرة باكون على السواء، فتغنم بذلك موظفا كفؤا ورضى أسرتين، ولا تخسر إلا رضى باكون وهو مأمون العداوة مرجو الخدمة في كل حين.
وكذلك انقضى العام في المنافسة على الترشيح بغير جدوى، ثم انتهت هذه المنافسة الطويلة بتعيين «إدوارد كوك» للوظيفة المطلوبة بتزكية رئيس الوزراء ورهطه، وجماعة من ذوي النفوذ، وخرج باكون من هذه المنافسة الطويلة بشيء واحد لا يحسد عليه، وهو عداوة كوك وسوء نيته من نحوه مدى الحياة، وقد جرت عليه هذه العداوة مصائب كثيرة، منها النكبة الأخيرة التي قضت عليه.
ثم فاتته وظيفة الوكيل كما فاتته وظيفة الرئيس، وكان كوك أشد معارضيه في هذه المرة كراهة له، وتوجسا من وكيل كان ينافسه على الرئاسة، ولا يرجى منه الإخلاص في المعاونة، وساعده اللورد إسكس هنا ما استطاع كما ساعده ما استطاع في المنافسة الأولى، فلما أخفق هنا كما أخفق هناك خجل أن يعده مرتين ولا ينجز له وعده، وأنف أن يعجز عن تعيينه وعن تعويضه ... فوهب له ضيعة حسنة تسوم بألف وثمانمائة جنيه، وتغل للمنتفع بها ريعا لا يستخف به في ذلك الزمان.
وانقضى عهد الملكة اليصابات التي كانت تدعوه بحامل أختامها الصغير، وليس له نصيب في عهدها من الوظائف العامة، التي كان يحلم بها، ويتمناها كما كان يحلم بها ويتمناها كل فتى من نظرائه في عصره، اللهم إلا تلك الوظيفة الاستشارية المهملة في عالم المحاماة بغير مرتب مقدور، ولا عمل معروف. وليتهم مع هذا قد حرموه هذه الوظيفة كما حرموه غيرها، إذن لسلم تاريخه من أقبح وصمة خلقية حسبت عليه.
ذلك أن اللورد إسكس نصيره ووليه قد ساءت مكانته عند الملكة في هذه الفترة، وتمكن أعداؤه ومنافسوه في البلاط من الكيد له، وتكدير الصفاء الذي بين الملكة وبينه، فندبته لولاية أيرلندة في أحرج الأزمات التي مرت بتاريخ تلك البلاد، ولم تكن سياسة الأمم الثائرة من ملكات اللورد المغامر الجسور، فعصفت الفتنة بكل حيلة من حيله، وتعمد منافسوه في البلاط أن يشلوا يديه ويعرقلوا سعيه، ويقطعوا الصلة ما بينه وبين الملكة كلما حاول أن ينهي إليها أمرا من الأمور.
وعاد اللورد محنقا خائبا إلى العاصمة تسبقه سمعة الفشل والغشم، وسوء التدبير وقلة الولاء، فخيل إليه أنه لا يزال بمكانته التي عهدها في قلب الملكة ونظرها، وأبى إلا أن يقسرها على إقصاء منافسيه عن البلاط، وعقابهم على الدس والتقصير في خدمة الدولة وتشجيع الفتنة، فلم تصغ الملكة إليه ولم تصفح عنه، ولا غضبت على منافسيه، فجن جنونه من الغضب، وعول على الثورة المسلحة لإكراه الملكة على ما يريده، ثم ثار وانهزم بعد مقاومة ليست بذات بال.
كانت ثورته بينة وكانت العقوبة عليها مقررة معروفة، ولكن الملأ الإنجليزي في ذلك العصر - على كثرة ما شهد من القضايا السياسية - لم يشهد قط من بينها قضية، كانت أعقد ولا أغرب ولا أشد اختلافا بين بواطنها وظواهرها من هذه القضية.
فلم يكن أحد في البلاد الإنجليزية يريد للورد المحبوب أن يلقى جزاءه، الذي استحقه بحكم القانون والشريعة الموروثة، بعد استثناء أعدائه ومنافسيه.
كانت الملكة صاحبة القسم الأوفى والحق الأكبر في القصاص؛ لأنها هي صاحبة السلطان الذي اجترأ اللورد إسكس عليه، ولكنها مع هذا لم تكن تكره أن ينجو اللورد من عقابه بحجة من الحجج، التي تحفظ الصور والأشكال، فقصارى ما كانت تتقيه أن تظهر بالوهن والخطل في صفحها عن اللورد الثائر، وأن يجترئ أحد مثل اجترائه، ثم يفلت من الجزاء بغير علة راجحة من علل القانون أو السياسة، فأما إذا حوكم وجاءه العفو أو التخفيف من قضائه ومحاميه، ولم تكن هي المتهمة فيه بالوهن والخطل، فقد رضيت ورضي القانون والسياسة، وأراحت نفسها من ذلك الندم الذي كانت تخشاه وترهبه، وقيل: إنه غام على عقلها الحصيف بعد موت اللورد المحكوم عليه، فجعلها تفترش الأرض ليالي متواليات من برح الألم ولجاجة اليأس والتكفير.
وكان جمهور الشعب يأبى أن يدان اللورد الجميل المقدام، وإن كانت عقوبته مما لا تختلف فيه العلية والجماهير، ولكن أبطال الجماهير قلما يخسرون سمعتهم بينها بعمل من أعمال الإقدام.
وكان الجيش يحبه ويعجب به، ولا يسيء الظن بثورته وبذوات طبعه، ويعزوها إلى الحدة والمجازفة ولا يعزوها إلى الكنود والخيانة، ويتمنى لو نظر إليها قضاته بهذه العين، فسرحوه بريئا أو التمسوا له تخفيف الجزاء.
وكان النائب العام إدوارد كوك - منافس باكون - يلمح هذه الطوايا الملكية والشعبية، فيقتصد كثيرا أو قليلا في تقرير التهمة، وتعزيز الأدلة وتضييق الخناق على الثائر المحبوب، ولا يزال يطاول في المحاكمة ويرخي الحبل ويفسح طريق النجاة، لعله ينتهي في خاتمة المطاف إلى مخرج يرضي الملكة، ويرضي الشعب والحق ولا يغضب القانون.
وهنا اتجهت الأفكار إلى باكون صديق «إسكس» الحميم!
فهل اتجهت الأفكار إليه لإنقاذ صديقه الحميم والدفاع عنه، وتفريج فسحة النجاة بين يديه؟
لا، بل لتأييد التهمة وشد الوثاق الذي أرخاه كوك، أو حسبوا من قبل أنه سيرخيه!
فعمد خصوم اللورد إسكس، إلى الرجل الوحيد الذي ينبغي له أن يتنحى عن هذا العمل كائنا ما كان سر الدعوة إليه، فندبوه له وظفروا منه بقبوله بغير عناء.
ندبوا فرنسيس باكون لاتهام صديقه إسكس بالخيانة العظمى التي عقوبتها الموت، فأجاب!
ولم يحدث قط أن رجلا من هيئة المحاماة الاستشارية ندب لمثل هذه المهمة في قضية من قضايا السياسة العليا، ولم يندب باكون بعد ذلك في قضية أخرى على كثرة القضايا السياسية، التي أعقبت هذه القضية المشئومة.
فلماذا ندبوه؟ ولماذا أجاب؟
ندبوه لأنهم علموا أن اللورد المتهم محبوب بين سواد الأمة، فإذا جاءت تهمته من بعض أصحابه المقربين، فذلك قمين أن يفت في أعضاد المتشيعين، ويريهم أن إدانة الرجل أمر متفق عليه بين الأنصار والخصوم، وفيه ما فيه من غصة للعدو اللدود الذي يتعقبونه بالكيد والإيلام إلى الرمق الأخير، فليس أغص للمخذول من أن يخذله أعوانه ومريدوه.
أما هو فقد أجاب الدعوة - على ما يظهر - لأنها الفرصة السانحة لتحقيق الطمع الذي عز عليه منذ سنين؛ ولأنه قد برم بالناس والعهود وغشيته غاشية من التجني على بني آدم، فخيل إليه أنهم في معونتهم ومناوأتهم سواء لا يخدمون إلا مآربهم ولباناتهم، ولا يرضون إلا غرورهم وكبرياءهم، وأن إسكس نفسه قد خدمه وأعانه غلبة لخصومه؛ واعتزازا بمكانه ولم يخدمه للبر به والحدب عليه.
ولا نستبعد أن يدخل في حساب باكون وهو يقبل الدعوة إلى اتهام إسكس أن الحكم عليه - بالغا ما بلغ من الصرامة - متبوع بالعفو أو بالتخفيف لا محالة، لما يعلمه من عطف الملكة على اللورد المتهم؛ ورغبة الأمة في الصفح عنه.
وليس مما ينسى لباكون في هذا المقام أنه قد حاول جهده أن يصلح بين الملكة واللورد إسكس، بعد أوبته بالخيبة من البلاد الأيرلندية، وأن قد حاول جهده أن يثني اللورد عن عزيمة الثورة، حين هجست في نفسه هواجسها، وكاشف بها بعض المقربين إليه، فهذا وذاك مما يحسب لباكون من شفاعة المعذرة في تلك المعابة الموصومة التي تورط فيها لغير ضرورة حازبة، ولكنها معذرة لا ترحض عنه الوصمة ولا تبرئه من المذمة، وإن غناءها عنه لقليل كلما ذكر إلى جانبها ذلك اللدد الذي ظهر منه في محاسبة وليه ونصيره، وتلك الجهود التي بذلها في حصر التهمة، وإغلاق منافذ الرحمة، ومنها الكذب المتعمد فيما يعلم هو قبل غيره أنه كذب صراح.
ففي رسائل باكون التي كان يكتبها إلى اللورد إسكس كلام كثير عن مكائد الحساد، وفخاخ الأعداء الواقفين له بالمرصاد، وقد كانت هذه المكائد عذرا يلتمسه المدافعون عن اللورد إسكس؛ لتهوين جريمة الثورة، وتمثيل التهمة في صورة العداء بين الأنداد والقرناء، فطفق باكون في اتهامه يسخر من دعوى الكيد والاستثارة، ويحسبها من المزاعم التي لا تقوم عليها بينة صادقة ... حتى ضاق اللورد المتهم بهذه المكابرة التي لا موجب لها، وقاطعه قائلا: إن مستر باكون في رسائله يدحض ما يقوله مستر باكون في اتهامه!
ثم زاد باكون على اللدد في الاتهام لددا في تشويه السمعة بعد الممات، فأساء إلى اللورد المحكوم عليه في ذكراه كما أساء إليه في حياته، وأتبع موته ببيان مستفيض عن غلطاته ومثالبه، وما استحق به الجفوة من مليكته ثم القضاء عليه بالموت، وكان هذا البيان مطلوبا لتهدئة الشعب الذي تلقى نفاذ الحكم في بطله المحبوب بالوجوم والإعراض عن البلاط وحاشيته أيما إعراض.
وقد عجب نقاد هذه القضية من نشاط باكون وبراعته القانونية، ومن هفوات كوك وغفلته عن المآخذ الظاهرة في تسيير الدعوى وتوجيه التهمة، ومن أسباب عجبهم أن باكون على فضله في العلم والأدب لم يكن ندا لكوك في أفانين المحاكم ومسائل القضاء! وإنما جاء العجب من المقابلة بين متسابقين يجري أحدهما ملء خطوه، ويظلع الآخر باختياره، ويحسب السبق بينهما على باكون، ولا يحسب على مسابقه القدير المتواني بمشيئته في هذا المضمار.
وشاءت المقادير أن ينقضي حكم اليصابات كما أسلفنا، وليس لباكون نصيب فيه من الوظائف أو الألقاب، ألعله حقد منها عليه لجده في اتهام الثائر المحبوب؟ يجوز. وإن لم يجز فالذي لا نشك فيه أن باكون قد عومل يومئذ معاملة البغيض المحقود عليه.
وكل ما أصابه من جزاء على جهوده المضنية في هذه القضية حصة من الأموال، التي جمعت من مصادرة أملاك الثائرين ووزعت على المشتركين في اتهامهم، وإنفاذ الأحكام فيهم، وبلغت هذه الحصة ألفا ومائتي جنيه هي دون ما أخذه طواعية من اللورد القتيل، ولو بلغت أضعاف ذلك لما حسبت من الرزق المريء، ولا من الرزق الكريم.
لا بل أصابه من جزاء على تلك الجهود ظل كثيف من المعابة قد ران على سمعته، ولا يزال يرين عليها بعد ثلاثة قرون، وأغرى به من العداوات ما تجاوز السمعة إلى الضرر في المنصب والمال، فلم تخل نكبته الأخيرة من عقابيل هذا الخطأ الجسيم.
إن الناس لا يفهمون خيانة من الخيانات كما يفهمون الخيانة بين الأصدقاء، وربما دق عليهم فهم الخيانة الوطنية لالتباس الرأي فيها بالتفاصيل الفقهية التي لا يفقهونها، أو لانطوائها في غمرة الخصومات الحزبية والعصبيات المذهبية ... بل يدق عليهم أحيانا فهم الخيانة في العرض لما يحيط بها من الاستهواء القصصي، والعلاقات الشعرية أو المسرحية، التي تمتزج بأحاديث الغرام. أما خيانة الأصدقاء فهي من الخيانات المفهومة في كل بيئة وعلى كل حالة، وعند الإنجليز خاصة يكبرون كلمة الولاء حتى يقرنوها في ألفاظهم بالإيمان، ويقرنوا الكفر بمعنى من معاني «عدم الولاء» ... فإن عجبت في أمر باكون، فاعجب لسقطات الذكاء كيف تزل بصاحبها هذه الزلة تحت بروق المطامع، التي هي شر من الظلام الدامس على السالكين فيه. •••
وأقبل عهد جيمس الأول بشيء من الرجاء في استدراك ما فات على عهد الملكة اليصابات، وقد أوشك في بدايته أن يعصف بهذا الرجاء القليل، فيتصل العهدان بسلسلة من الحرمان والتسويف؛ لأن الملك جيمس كان يعطف على أسرة اللورد إسكس، ويرغب في إقالة عثرتها واستحياء نفوذها، ولم يكد يستوي على عرشه حتى أحس الناس منه هذه الرغبة، فانطلقت الألسنة من عقالها تثني على اللورد القتيل، وتقدح في أعدائه وأصدقائه المنقلبين عليه، ولكن الملك جيمس كان يسلك نفسه في زمرة العلماء والأدباء، ويحب أن يعطف عليهم عطف الزملاء على الزملاء، وكان باكون قد أثبت إلى جانب ذلك أنه رجل يعول عليه في ساحة القضاء وقاعة مجلس النواب، ويستفاد منه ما يساوي ثمن اللقب أو الوظيفة إذا التمس البلاط هذه الفائدة في يوم من الأيام، ولم يكد يبقى في زمرة المحامين أحد من طبقة باكون، لم ينعم عليه في مستهل العهد الجديد بلقب من ألقاب التشريف، ولم يقصر باكون في الطلب، ولا ترك لأحد من ذوي النفوذ مندوحة للرفض والاعتذار، فكتب إلى كل ذي طالع مرجو في العهد الجديد يعرض عليه خدمته وولاءه وصدق بلائه ، وكتب إلى قريبه روبرت سسل فيمن كتب إليهم يسأله الوساطة في تشريفه بلقب من الألقاب أسوة بأقرانه وأصحابه، وتمهيدا للزواج بفتاة ذات مال يصلح به شأنه، ولعلها في يسارها ومنزلتها لا ترضاه بغير لقب وبغير مال!
وقد أنعم عليه في سنة 1603 بلقب فارس، فأصبح يدعى السير فرنسيس باكون، وتوالى الإنعام عليه بالألقاب حتى ارتقى إلى رتبة الفيكونت
Viscount of st. Albans
في سنة 1621.
وترقى في الوظائف كما ترقى في الألقاب، فتم تعيينه لوكالة النائب العام في سنة 1607، ولمنصب النائب العام في سنة 1612، وارتفع في خلال ست سنوات إلى منصب قاضي القضاة، وهو أكبر المناصب القضائية في الدولة الإنجليزية.
وقد جوزي بهذه الألقاب وبهذه الترقيات على خدمته للبلاط، وتأييده لامتيازاته في مناقشات مجلس النواب، وعلى التوفيق بين المجلس والبلاط في أزمات النزاع حول حقوق العرش وحقوق الأمة، وإن كان توفيقا من توفيقات المصالحة التي تقف عند الصيغ، ولا تتعداها إلى الجوهر واللباب.
لكنه في مناصب القضاء قد أباح لنفسه من التزلف للبلاط ما لم يكن يستبيحه وهو نائب عن الأمة، ولعله توسع في الزلفى وهو في مناصب القضاء؛ لأنه منفرد فيها عن الأصوات والآراء، وأحجم في زلفاه وهو نائب؛ لأنه مقيد بأصوات المئات من النواب بين معارضين أو مؤيدين.
ففي قضية «أوليفر سان جون» الذي أنكر على الملك حق فرض الخيرات والصدقات، وحكم عليه بالسجن من أجل هذا الإنكار كان باكون يتولى الاتهام والمطالبة بالعقاب!
وفي قضية القس بيشام الذي حوكم لأنه كتب موعظة مناقضة لامتيازات الملك، ولم يلقها ولا اهتم بنشرها - كان باكون يساوم القضاة؛ ليوعز إليهم بإدانة ذلك الشيخ المسكين على خلاف ما اعتقدوه.
هذه خطة يمضي عليها الرئيس المشهور زمنا طويلا، وهو آمن على منصبه من عقباها لو كان منيع الحوزة، أو كان في حصن حصين من الشبهات والأقاويل ... لكن باكون لم يكن كذلك في أعمال القضاء! كانت حوله شبهات جمة، وكان حوله خصوم متربصون، وكان إسرافه الذي يتجاوز مورده المحدود أول وأقوى هذه الشبهات.
كان مورده المحدود دون الثلاثة الآلاف من الجنيهات، وكانت نفقاته تربى على خمسة أضعاف هذا المقدار؛ لأنه كان يقبل الهدايا والرشى على سنة القضاة في ذلك الزمان، وكان يغضي عن أتباعه ومرءوسيه؛ لأنهم يتوسطون في حمل الرشوة إليه.
واتفق غير مرة أنه أخذ الرشوة من طرفي الخصومة، فأغضب الخصم الذي لم يحكم له وإن لم يكن له حق في دعواه، فتألب عليه فريق من هؤلاء المدعين الموتورين، واستمدوا الجرأة في الاتهام من تحريض أعدائه وممالأتهم في جمع الأدلة، وتشجيع الشهود وإذكاء العيون والأرصاد.
وأبى البلاط أن يحميه؛ لأن التهم والشبهات استفاضت في البلاد، فتهيب حماته أن يستروه ويتعرضوا لسير التحقيق والمحاكمة؛ مخافة الاتهام بالتواطؤ والمشاركة أو الاعتراف بالافتيات على حقوق الأمة، وبذل الحماية لمن يسخرونهم في تلك السياسة.
فجرى التحقيق مجراه، وأسفرت المحاكمة عن ثلاث وعشرين تهمة اعترف بها باكون، غير التهم التي كان يعوزها الدليل القاطع والشهود المقبولون.
فلم يسع قضاته النبلاء إلا أن يحكموا عليه بأقسى ما في وسعهم من الأحكام، وضاعف في قسوة حكمهم أنهم كانوا على يقين من الإعفاء والمسامحة من جانب البلاط، فقضوا بتغريمه أربعين ألف جنيه وسجنه في البرج بإذن الملك، حتى يأمر بالإفراج عنه، وحرمانه الجلوس في دار النيابة وولاية الوظائف العامة في الدولة الإنجليزية، فأعفاه الملك من هذه الأحكام جميعا إلا العزل وتحريم النيابة والولاية، وظل هذا الحكم نافذا حتى قضى نحبه في سنة 1626 بعد خمس سنوات.
قال باكون في الدفاع عن نفسه: «لقد كنت أعدل قاض في الديار الإنجليزية منذ خمسين سنة، ولكنها رقابة البرلمان التي كانت أعدل رقابة عرفت قط في مدى مائتي سنة.»
وليس هذا القول في الواقع بغريب، فإن قضاة باكون أثبتوا عليه الرشوة، ولم يثبتوا عليه قط أنه حكم في قضية واحدة بما يخالف العدل والحقيقة، ومن أظرف الفكاهات أن يعتذر المعتذرون للقاضي الفيلسوف بأنه كان يحكم بالعدل؛ لأنه كان يقبل الهدايا من الطرفين، وكان قبول الهدايا سنة شائعة بين جميع القضاة في أيامه! ولكنه اعتذار يستحق أن يقال لفكاهته وطرافته، إن لم يكن للحق الذي فيه! •••
ذلك موجز من سيرة باكون في نشأته المدنية، كما كان يسميها، أو نشأة المطامع والمناصب والألقاب، وتلحق بها نشأته البيتية بعد الزواج؛ لأنها لم تكن في الواقع إلا خطوة من خطوات هذا الطريق، ومظهرا عنده من مظاهر البذخ والوجاهة الاجتماعية.
وتشاء المصادفات أن تتم المطابقة بين النشأتين: نشأة البيت ونشأة المجتمع، كما تتم المطابقة بين النموذج الصغير والصورة الكبيرة.
فكما خطب المنصب النافع كذلك خطب الفتاة النافعة، التي يرجو من البناء بها تيسير حاله ولو بعض التيسير، وكما توسط له اللورد إسكس في المنصب كذلك توسط له خطبة تلك الفتاة، وكتب إلى أهلها يقول: إنه لم يكن يشير على نفسه بغير ما أشار عليهم من قبول باكون لفتاتهم، لو كانت الخطيبة أخته أو قريبته أو كان ذا ولاية عليها ... وكما أخفق إسكس في خطبة المنصب أخفق كذلك في خطبة الفتاة ... وكما سبقه منافسه إدوارد كوك إلى منصب النائب العام، كذلك سبقه إلى قلب هذه الخطيبة، أو إلى عقلها فتركت باكون وآثرته عليه.
وينتهي هنا الوفاق بين النموذج والصورة، ويبدأ الاختلاف بينهما، فإن إدوارد كوك قد أسدى لمنافسه أجل مأثرة، وأراحه من أفدح مصاب كما قال اللورد ماكولي في رسالته القيمة عن الفيلسوف؛ لأنه حمل عنه البلاء الذي شقي به طول حياته، وكانت الجائزة التي استبق إليها الندان المتنافسان ربة جحيم في مسلاخ ربة بيت، وهي تلك اللادي هاتون التي خاب معها باكون خيبته السعيدة.
ثم تم بناؤه (في سنة 1606) بأليس برنهام
Alice Barnham
بنت بعض الوجهاء، وذات حظ من المال والجمال، ولكنه لم يسعد بها كما تمنى، وإن لم يشق بها شقاء منافسه بنصيبه! وتبين من وصيته ما كان مفهوما خلال حياته من قلق ضميره، وقلة اطمئنانه لهذا الزواج.
وكان يوم الزفاف معرضا لصفات باكون، التي لازمته طول حياته في سيرته الاجتماعية، وهي البذخ والإسراف وحب الأبهة والعلو على الأقران في هذا المضمار، فذهب إلى الكنيسة هو وزوجته غارقين في حلل الحرير، وحلي الذهب والفضة والجواهر النفيسة، وعاش على هذه البزة وهذه الشارة بقية أيامه إلى أن قضى نحبه في نحو الخامسة والستين.
ولا يبدو من وصيته أنه كان على عسر في معيشته، وإن ركبته الديون آونة بعد آونة، وعده بعضهم من الفقراء بالقياس إلى منزلته ولقبه، فقد عاش في سعة ونافس الأمراء في حله وترحاله، وكتب وصيته قبل أشهر من وفاته وهو يذكر جياده المطهمة ومركباته الفاخرة، ويتكفل بكرسيين للمحاضرة في الجامعات، وبمائتي جنيه في السنة للإنفاق على المباحث الطبيعية.
ونحن نكتفي بالموجز المفيد من نشأته المدنية؛ لأنها ولا ريب هي الصفحة التي يستريح القارئ إلى الإسراع بطيها في سجل هذه الحياة الحافلة.
ومتى طويت هذه الصفحة، فليس في السجل كله إلا ما هو جدير بالنشر والإعجاب والتذكار، إذ ليس في السجل كله بعد ذلك إلا الأمانة، التي لا تعدلها أمانة في خدمة العلم، ونصح بني الإنسان، وليس بين حكماء الأرض من يعرض لنا في هذا الباب صفحة هي أنصع وأخلد من صفحة هذا الحكيم، الذي جمع الحكمة كلها في قلمه، وضيعها كلها في تصرفه وعيشه.
فكانت غيرته الصادقة في ميدان البحث والعلم على قدر تفريطه الخادع في ميدان الجاه والمال، وكان حبه للحق وهو يفكر ويكتب على قدر هوان الحق عليه وهو يعالج العيش، ويزاول مرافقه ومرافق الناس.
فمنذ الصبا الباكر نشأ هذا الرجل العجيب - أو الرجل المزدوج، كما قال بعض ناقديه - نشأة عالم أمين خلق لتمحيص الحقيقة العلمية دون سواها، حتى لتعجب كيف اتسعت هذه الطبيعة لتلك النقائض، التي لا تحيك بها إلا خلقة منعزلة عن العلوم والتفكير في العلوم. •••
كان في العاشرة من عمره يفتح على الدنيا عيني عالم صغير، وانسل يوما من بين رفقته اللاعبين إلى قبو في حقول سان جيمس يسمع منه صداه العجيب ويتقصاه، ويسأل عنه معناه، وشغل منذ الثانية عشرة بحيل الحواة والمشعوذين؛ لما فيها من المشابهة للسحر والعلم والصناعة في وقت واحد، ونفرت سليقته وهو دون السادسة عشرة من تعليم الجامعات، الذي كانوا يعزونه يومئذ إلى آراء أرسطو وهو من أكثرها براء، وفصل القول ولما يبلغ الثامنة عشرة في مشكلات أوروبا السياسية ذلك التفصيل الذي يعيي عقول بعض الكهول ممن لم يرزقوا تلك الفطنة وذلك الإلهام، ولم يقنع وهو في الثلاثين بما دون تبديل الأسس العلمية والفلسفية جميعا كما كانوا يستقرون عليها في تلك العصور، فطفق يفكر ويعيد التفكير في قسطاس شامل لجميع المعارف البشرية، التي كانت معروفة يومئذ، والتي كان يرجى أن تعرف بالقياس على ذلك القسطاس، وسماه ذلك الاسم الفخم الذي يشير إلى آفاقه ومراميه، وهو «البناء الأعظم للفلسفة الصادقة» ... وظهر الجزء الأول منه (في سنة 1605) باسم ترقية المعرفة أو التعليم، ثم وسعه وتممه وأضاف إليه، وأصدر منه نسخة لاتينية في سنة 1623، وظهر الجزء الثاني من هذا السفر الضخم باسم القانون الجديد أو القياس الجديد
Novum Organum
وهو مرجع فلسفته الأكبر بين مراجعه الأخرى، ومنها شذرات لم تستوعب موضوعها؛ لأنها أكبر من أن يضطلع بها جهد رجل واحد في ذلك الزمان، الذي يصعب فيه التعاون العلمي الميسور في عصرنا الحديث، فقضى عليه أن يفارق «البناء الأعظم» وهو ناقص الشرفات والطباق، ولكنه على هذا كامل الدعائم والأركان.
وقد مات في ميدان العلم وهو يحمل سلاحه، ولا يبالي الحيطة التي تفرضها عليه بنيته الهزيلة في مثل سنه، فخرج في الشتاء؛ ليجرب وقاية الثلج للأجسام الحيوانية من العفونة في جسم دجاجة مذبوحة لساعتها، فسرت إليه قشعريرة لم تمهله غير أيام، ومات ميتة العالم وإن لم يعش عيشته على الدوام.
هذه النشأة - نشأة العالم - هي التي يكتب من أجلها عن فرنسيس باكون، ويغتفر من أجلها عيب الرجل في نشأته الأخرى: نشأة المطامع والمناصب والألقاب.
وحق له أن يودع الدنيا «وهو يترك اسمه وذكراه للألسنة الخيرة، وللأمم الغريبة وللأجيال القادمة».
وللألسنة الخيرة ولا جدال مقال طيب في ذكراه جدير أن يقال.
أخلاقه
يندر جدا أن يشتهر رجل أو يرتقي سلم المناصب الرفيعة، ثم لا يكون للعصر أثر في أخلاقه إن لم تكن أخلاقه كلها مشابهة لأخلاق عصره؛ لأن الشهرة أو ارتقاء المناصب تجاوب بين الرجل وأهل زمانه، وقلما يتأتى هذا التجاوب بغير مماثلة أو مقابلة بين الشيئين المتجاوبين.
وأثر العصر في أخلاق باكون واضح كل الوضوح؛ لأنه لم ينفرد فيه بداهة بحب الظهور، ولا بالتهافت على المال والحطام، ولم يعرف عنه شيء من ذلك إلا وقد عرف مثله عن قرنائه ونظرائه، ومن هم فوقه ومن هم دونه.
وحسبنا أن الثورة التي نشبت بعد زمانه بأقل من قرن واحد إنما نشبت لأن الملوك كانوا يفرطون في طلب المال، ويرهقون الرعية بالضرائب والإتاوات ... فلم يكن إذن في ذلك العصر من يتعفف عن جمع المال والمجازفة بالعواقب في هذا السبيل، سيان في ذلك من رزقوه أو لم يرزقوه، وسيان في ذلك صاحب المكان الأول، وصاحب المكان الأخير.
وليس باكون بدعا في هذه الخليقة، وإن جنت عليه الشهرة فحفظت نقائصه، ولم تحفظ نقائص المئات ممن يماثلونه في الأقدار والأخطار.
وربما كان للعصر أثر آخر في أخلاقه من جانب يخصه، ولا يعم نظراءه في المنصب والمكانة، فإنه قد كان ولا جدال أكبر أبناء أمته في ذلك العصر عقلا، وأثبتهم نظرا وأقدرهم على فهم مرامي القوام وأطوار الأقوام، فدعاه اليقين من صوابه في هذه الشئون إلى إسداء النصح طواعية لكل من يملك تصريفها، ويقبض على مقاليدها، فكتب نصائحه إلى الملكة اليصابات في سياسة الكنيسة والشعب والنواب، وكتب نصائحه إلى الملك جيمس في السياسة الأوروبية، والسياسة الداخلية، ومحض النصح للورد إسكس واللورد بكنجهام واللورد سالسبري في مسائلهم ومسائل الأمة، فكان من العجب أنهم أعرضوا عنه، وأصموا آذانهم عن نصحه، ولم يقبلوا منه إلا الملق والنفاق. ومن دأب هذه الصدمات في النفوس التي لا تقوى عليها أن تضعف عندها قيمة النصح والإخلاص، وتغريها بالغش ومجاراة الأهواء ... ففي هذه على الأقل جدوى لمن يغش ويجاري أهواء الأعلياء، وأما النصح الخالص فقد يلوح لهم أنه لا جدوى فيه للناصح ولا للمنصوح، حيثما تعرض الأسماع وتجمع الأهواء.
ففي هذه الخلائق وما شاكلها كان عذر باكون ذنب عصره، أو كان عذره أن ذنوبه هي ذنوب مئات وألوف ، ولم يكن تجنبها من اليسير عليه، وماذا تقول في عصر كان اسم مكيافلي فيه أشهر الأسماء بين حكماء السياسة، ومعلمي الأمراء والوزراء؟
لكن الأخلاق لا ترجع كلها إلى العصور، حتى ما كان منها سمة من سمات تلك العصور؛ لأن الإنسان يأخذ منها أو يدع على حسب طبعه الموروث أو الأصيل فيه، وقد ينبذها كلها ويثور عليها لفرط المناقضة بينه وبينها، كلما بلغت هذه المناقضة حدا يتعذر فيه التوفيق.
وباكون كان فيه جرثومة الخلق الذي أنماه العصر وأرسخ جذوره، وكان فيه مع هذا ضعف مقاومة، وقلة جلد وإشفاق من مأزق العراك والمجازفة، وكل أولئك مما يعجل به إلى الاستسلام، ويزين له سلوك السهول دون الوعور.
ونحسبه قد ورث هذه الطبيعة من أبيه؛ لأن أباه كان يتخذ له شعارا لاتينيا يكتبه على باب بيته، فحواه أن الاعتدال أبقى، وكان يشفق في سياسته من المخاطر ولو كان من ورائها كبار المغانم، فلبث في منصبه نيفا وعشرين سنة لاجتنابه المقاحم التي تزلزل الأقدام في ذلك العصر القلب، وذلك البلاط المحشو بالدسائس والمنافسات.
ويبدو لنا أن النوازع الحيوية كلها في طبيعة باكون لم تبلغ من القوة والامتلاء مبلغا يدفعه إلى المقاومة والمجازفة في أي مطلب، وقد نرد إلى ذلك ولعه بالأبهة والمواكب والأزياء، وكل ما يلفت الأنظار، فالغالب في هذا الولع أنه يشغل في النفس مكان اللذات الحيوية والشهوات العارمة، على سبيل التعويض في الشعور، فإذا فاته سرور الشعور بنفسه أحب أن يعوضه بسرور من قبيله، وهو شعور الناس به واعتقادهم فيه الغبطة والاستمتاع.
ويعزز عندنا هذا الظن أنه لم تذكر له علاقة بالنساء على شيوع العلاقات الغرامية في زمانه، ولم تكن له سعادة بالزواج ولا بالذرية، ولم يشتهر عنه قط شغف بطعام أو شراب، فطلب المال عنده ضرورة لطلب المظاهر الخلابة، وطلب المظاهر الخلابة عنده ضرورة لتعويض الشعور باللذات والشهوات، وكل أولئك له حافز من عادات الزمن ومغرياته لا تسهل مقاومته على المستعد للمقاومة، فضلا عمن يشفق منها ويتعمد اجتنابها.
فالجهد ثقيل على طبع باكون سواء في الخيرات أو في الشرور، وحب الإعفاء والمعافاة صارف له عن تكليف نفسه ما لا يطيق؛ ولهذا كان ينصح بالخير ثم ينصح بغيره إذا لم يقبلوه منه، وكان يؤثر السلم والمسالمة ولا يقابل النقمة بمثلها، ولم يكن في طبعه الضغن على مسيء وإن بالغ في الإساءة إليه، فلم يحقد على الملكة اليصابات بعد موتها مع حرمانها إياه وإصرارها على إنكار حقه وتقريب منافسيه، وكتب عنها أجمل ما يكتبه عنها مستفيد من حظوتها ورعايتها، وليس له نفع مرجو من هذه الكتابة في عهد خلفها، الذي كان لا يحبها ولا يستريح إلى الثناء عليها، وقد ندب للوصاية على تركته الأدبية رجلا كان يرميه بالاحتيال ومخادعة الدائنين، وهو الأسقف وليامز عدوه في محنته وصديقه قبيل موته بأعوام قليلة، فليس من خلقه الإضرار المقصود ولو بأعدائه وثالبيه.
ويصعب أن يقال إنه كانت له شرور كبيرة من شرور الطبائع الجارمة والخلائق الضارية، وإنما كانت آفته كلها الطبع المغلوب لا الطبع الغلاب، أو كان يصدر في سيئاته كلها عن إشفاق وتوجس لا عن اقتحام وصولة، ولم تحص عليه سيئة واحدة تخرج عن هذا الطراز من السيئات.
فأشهر أخطائه المسجلة عليه هي حادثة إسكس، ومسألة الرشوة واتضاعه الشائن لاسترضاء بكنجهام.
وفي حادثة إسكس كان الباعث الأكبر له هو الإشفاق من إغضاب الأقوياء، واغتنام الفرصة لبلوغ الرجاء، ويساق له مساق العذر أنه يتقيد بخدمة صديقه وحده حين أحسن إليه هذا بالوصايا والهبات، بل صارحه بأن الوفاء له على سنة رجال القانون يقتضي العدل في الوفاء للدولة والتاج وأقطاب البلاد، فكتب له من بداية الأمر رسالة يقول فيها:
مولاي! إني أرى أنني أدين لك بالوفاء، وأضع يدي على أرض من هبة يديك، ولكن أتعلم يا مولاي كيف يجري عهد الوفاء في عرف القانون؟ إنه يكون أبدا برعاية الولاء للتاج ونبلائه الآخرين، ومن ثم لا يسعني يا مولاي أن أكون لك أكثر مما كنت ...
ثم يساق له بعد هذا مساق العذر أنه حذر صديقه من ولاية أيرلندة ؛ لأنها تبعده من البلاط وتمهد لأعدائه سبيل الوقيعة بينه وبين الملكة في غيابه، ولا أمل له في إخضاع الأيرلنديين المتمردين؛ لأنه سيلقى منهم ما لقيه يوليوس قيصر من الغاليين والبريطان والجرمان ... قيل: إنه نصح له بهذه النصيحة ثم أنس منه الرغبة الشديدة في الولاية، فأدركته طبيعة الإشفاق أن يفقد مودة الرجل وحسن ظنه، فعدل عن التحذير إلى الإغراء، وكتب له يقول: إنه لكفيل بتمدين هؤلاء المستوحشين، كما تمدن المستوحشون من قبل على أيدي قادة الرومان!
ومهما يكن من الشك في إزجاء النصيحة الأولى، فالذي لا شك فيه أن باكون سعى في الصلح بين الملكة وصديقه، ثم عالج ما استطاع أن يثنيه عن عزمه على حمل السلاح، وإكراه الملكة عنوة في ميدان القتال، ثم كان له أمل - بل كانت له ثقة - في عفو الملكة عن ذلك الصديق، لما ذاع وشاع بين الخاصة والعامة من إعجابها به وإعزازها إياه.
أما الرشوة فقد كانت شائعة بين قضاة زمانه، وكانت كالهدايا التي يتبادلها أصحاب المصالح المشتركة، وإن لم تكن مباحة في القانون، ويساق له مساق العذر كما قدمنا أنه كان يحكم بالعدل ولم يثبت عليه حكم واحد بالظلم مع ثبوت الرشوة عليه في نيف وعشرين قضية.
وأضعف ما يعاب به خنوعه المزري للورد بكنجهام، حين نمى إليه أنه غاضب عليه، فذهب إلى قصره يومين متواليين، ولبث طوال الوقت في حجرة الانتظار بين الخدم والأتباع، وارتضى لنفسه وهو شيخ وقور وموظف من أكبر موظفي الدولة، أن يخر على ركبتيه أمام الفتى المتعجرف؛ ليهوي على قدمه فيقبلها ... ويقسم لا ينهض من مجثمه الذليل حتى يسمع من اللورد كلمة الغفران! وكل ذلك؛ لأن اللورد بكنجهام كان يبحث لأخيه عن زوجة غنية، فوقع اختياره على بنت إدوارد كوك منافس باكون القديم، ورضي الأب ونفرت الأم من هذا الزواج، فأعان باكون الأم على زوجها وأوعز إلى النائب العام أن يؤيد حقها، ثم اتصل به أن هذا القران «المالي» يهم اللورد بكنجهام أقرب المقربين إلى الملك جيمس وصاحب الكلمة النافذة في البلاط، فأسرع إلى الزوجة ينفض يديه من مساعدتها، ويبلغها أنه لا يستطيع شيئا في قضيتها، وتراجع في قراره وأوعز إلى النائب العام بالتراجع في دعواه، ثم لم يكفه هذا التكفير عن خطئه، حتى أمعن في التذلل والخنوع ذلك الإمعان المهين.
ومن الإنصاف لباكون أن نذكر له فضله على أبناء عصره في أخلاقه الوطنية أو أخلاقه الدستورية، فإن الرجل لم يكن خاضعا لآداب عصره، في كل شعبة من شعب الأخلاق، وكل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، وكان على قدر خضوعه لآداب العصر في مسائل البذخ والطمع رجلا ممتازا على الكثيرين من معاصريه في الآداب الوطنية، أو الآداب الدستورية كما نسميها في العصر الحاضر. فلم تمنعه مداورته الفطرية أن يتحرج أشد الحرج من المساس بحقوق المجلس النيابي في صميمها، وكل ما صنعه لمرضاة البلاط لم يتجاوز حدود المجاملة بالصيغ والعبارات، أو حدود المراسم والتحيات، فلما شرعت الملكة في طلب المزيد من الامتيازات والحقوق المالية على أثر المؤامرة الأسبانية التي كشفت في إسكوتلاندة كان باكون معارضا لهذا الطلب، وكانت معارضته المفحمة سببا لتراجع اللوردات في اللحظة الأخيرة، وظلت الملكة غاضبة عليه من أجل ذلك طوال حياتها، وإن أطعمته بالرضى بين حين وحين.
ولما حل جيمس أول مجلس نواب جرى انتخابه في زمانه، وأراد أن يكل تقدير الضرائب إلى لجنة عليا، يشترك فيها باكون وبعض زملائه، لم يتوان باكون عن النصح له بالتريث والعدول عن هذا الخاطر الوبيل، وقد يقال على الجملة: إنه أسدى إلى البلاط في مسائل الدستور نصائح شتى لعلها كانت مجدية في اتقاء الثورة، التي تراءت نذرها في ذلك العصر لو قوبلت بالإصغاء والقبول.
وقد عرف له الناخبون هذا الفضل، فأعادوا انتخابه في كل مجلس من دوائر كثيرة في المدن والأقاليم، وعرفه له النواب فمنحوه حقا تفرد به بين كبار الموظفين في زمانه، وذلك هو حق البقاء في المجلس مع قيامه بمنصب النائب العام، وتحريم ذلك على من يلي هذا المنصب بعده من النواب.
وعلى كل هذا كان زملاؤه النواب أحيانا يجهلون ما يعلم، ويقصرون عن النظر إلى العواقب التي يلمحها من بعيد، فأحبطوا سعيه في التوحيد بين إنجلترة وإسكوتلاندة، على الرغم من ذلك الخطاب الطنان الذي ألقاه عليهم في أوائل سنة 1607، واشترك النواب ورجال البلاط في إحباط سعيه للتوفيق بين العرش والأمة، وحسم مادة النزاع الدائم على الامتيازات والضرائب والإتاوات. وكان قد اقترح لحسم هذا النزاع أن ينزل الملك عن حقوقه الإقطاعية، وأن تخصص له الدولة من خزانتها مائتي ألف جنيه كل عام، وهذا هو الأساس الذي تم عليه الاتفاق والتوفيق بعد فوات الوقت ونزول القضاء، ولكنهم جهلوه واستخفوا به في حينه وأبوا إلا التورط في الجرائر، التي حاول أن يعفيهم منها وهم من حوله صم بكم لا يفقهون.
ومن عجائب التناقض في أخلاق هذا «الفيلسوف» أن حماسته الوطنية، كانت تغلب حماسة ذوي الحق الأول فيها على الأقل في مسائل الفتوح والمطامع الخارجية. فكانت سياسته وطنية غالية يوم كان الملك جيمس يمضي على نهج السياسة العالمية، كلما طرأت له علاقة بالدول الأخرى، وسر ذلك أن باكون كان يعتقد - كما نرى في مقالاته - أن الدول لا تستقر لها سيادة بغير النزعة العسكرية، وأن ولاة الأمر مطالبون بإحياء هذه النزعة، والتحريض عليها، وإلا ركنت الأمم إلى السلم والدعة وشاع فيها الجبن والتفريط، وانتظرت ساعة الهزيمة والخضوع، وإن طال بها أمد الانتظار.
وإذا أشار مرة بالمسالمة والتحكيم، فإنما يشير بذلك أهبة للنزال والقتال، فاغتنم فرصة التمهيد للمصاهرة بين الأسرتين الإنجليزية والأسبانية، وبنى على ذلك خطة دولية رفعها إلى الملك لجمع الدول المسيحية إلى حلف عام، وتوحيد كلمتها على مرجع واحد للتحكيم، والتأهب بعد ذلك لمقاتلة الترك، وتجديد الحروب الصليبية، وكان من المعجبين بالترك؛ لأنهم أمة حرب يشبون ويشيبون في ميادين القتال، فكان يوصي بمناجزتهم وإحياء روح الشجاعة بمساجلتهم، كما يتصدى الأقران للأقران في ساحة الصراع.
ولا ينبغي أن يفهم مما تقدم أن حماسته الدينية أو المذهبية تضارع حماسته الوطنية أو القومية، فإنه في الواقع إنما أوصى بهذه الخطة؛ لأنها خطة وطنية تؤدي إلى سيادة قومه على القارة الأوروبية، وقيادتهم للدول الأخرى في سياستهم الخارجية، كما تؤدي إلى إحياء حافز الحرب في طباعهم، وهو عنده ضرورة من ضرورات السيادة والاستعلاء.
أما في الدين فقد كان أقرب إلى الفلسفة منها إلى الغيرة الحماسية، فكان على نشأته في أسرة من المتطهرين المتنطسين يميل إلى الاعتدال بين المذاهب، ويرى لكل مذهب محاسنه ومواضع نقصه، وكان إذا اشتد في محاربة مذهب منها، فإنما يشتد في ذلك لمحاربة السلطان الأجنبي والدسائس الخارجية، فحارب الأساقفة والكرادلة؛ لأنهم أتباع البابوية وأشياع الدولة الأسبانية، كأنه يعرف العداء في سبيل الوطن، ولا يعرف العداء في سبيل الدين.
وليس في هذا ولا ذاك عجب إذا رجعنا بهما إلى أسباب عصره، فإن حرية البحث التي غلبت على عقول المفكرين في عصر الرشد كانت تصد العقول عن مذهب التنطس، والغلو في تقديس النصوص، وتجنح بها إلى قبول المحاسبة في العقائد الموروثة وكف الحماسة عن تقييد الفكر والضمير، وبين هذه الحرية وبين الحماسة والغلواء حائل لا غرابة فيه.
أما عصر الغلبة والفتوح وارتياد البحار والأمصار، فهو عصر الفخر الوطني لطلاب الفخر في كل شيء، وهو عصر النعرة الوطنية ومجد الأفراد والأقوام، فلا يمنع الفيلسوف أن ينشد المجد لأمته، ويفخر مع الناس بفخر وطنه، وبخاصة حين يكون المجد والفخر طلبة العلية والسواد، وبغية العلماء والجهلاء أجمعين.
ومفصل القول في أخلاق باكون أنه كان ابن عصره في كل ما ينحو به إلى الفخر والوجاهة والخيلاء، وكان مدينا لعصره بهذه الغيرة الوطنية، وإن سبق المعاصرين فيها بالنظر الصائب والرأي الحصيف، وكان مدينا له بحب الاستطلاع والهيام بالمجهول، وكلتا الخصلتين مما يحسب لعصره دينا عليه.
ولكنه لم يكن باكون العظيم بهذا ولا بذاك، وإنما كان عظيما بالشيء الذي لا يستمده من العصر ولا يضارعه فيه جميع المعاصرين، وذاك هو العقل القدير وأمانة التفكير.
رسالة باكون
كل رسالة في عالم الفكر أو الروح، فهي رسالة توكيد وتقرير أو رسالة توسيع وتحويل، ويندر جدا أن نرى في عالم الفكر والروح رسالة ابتداء وابتداع لم يسبق لها تمهيد طويل.
ونزيد هذه الحقيقة توضيحا، فنقول: إن الرسالات الفكرية أو الروحية تسبقها رسالات من قبيلها تتناول أطرافها ومبادئها، وتهيئ الأذهان لانتشارها والتوسع فيها، فكل رسالة كبيرة فهي بمثابة كتاب من أجزاء متعددة تترقى من البداية إلى النهاية جزءا بعد جزء ودرجة بعد درجة، ولم يحدث قط أن رسالة فكرية أو روحية تعم الإنسانية ولدت فجأة، أو خلقت خلقا بغير سابقة تمهد لها الطريق وتهيئ لها الأذهان.
ورسالة باكون ليست بدعا بين جميع هذه الرسالات الفكرية.
فالذين يطلبون منه أن يقول شيئا لم يقله أحد من قبله، أو يقتحم طريقا لم يسبقه الرواد إلى سلوكه، إنما يطلبون منه أن يكون فردا بغير مثيل في عالم الفكر والروح، أو يطلبون بدعة ليس لها في العالم نظير؛ لأنها بدعة الطفرة التي قيل بحق: إنها محال.
وتتلخص رسالة باكون في غرضين هما تحويل العلم إلى منفعة بني الإنسان، وإقامة العلم على أساس الاستقراء بعد قيامه زمنا على أساس التقدير والقياس؛ لتفسير الطبيعة وتسخيرها بمطاوعة قوانينها، لا بفرض الأحكام السابقة عليها وجهلها تلك القوانين.
وكلا هذين الغرضين لم يبدعه باكون في زمانه كل الإبداع، بل جاء عمله في كل منهما بعد تمهيد وارتياد واستطراد.
فالانتفاع بالعلم في الحياة هو الخطوة الكبرى التي خطاها عصر النهضة كله يوم فرق بين اللاهوت والفلسفة، وبين علوم الآخرة وعلوم الدنيا، ويوم عرف الناس أن العلم كله لا يدور على ما بعد الموت، وأن علم السماء نفسه يعود بنا إلى الأرض؛ لنعرف منها ما لم نكن نعرفه ونحن على متنها وبين فجاجها ... وذاك علم الفلك وأثره في هداية الناس إلى حقيقة الأرض، قد سبق عصر باكون رائدا في طريق المعرفة الدنيوية، ورجح في منافعه بجهود رواد كثيرين.
فكان من آثار حقائق الفلك والجغرافية أن علم الناس بكرية الأرض، وخرج الرواد غربا يطلبون الشرق السحيق، فكشفوا القارة الأمريكية، وكشفوا الطرق التي تقاربها وانتفعوا بالعلم السماوي أكبر المنافع الأرضية أو المنافع الدنيوية، وأصبحت علاقة المعرفة بالمعيشة، وعلاقة الفكر بمصلحة الجسد شيئا محسوسا يجري في الضمائر مجرى البداهة المحفوظة، وينتظر اللسان الذي يفهم عنه والداعية الذي يقرره في صيغة المذاهب والدراسات.
مما نرجحه نحن أن رسالة باكون بغرضيها معا موصولة بهذه الواقعة العظمى في تاريخ الأرض والسماء.
فقد أسلفنا أن رسالته تشتمل على غرضين هما انتفاع الإنسان بالعلم، وإقامة العلم على أساس الاستقراء، بعد قيامه زمنا على أساس القياس.
وقد كان مذهب أرسطو يخالف مذهب كوبر نيكوس في دوران الأرض، ومركزها من أفلاك السماء، فإذا كان دوران الأرض وشكلها «الكري» قد ثبت للعيان بالخبرة والاستقراء، فالخاطر الأول الذي يرد على الذهن أن القياس عرضة للخطأ، وأن اختبار الواقع هو أوجز طريق إلى العلم الصحيح.
وهذا هو ابتداء الثورة على تفكير أرسطو بالحق وبغير الحق على السواء، ونقول: «بغير الحق» لأن القياس في عرف أرسطو هو باب من أبواب المعرفة يحتاج إلى التكميل والإتقان، وليس هو المعرفة التي تطوى فيها جميع المعارف الإنسانية كما وهم بعض الجامدين من شراحه وتابعيه، وإن أرسطو نفسه لعلى استعداد لأن يقول مع باكون: «إن القياس فروض والفروض كلمات والكلمات رموز وخواطر، فإذا التبست الخواطر فالبناء الذي يقوم عليها مضطرب الأساس.»
نعم إن أرسطو لعلى استعداد لأن يقرر في هذا المعنى ما قرره باكون بنصه وحرفه، وقد قرر ما يماثله وهو يبني قواعد المنطق السليم، ويفرق فيه بين المنطق الأعوج والمنطق المستقيم، واعتمد على الاستقراء قبل اعتماده على القياس في مراقبة الأحياء وتمحيص الأخلاق، فكان واضع علم «البيولوجي»، وعلم «السيكولوجي» غير مدافع بين الأقدمين، ولم ينشأ بين المحدثين من أقام هذين العلمين على أساس أصح من أساسهما القديم.
ومهما يكن من أثر الكشف الأمريكي، أو مذاهب الفلك والجغرافية في الثورة على أرسطو، وأسلوب القياس، فالواقع أن خطوة باكون الطويلة في هذا السبيل، قد سبقتها خطوات قصار كان مقدورا لها أن تنتهي إلى هذه النهاية في وقت من الأوقات.
وجاءت الخطوة الأولى من أرسطو قبل غيره، فإنه لم يجزم قط بكفاية التفسير الذي فسر به نظام الأفلاك، ولا بصواب التقسيم الذي اتخذه للمدارات العلوية، بل قال: إنه تقسيم يوافق المشاهدات في زمانه، وقد يهتدي العقل إلى تقسيم أوفق منه إذا انكشفت له مشاهدات أخرى، وكان أساتذة جامعة باريس في القرن الرابع عشر ينكرون آراء أرسطو في علم الفلك، كما ينكرون أصول الحركة التي بني عليها تقسيم الأفلاك والمدارات، وتقدمهم في ذلك بعض أساتذة أكسفورد، الذين تلقوا علوم العرب في المدارس الأندلسية، وقد قال البارون كارادي فو
Baron Cara De Vaux
في الفصل الذي عقده على تراث الإسلام في الرياضة والفلك: «إن هؤلاء العلماء كانت لهم عقول طليقة مولعة بالبحث عن الحقيقة، فلم يحجموا عن نقد بطليموس، وصرحوا مع ابن رشد بمناقضتهم لمذهب تداخل الأفلاك وتركزها، وإيثارها لما هو أبسط وأقرب إلى الطبيعة، وقرر البيروني آنفا أن النظريات الفلكية كلها نسبية، وأنه في الوسع كما قال ارستراخس الساموسي وسليقس البابلي قبل كوبر نيكوس بألفي سنة، أو كما قرر بعض الهنود في زمن لا يبلغ هذا المبلغ من القدم، أن تنسب دورة النهار والليل إلى حركة الأرض حول محورها، وأن نجعلها تدور حول الشمس في الفضاء.» •••
فمن المفروغ منه إذن أن باكون لم يكن أول من علم الناس منفعة العلم في خدمة الإنسان، ولا أول من أقامه على أساس التجربة والاستقراء، ولا يقدح ذلك في فضل رسالته؛ لأن أصحاب الرسالات الفكرية جميعا يصدق عليهم ما يصدق عليه.
وحسبه فضلا أنه عرف الحقائق التي عرفها غيره، ولكنه هو وحده قد اهتدى إلى الموضع الحري منها بالتوكيد والتقرير، وبشر بالفكرة التي يستدعيها الزمن الحاضر والزمن المستقبل من بعده، وكانت بحق طليعة الكشوف المتوالية في العلم الحديث.
ومما لا شك فيه أن باكون بالغ في تعزيز غرضيه، كما يبالغ أصحاب المذاهب جميعها في ترجيح مذاهبهم، وتغليبها على سواها.
فمن الناس اليوم من يتردد كثيرا في القول مع باكون بأن المنفعة غاية المعرفة الإنسانية، وأن الأقيسة مضلة للعقل في تيه الفرض والتخمين.
ولكن توكيد هذين الغرضين في زمان باكون كان من ألزم الأمور؛ لأن الإفراط في إهمالهما كان مدعاة للإفراط في ذلك التوكيد، ويحتاج المرء لا جرم إلى رفع الصوت طويلا حين يطول الإعراض وتصدف الأسماع.
وقد كان الناس يحتقرون الانتفاع بالعلم؛ لاعتقادهم أن الآخرة هي محور كل علم، وأن الزهد في الدنيا هو صبغة العلماء، ومنهم من يدين في ذلك بمذهب بعض الفلاسفة النساك، الذين لا ينظرون إلى الزهد من ناحيته الدينية، وعلى رأسهم فيلسوف المتقشفين فيثاغوراس الذي ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، فإنه على اشتغاله بالسفارة السياسية كان يرى أن حياة التأمل هي حياة السعادة والكمال، وأن أفضل الناس لا يكونون من أهل البيع والشراء، ولا من السابقين في المضمار والميدان، ولكنهم هم المفكرون والمتأملون ... وعلى هذا القول يجيب باكون فيقول: إن الدنيا مسرح لا يملك الإنسان أن يتفرج عليه؛ لأنه هو اللاعب فيه، وإنما يقف منه موقف المتفرج ملائكة السماء.
فمن الزهد إلى مزج العلم بالدنيا مرحلة لا غنى فيها عن التوكيد والمبالغة، وهذه هي المرحلة التي كتب على باكون أن يتحول بالأجيال الإنسانية إليها، وأن يبالغ في النداء بها كما يبالغ كل مناد على الضالين في الطريق.
فجعل هجيراه أن يقرر غرضا واحدا للمعرفة الإنسانية، وهو تسخير الطبيعة وتوجيه قوانينها إلى مصالح الجماعات والأفراد، وكان يقول في شيء من السخر: إن المعرفة ليست بالقنبرة التي تعلو في طباق الجو لتهتف وتغني، ولا تصنع شيئا غير الهتاف والغناء، ولكنها هي الصقر الذي يحلق في الجو ليرى موقع الفريسة، وينقض إلى الأرض بين حين وحين.
وقد أشار ببناء البيوت العلمية للبحث عن قوانين الطبيعة، وخصائص المادة في البر والبحر والهواء، وأغوار الأرض وأجساد الأحياء، ووصف في كتابه «طوبى الجديدة» أو أطلانطي الجديدة بيتا من هذه البيوت سماه بيت سليمان، ويعتبره مؤرخو العلم قدوة لمعامل العصر الحديث المعنية بالتحليل والتطبيق، ومثالا للمجامع أو الأكاديميات الحاضرة تحتذيه، ولا تتجاوز المقاصد التي رسمها في ذلك الكتاب.
وسبيل الوصول إلى ذلك عنده هو إحصاء المشاهدات العامة، والانتقال بها من طبقة إلى طبقة في التخصيص والتوحيد، حتى ننتهي بها إلى جامعة واحدة تجمعها فيما يسميه ال
form
أي: النمط أو السنة أو النوع، وعنده أن هذه الأنواع معدودات لا تتجاوز العشرات، وهي كما يسميها أبجدية الطبيعة التي تنحصر فيها حروفها، وإن تعددت كلماتها حتى بلغت الألوف وعشرات الألوف.
ولا يرى باكون بداهة أن إحصاء المشاهدات جميعا مستطاع، أو لازم للوصول إلى تقرير النمط أو السنة أو النوع، فالاختيار هنا - على نظام من النظم المطردة - ضرورة لا محيص عنها للباحث عن حقائق العلوم من وراء المشاهدات، وإلا كان - على حد قوله - كمن يحاول أن يحوش الصيد في أرض فضاء بغير حدود، أو بغير حيز مسدود.
وطبقات الحصر والغربلة عند باكون تسمى بالجداول، وهي ثلاثة: الجدول الأول، وهو يشتمل على الأشياء التي بينها وجوه مشابهة في عوارض الظاهرة الطبيعية، التي يراد البحث عنها، والجدول الثاني وهو يشتمل على الاختلاف بين تلك الأشياء، والجدول الثالث وهو يشتمل على المقارنة بين درجات الاختلاف زيادة ونقصا، وقوة وضعفا؛ ليعرف الباحث من الزيادة في بعض العوارض والنقص في بعضها أين يتجه السبب الصحيح، وتكمن العلة الحقيقية، فإذا تساوى سببان في القوة والبروز، فسبيل باكون في هذه الحالة أن يرجع إلى ظاهرة أخرى لعله يصيب فيها أسبابا مقابلة ترفع اللبس، وتدل على معالم الطريق؛ ولهذا يسميها أسباب المعالم؛ لأنها تقف على المفترق وتشير للسالك إلى مسلكه، حيث يلتبس عليه طريقان أو أكثر من طريقين.
وقد ضرب المثل بالحرارة في الجزء الثاني من كتاب القانون على طريقة المقارنة والاستثناء، فقال بعنوان: «المثل على الاستثناء والرفض من طبائع نموذج الحرارة». (1)
فيما يتعلق بأشعة الشمس تستثنى طبيعة العناصر (يريد العناصر الأربعة المعروفة عند الأقدمين). (2)
فيما يتعلق بالنار الشائعة - ولا سيما النار الباطنية في جوف الأرض، وهي أبعد ما تكون وأشد تفرقا عن الأجرام السماوية - تستثنى الأجرام السماوية. (3)
فيما يتعلق بالسخونة التي تسري من مقاربة النار إلى جميع الأجسام على السواء - كالمعادن والخضر وجلود الحيوانات، والماء والزيت والهواء وغيرها - تستثنى الأنسجة الدقيقة، والتركيب المميز في الأجسام. (4)
فيما يتعلق بالحديد الملتهب وغيره من المعادن، التي تعطي الأجسام الأخرى حرارة، ولا تفقد شيئا من وزنها ومادتها - يستثنى الانتقال أو المزج من مادة جسم آخر فيه حرارة. (5)
فيما يتعلق بالماء الغالي أو الهواء الحار أو يتعلق بالمعادن والأجسام الصلبة، التي تتلقى الحرارة ولكن إلى ما دون درجة الاتقاد والاحمرار، وتستثنى الإضاءة واللمعان. (6)
فيما يتعلق بأشعة القمر وغيره من الأجرام العلوية عدا الشمس، تستثنى كذلك الإضاءة واللمعان. (7)
بالمقارنة بين الحديد المتقد ولهيب روح الخمر، حيث يظهر أن الحديد أكثر حرارة وأقل لمعانا، وأن روح الخمر أقل حرارة وأكثر لمعانا - تستثنى كذلك الإضاءة واللمعان. (8)
فيما يتعلق بالذهب المتقد والمعادن الأخرى، التي اختصت بأعظم مقدار من الكثافة على الجملة تستثنى الخفة. (9)
فيما يتعلق بالهواء الذي يحس أحيانا باردا مع خفته، وقلة كثافته تستثنى كذلك الخفة. (10)
فيما يتعلق بالحديد المتقد الذي لا يتضخم حجمه، ويظل في حدوده الأولى تستثنى حركة الجسم الموضعية أو الامتدادية في الجملة. (11)
وكذلك تستثنى حركة الجسم الموضعية أو الامتدادية فيما يتعلق بالهواء المحفوظ في الأوعية الزجاجية، حيث يتمدد ولا ترتفع درجة الحرارة فيه. (12)
فيما يتعلق بسهولة إحماء الأجسام بغير تلف أو تغير ملحوظ، تستثنى طبيعة التلف أو الاتصال العنيف بطبيعة أخرى. (13)
فيما يتعلق بالاتفاق والتطابق بين الآثار المتشابهة، التي تؤثرها الحرارة أو البرودة، تستثنى حركة الجسم في الجملة سواء كانت امتدادية أو انقباضية. (14)
فيما يتعلق بالحرارة التي تتولد من تماس الأجسام، تستثنى الطبيعة الأساسية أو الأصلية، وأعني بالطبيعة الأساسية أو الأصلية تلك التي توجد في الأشياء مستقرة فيها، ولا تنتقل إليها من طبيعة غريبة عنها.
وهناك طبائع أخرى غير ما تقدم؛ لأن هذه الجداول إنما قصد بها التمثيل، ولم يقصد بها الحصر والاستيفاء.
وجميع هذه الطبائع التي ذكرت فيما تقدم ليس لها نمط الحرارة، ويتحرر الإنسان منها جميعا في تجارب البحث عنها ... •••
ذلك مثال لأسلوب باكون في المضاهاة والمقابلة بين العوارض المثبتة، والنافية لإقصاء الأسباب الوهمية، والنفاذ إلى الأسباب الصحيحة التي تعلل بها كل ظاهرة طبيعية.
وهي خطوة تسبقها في رأيه خطوة لازمة لإعداد الذهن، وإبرائه من عوائق البحث الصادق والملاحظة الرشيدة، أو تخليصه من تلك الآفات التي اصطلح باكون على تسميتها بالأوثان
Idols ، وعنى بها العقائد والموروثات التي تنحرف به عن قصده، وتميل به إلى السخف والضلالة.
وقد أطلق عليها ألقابا مجازية على طريقته في المزج بين صيغة العلم وصيغة البلاغة، وسماها (1) أوثان القبيلة و(2) أوثان الكهف و(3) أوثان السوق و(4) أوثان المسرح، وهي تطوي في هذه العناوين الأربعة كل ما هنالك من بواعث الخطأ والانحراف. (1)
فأوثان القبيلة هي نزعات العقل الطبعية، التي تصور الأشياء على صورة سابقة لا برهان عليها من التجربة والمشاهدة، كميل الأقدمين إلى القول بدوران الأفلاك في دوائر كاملة كالتي يرسمها المهندس بالبركار، ولا مسوغ من التجربة ولا المشاهدة لهذه الصورة الشائعة في العقول، أو كميل الأقدمين إلى القول بأن نسبة الكثافة في العناصر المزعومة كنسبة عشرة إلى واحد، أو كاستراحة العقل إلى صورة من الصور، وتطبيق كل شيء عليها واجتهاده في لي الحقائق لموافقتها معرضا عما يخالفها، أو ينبهه إلى خطئه في الاستراحة إليها، وهذه الأوثان - أوثان القبيلة - مما يفسر لنا ولع الإنسان بالعيافة والتطير، وتصديق الخرافات والأكاذيب الملفقة من خداع الحس أو الخيال. (2)
وأوثان الكهف هي خلة القصور، التي يمنى بها الفرد على حدة من جراء الوراثة أو النشأة، أو علل الفطرة التي فطر عليها، فما من إنسان إلا وهو محصور في كهف من هذه الكهوف يأوي إليه، ولا يأذن بطروقه إلا لما يوائمه من الخواطر والأحاسيس والمذاهب الفكرية، وتشمل هذه الأوثان خصائص الأمزجة كمزاج العالم، ومزاج الفيلسوف، ومزاج الناشد ومزاج الفنان ومزاج الصانع، وكل منها مطبوع على إدراك الأمور من جانب من الجوانب، والإعراض عنها إذا قابلته من غير ذلك الجانب، وفيهم السريع إلى التصديق، أو السريع إلى الشك والمعتدل أو المفرط في الشعور. (3)
وأوثان السوق هي شر هذه الأوثان؛ لأنها تلحق الأفكار بالكلمات التي جرت على ألسنة العامة، وتداولوها بغير تمحيص ولا اقتدار على الفهم الدقيق. ومتى اجتمع الناس كما يجتمعون في السوق فهم يتبادلون الأفكار بألفاظ لم توضع للدرس والعناية بالحقيقة، وإنما وضعت للمقايضة والمساومة، والتفاهم على سفساف الأمور. فلا مناص في هذه اللغة من التشويه والاختزال. (4)
وأوثان المسرح قد تسربت إلى عقول الناس من قضايا الفلاسفة، وأخطائهم في القياس والاستدلال، فهذه النظم الفلسفية والمذاهب العقلية التي تلقيناها عن الأقدمين إن هي إلا عوالم مسرحية، كعوالم الروايات التي يخلقها الشعراء للتمثيل. ومن الأساليب التي ألحقها باكون بأوثان المسرح أسلوب أرسطو، الذي يصوغ القواعد على حسب الأقيسة، ثم يبحث عن مصداقها في ظواهر الطبيعة، وأسلوب أفلاطون الذي يجعل العالم المحسوس تابعا للعالم المتخيل قبل وجوده، وأسلوب جلبرت الذي بنى على تجاربه في المغناطيس فلسفة واسعة تحيط بالعالم كله، وأسلوب الكيميين والتجريبيين الذين سبقوا باكون إلى مذهب التجربة، ولم يقيموه على أساس، ولم يتخذوا له الحيطة من الخطأ والالتباس.
فإذا انطلق الذهن البشري من عقال هذه الأوثان الأربعة، وقارب الظواهر الطبيعية على ذلك النحو الذي انتحاه باكون من المضاهاة والمقابلة، والتخصيص بعد التعميم، فهو على ثقة من إصابة الهدف وتسجيل الحقيقة، فهذه الطريقة على أهون ما يصفها به باكون هي كإبرة المغناطيس للملاحة، ولا تكشف الإبرة الفكرية لهداية العقل والحس في بحار الأفكار ... وهذه العبارة وأشباهها من كلام باكون هي بعض الأدلة على الأثر العظيم، الذي كان للكشف الأمريكي في تفكيره ومعيشته، وصوغ مذهبه وتقرير نظرته إلى العلم ومقاصد المعرفة الإنسانية. فأثر العلم في فتوح الملاحة شاخص بين عينيه في كل ما كتب وما تخيل، وكتابه عن «طوبى الجديدة» إن هو إلا محاكاة لرحلة كولمبس في عالم المجهول للعبور إلى شاطئ المعرفة والحكمة المتمناة. •••
ويعتقد باكون أن اجتناب تلك الأوثان، واتباع تلك الوصايا كفيلان بتمكين كل عقل من نشدان الحقيقة العلمية، والإفضاء إليها على اختلاف حظوظ العقول من الفطنة والثقافة، كأنه قد زود العقل البشري بمقياس واحد كمقاييس الأجسام التي يتساوى القياس بها في كل يد وكل نظر، وقد سوغ هذا الاعتقاد لنقاد كثيرين أن يرموا أسلوب باكون بالآلية، وتجاهل الملكات العقلية، إذ الواقع أن أساليب البحث بالغة ما تبلغ من الدقة لن تمحو الفوارق بين الذكاء والغباء والحس والبلادة والمثابرة والإهمال، ولن يزال نصيب الألمعي اليقظ الدءوب من التوفيق في البحث عن حقائق العلم، والمعرفة أعظم وأوفى من نصيب الذين لا يساوونه في هذه الملكات، ولكنها على ما أسلفنا مبالغة الدعاة في توكيد ما يبدءون بالدعوة إليه، وزيادتهم التي لا مناص لهم من التفرد بها قبل استقرار المذهب، وبطلان الحماسة النفسية في تأييده والإقناع به، ثم تأخذ تلك الزيادة في النقصان حتى ليخشى أن يندفع المخالفون إلى الغض منه وتهوين شأنه، كما حدث بعد باكون بجيل واحد في وطنه، وفي غيره من الأوطان.
وليس ذلك بالغلو الوحيد في تقرير طريقته، والإنحاء على الأقيسة والقضايا المنطقية وما شاكلها، فإن التعويل على التجربة والإحصاء عند باكون قد سول له أن يستخف بكل معرفة لا تصل إلى الذهن من طريق التجربة والإحصاء، ومن ثم أنكر على كبار الفلكيين أن يطبقوا قضايا الرياضة على علم الفلك، وما يرتبط به من المعارف الأرضية، وهذا مع تسليمه ببعض المعارف التي تدرك بالبديهة كمعرفة الناس مثلا أن أجزاء الشيء لا تكون أكبر منه، وأن إضافة المتساوي إلى المتفاوت ينتج عنه كم لا يتساوى، وما يترقى من هذه الحقائق إلى منزلة القواعد الهندسية، ولكنه كان في انصرافه إلى طريقة التجربة يعطيها من الشأن ما يسلبه من كل طريقة أخرى؛ لأن الدعاة كالعشاق لا يحبون معشوقين على قوة واحدة في المحبة.
وعلى هذا الغلو في تعظيم قدرة الطريقة التجريبية على الوصول إلى حقائق العلم لم يصل باكون إلى قانون علمي ينسب إليه؛ ولهذا شك بعض ناقديه في ملكته العلمية ولم يحسبوه من عباقرة العلم الطبيعي أو عباقرة الاختراع، ولا يدعي أحد لباكون أنه اخترع صناعة أو أنه استكنه سرا من أسرار الطبيعة، وإن كان قد تسلف مبادئ القول بالمذهب الذري في تكوين المادة، وحرارة الأجسام الباردة، وخصائص العناصر المتعددة، ولكن تجريده من العبقرية شيء وقلة مخترعاته العلمية أو الصناعية شيء آخر، فإن ذهنه ولا ريب ذهن لماح بضوء العبقرية الذي لا يخفى، وليس هو من معدن الأذهان التي تفهم ما تفهمه بالدأب دون الطبع أو المحاولة، التي يستطيعها جميع الناس دون الملكة التي تولد مع الإنسان.
وقد أصيب باكون بالخصومة لشخصه ولكتبه، سواء في حياته أو بعد مماته، ولكن الحكم بقلة حظه من الابتكار لم ينحصر في خصومه والمنكرين عليه، بل تعداهم إلى المعجبين به والمعنيين بشرح كتبه، فقال سبدنج
Spedding : إنه لم يخط خطوة واحدة في الطريق التي تقدم فيها العلم تقدمه الصحيح، وإنه كان في بحثه كمن يسلك المتاهة الدائرة، فلا يزال يتأخر كلما تقدم ليفضي إلى وجهته المقصودة. وشك أليس
Ellis
في إمكان الوصول من طريقة باكون إلى أسرار الطبيعة، سواء على يده أو يد غيره، بل تعدى الحكم على حظه من الابتكار نخب المعجبين به إلى ما قاله هو عن نفسه وعن قيمة سعيه، فإنه كان يقول: إنه كمن ينفخ في البوق ولا يخوض المعركة! وقال في كتابه تقدم المعرفة: إنه كالصورة التي تشير إلى وجهة المسير، ولكنها لا تستطيع المسير إليها.
وأفرط الناقدون فزعموا أنه مدين بكل شيء لسابقيه ... أما أنه استفاد من سابقيه كثيرا، فذلك ما لا ريب فيه ولا غرابة ولا هو مما يقال عنه دون غيره من رواد العلوم والآداب، ولكن لا ريب أيضا في أنه «شيء جديد» إلى جانب سابقيه، وأن أشد المنكرين عليه لا يستطيع أن يزعم بحق أن ظهوره وعدمه يستويان، فظهور باكون شيء جديد في تاريخ الحركة الفكرية ما في ذلك جدال، ولا يطلب من المبتكرين المفيدين في تاريخ هذه الحركة أثر غير ذاك، على تفاوت الآثار في القوة والمقدار.
ويحضرنا هنا خاطر عبر بنا في صدد الكلام على باكون وأسلوبه التجريبي، فحواه أنه اقتدى بعلماء العرب في تنظيم هذا الأسلوب.
والذي لا نشك فيه أن سلف باكون وسميه روجرز باكون قد كان يقتدي بعلماء العرب، ويصرح بذلك في مصنفاته ومحاضراته، وأن فرنسيس باكون قد استفاد من سلفه وسميه، كما استفاد علماء الإنجليز جميعا بعد القرن الثاني عشر من ذلك القس الغيور على أمانة العلم والتفكير، وقد أشار باكون في كتابه «طوبى الجديدة» إلى العرب، وذكر فيه بعض الأسماء العربية، ولكننا لم نجد في كتبه كلها دليلا على استفادة مباشرة من مطالعة الكتب العربية المترجمة إلى اللغات الأوروبية، وكل ما استفاده من هذه الكتب، فهو منقول من المصادر الأخرى كما ينقل التابعون عن السابقين، شاعرين بذلك أو غير شاعرين. •••
ولا يقال: إن باكون «شيء جديد» في تاريخ الحركة الفكرية من قبيل الاعتراف بمكانه الملحوظ في تلك الحركة وكفى، ولكنه «شيء جديد» من قبيل النوع الذي يضاف إليه بين ذوي المكانة الملحوظة في حركات الفكر البشري عامة؛ لأن نوع هذه المكانة مبهم ككلمة «الشيء» التي تشمل كل شيء!
ففي أي طائفة من طوائف رسل الثقافة والمعرفة تسلكه وتستبقيه؟ أهو فيلسوف؟ أهو شاعر؟ أهو عالم؟ أهو مؤرخ؟ أهو فقيه؟ أهو خطيب؟ أهو أديب؟ فيه من كل هؤلاء شيء وليس هو بشيء مستقل بين جميع هؤلاء.
فيه قبس من الفيلسوف؛ لأنه يبحث ويعلل ويعمم ويراجع مذاهب الفلاسفة، ويصحح منها ما يراه موضعا للتصحيح، ولكنه لم يخلق للفلسفة كما خلق لها رجل مثل فيثاغوراس في الأقدمين، أو رجل مثل كانت أو هيوم في المحدثين. وقد تجنب علل الحقائق الأولى وأعفى عقله من الكد في الأصول الأبدية، التي شغل بها الفلاسفة من قديم الزمان، ويشغلون بها إلى آخر الزمان. وأدركه في ذلك ما كان يدركه دائما من حب الدعة، وإيثار للإيمان الذي يرجى الفراغ من بحثه على وجه من الوجوه العملية النافعة، فأسلم عقله للإيمان الديني كما كان يفهمه كل رجل من طبقته في زمانه. ويحسب مؤرخوه أنه فارق الدنيا وهو يظنها بنية تاريخية لا تتجاوز من العمر خمسة آلاف عام، على ما جاء في ظاهر نصوص التوراة.
وفيه قبس من الشاعرية؛ لأنه يتخيل ويأنق للمعاني الجميلة ويستخدم فنون المجاز، ولكنه لم يكن بين الشعراء في طبقة ملتون أو بيرون بل في طبقة دريدن أو بوب؛ لأنه دون هؤلاء في اشتعال النفس وحماسة الروح وجيشان العاطفة، واتساع آفاق الخيال.
وفيه ملكة العالم، ولكنه كما قدمنا لم يكشف قانونا من قوانين العلم، ولم يحاول فيه محاولات العلماء المطبوعين من أمثال باستور وفراداي، وقصارى ما عنده من الملكة العلمية أنه علم المشتغلين بالعلوم كيف يبحثون فيها عن طريقته، وقد يتركون طريقته مع هذا ويبحثون ويوفقون.
وهو مؤرخ أو كاتب في التاريخ والسير، ولكنه لا يدرك في هذا الباب شأو جيبون أو بلوتارك، ولا يزال تاريخه ضربا من التعليقات الفكرية، التي تحيط بكل موضوع من موضوعات الحاضر والماضي على السواء.
وهو فقيه من فقهاء زمانه المقدمين، ولعله في هذا الباب أقرب ما يكون إلى التمام والاستقلال بالقياس إلى فقه ذلك الزمان، ولكنه هو نفسه لم يكن معتدا بمكانته من الفقه، ولم يحفل بنشر قضاياه أو بحوثه القانونية في حياته.
وهو خطيب فصيح اللهجة حسن البيان لا يمل سامعوه الإصغاء إليه وإن أطال، ولكنه لو لم يصنع شيئا غير الخطابة لما بقي له ذكر بين رسل المعرفة والبيان؛ لأن خطبه جميعا طويت قبل موته، ولم تعلق بها ذاكرة أحد من سامعيه في مجلس النواب أو ساحة القضاء.
وهو أديب ولا سيما في باب الكتابة النثرية، وعنده في هذا الباب من الشهرة المستقلة ما يغنيه في تاريخ الآداب، ولكنه مع هذا أكبر من قدرته الأدبية، وأعظم ممن يضارعونه في أصالة المعنى وبلاغة الأسلوب.
فهو «شيء جديد»؛ لأنه يشترك في جميع هذه الأشياء، ولا يستوعب كله في واحد منها، ولا ينتظم مرة واحدة تحت عنوان واحد من هذه العناوين.
مثله في ذلك مثل النخبة القيمة من الجواهر فيها اللؤلؤ والياقوت والزمرد والمرجان وغيرها من معادن الجوهر النفيس، ولكنها لا تلبس جميعا في عقد واحد، وليس في مفرداتها من صنف واحد ما ينضد في حلية معروفة بين الصاغة، وهي مع ذلك قيمة بين الصيارف ما في قيمتها جدال. •••
قلت في تذكار جيتي: «من العبقريين من تعرف مداه بكتاب واحد أو قصيدة واحدة؛ لأنه يرتقى إلى أوجه في بعض أعماله فيأتي بخير ما عنده أو بكل ما عنده، وتصرفه حق عرفانه فلا تحتاج إلى تجربة له بعدها، ولا تصيب في التجربة الجديدة إلا تكرارا لا جديد فيه.» «ومنهم من يعطيك جزءا من عبقريته في كل جزء من كتاباته، فبعضها لا يدل على مداها كلها، وتكرار القراءة فيها ينتهي بك كل يوم إلى جديد، فلا غنى لك عن التجربة لسبر غورها والإحاطة بمداها، والحكم عليها في جميع أحوالها.» «وجيتي من هؤلاء العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم؛ لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد، فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره، كما أن اليوم الواحد في غمار أيامه هو أصغر لا محالة من سنيه الثمانين.»
والذي يصدق على جيتي يصدق على باكون مع اختلاف العبقريتين في المعدن والمحصول، بل هو يصدق على باكون قبل أن يصدق على جيتي لكثرة الأجزاء التي لم تتم في كتبه الكبيرة، ولغلبة المتفرقات على آثاره الأدبية والعلمية والفكاهية، كأنما هي كلها من باب الفصول والشذرات.
أما ذكراه الأدبية اليوم فهي قائمة على المقالات قبل غيرها كما ذكرنا في غير هذا الفصل من الكتاب، وله عدا المقالات كتابان يقرآن ويستعادان للبحث، أو لمتعة المطالعة في بعض الأحيان، وهما الكتابان اللذان عارض بأحدهما أرسطو وعارض بالآخر أفلاطون، وهما القسطاس الجديد أو القانون الجديد
Novum Organum ، وطوبى الجديدة
The New Atlantis .
والقسطاس الجديد - كما يدل عليه اسمه - مقياس جديد يعارض به مقياس أرسطو في البحث عن الحقائق، وتصحيح الأخطاء الفكرية، وهو جزء من الموسوعة الضخمة التي أزمع أن يضم إليها جميع آرائه وتوجيهاته في أساليب البحث، وتمحيص العلوم، ولكنه لم يتمه، وظهر هذا الجزء منه في سنة 1620، وبه يذكر المؤلف بين أصحاب المذاهب والدعوات، ولا سيما الكتاب الأول منه وهو أنفع ما فيه.
وطوبى الجديدة
New Atlantis
هي رحلة خيالية إلى جزيرة سماها «بني سالم » وحكى بها القارة الضائعة، التي ذكرها أفلاطون في أحلام الفلسفة، وقد أوحاها إليه أفلاطون وكولمبس على السواء، وكان من أحلامه أو نبوءاته فيها إشارات سباقة إلى الطائرات والغواصات والتليفون، ومكبرات الصوت والأغذية المركبة، واختراع صنوف جديدة من المعادن والأشجار، وقد تحققت على الوجه الذي نراه اليوم، ولم تتحقق معها إشاراته السباقة إلى الفتوح الأخلاقية والفضائل الاجتماعية، التي خيل إليه أنها مساوقة في غده المنظور لتقدم العلوم والصناعات، ويرى ولز
Wells
الكاتب الإنجليزي المعاصر أن طوبى هذه أعظم خدمات باكون للعلم، وأصدق موحياته لمن اتبعوه في هذه الطريق، وقد نشره باكون قبل موته بسنتين.
ومن كتبه التي تراجع الآن للتنقيب في تاريخ الحركات الفكرية كتابه ترقية المعارف
Advancement of learning ، وهو جزء من تلك الموسوعة الضخمة التي سبقت الإشارة إليها، وقد أدمجه في كتاب باللغة اللاتينية أسماه
De augmentis Seientarium ، وتناول فيه المعارف البشرية من تاريخ وشعر وأخلاق وعلوم طبيعية وسياسية، مرتبا لها أماكنها ومقوما لها قيمها، وجاريا في ذلك على مجراه من تسخير العلوم لمنفعة البشر، وقياس الأخلاق بمقياس هذه المنفعة العامة، واعتبار الغرض الأسمى للسياسة أن تعنى الحكومة بالسيطرة على الطبيعة لا على الناس، تحقيقا للغرض الأخير من جميع المعارف والمساعي والجهود، وهو زيادة المسرة والراحة، ونقص الألم والعناء.
ومن كتبه العلمية التي لا تقرأ الآن إلا للتنقيب عن الآثار الماضية كتاب
Sylva Sylvarum ، الذي قصره على موضوعات أربعة: هي تاريخ الرياح، والحياة والموت، والكثافة والخفة، والصوت والسماع.
وأطرف كتبه بعد المقالات والأمثال التي ستأتي ترجمة بعضها كتاب ممتع عن حكمة القدماء، نشره في سنة 1610، وحاول فيه أن يفسر الأساطير القديمة تفسيرا يعبر عن غرض من أغراض الحكمة على سبيل الرمز والكناية، وفي مقالاته التالية نماذج منه تدل على سائره، وتغني عن التوسع في نقله.
وقد شغل في أواخر أيامه بالتاريخ، فتوفر على إخراج كتاب عن تاريخ هنري السابع في سنة 1622، ونقلنا في مختاراته شذرة منه تشير إلى منحاه.
ولم يشغله كثيرا أن يذيع آثاره القانونية مع اشتغاله بالقضاء والمحاماة، كأنه كان يهملها ولا يعتمد على سمعتها بين رجال القانون، فنشرت حكم القانون
Maxims of law
بعد موته سنة 1630، ونشرت كذلك طبعة ثانية من كتابه عن تطبيق القانون بعنوان آخر هو «عناصر القانون العام»
The elements the common law .
ولا تعرف لباكون رسالة في عالم العقيدة الدينية، كرسالته في العلم ولا كرسالته المحدودة في السياسة والقانون، وإنما كان الرجل متدينا كثير التلاوة للتوراة والإنجيل كما يؤخذ من كتاباته عامة، ومن مقالاته خاصة، ولم يعن بالكتابة في الشئون الدينية إلا لمصلحة الدولة، وعلاج مشكلات الكنيسة، ومشكلات الحكومة التي ترجع إليها، ولم يزل يتهيب الخوض في الأسرار الدينية، ويحيلها على أربابها من علماء الكنيسة، ويؤثر الدعة واتقاء القيل والقال، ويقارب هذه المسائل وما شابهها من مسائل السياسة، وهو يعلم - كما قال - أن أوضع الملق هو الملق للسواد والغوغاء. •••
ونحسب أننا ننصف الرجل بلسانه، ولا نستطيع أن نجمل القول في رسالته بأصدق ولا أوجز من إجماله حين قال: إنه كالصورة التي تهدي إلى الطريق ولكنها لا تسلكه، وإنه كمن ينفخ في البوق للمناضلين، ولا يقتحم ميادين النضال.
باكون الأديب
هل يعد باكون من أدباء اللغة الإنجليزية؟ قد أجبنا عن هذا السؤال بعض الجواب في صدد الكلام عن رسالته الفكرية.
أما هو فإذا سألناه رأيه فلا شك أنه يسلك نفسه في عداد العلماء والحكماء، بل في عداد الساسة والفقهاء، قبل أن يخطر له الدخول باسمه وعمله في زمرة الأدباء، وأكبر الظن أنه كان يأبى أن يحسب من أدباء اللغة الإنجليزية خاصة؛ لأنه كان على سنة علماء عصره يعول في الكتابة الرفيعة على اللغات القديمة، كاللاتينية واليونانية، دون «هذه اللغات الحديثة» التي تعرض العقل للإفلاس كما قال! وبلغ من سوء ظنه بمصير ما يكتب في هذه اللغات الحديثة أنه عني بترجمة مقالاته إلى اللاتينية، واعتقد أن هذه الترجمة هي التي تبقى له في سجل الأدب الخالد ما خلدت كتابة بين الناس ... فنسيت الترجمة اللاتينية بعد أعوام، وبقيت المقالات الإنجليزية وحدها عمادا لشهرته الأدبية بين جميع ما كتب من أسفار وفصول ومقطوعات.
ورأي باكون في كتاباته - أو في حقها من الشهرة - مثل من الأمثلة الكثيرة على تلك الحقيقة المتواترة التي لا شك فيها، وهي أن الكاتب أو الشاعر ليس بالحجة في نقد نفسه، وإن كان حجة في نقد غيره، فلو كان الكتاب والشعراء لا يستحقون الشهرة إلا بما قدروه وتمنوه لكان أكثر النابهين اليوم من الخاملين المنسيين.
فعلى خلاف رأي باكون في مقالاته يعد ولا جدال من كبار الأدباء الناثرين باللغة الإنجليزية، ولا سيما مقالاته التي ظهرت منقحة في طبعاتها الأخيرة.
ولقد أوشك بعض النقاد أن يرفعوه إلى منزلة ليس يعلوها مكان في عالم الكتابة الإنسانية؛ لأنهم زعموا أنه هو صاحب روايات شكسبير أو صاحب كل ما ينسب إلى شكسبير من منظوم ومنثور، ومن كان كذلك فقد تعدى قدره مرتبة الخلاف على حسبانه من أدباء اللغة الإنجليزية، وأصبح وحده الأديب الأول غير مدافع بين الشعراء والكتاب في جميع اللغات.
أول من زعم هذا الزعم العجيب كان قسا إنجليزيا من أبناء وارويكشاير
Warwickshire
في أواخر القرن الثامن عشر، حوالي سنة 1785 يدعى جيمس ويلموت
James Wilmot .
وكانت حجته وحجة اللاحقين به في زعمه شيوع الترادف بين كتابة باكون، وكتابة شكسبير في مواضع شتى من الروايات والمقالات، وأن تربية شكسبير في صباه لا تؤهله للإحاطة بتلك المعلومات العالية، التي تزخر بها منظوماته ومنثوراته، ولا تفسر لنا كيف سافر في طلب الثقافة الفنية والعلمية إلى البلاد الإيطالية والفرنسية، وهي عادة لم تكن معهودة ولا ميسورة لغير العلية من أبناء السروات والنبلاء.
وتدفع هذه الحجة حجة مثلها في القوة أو تزيد، وفحواها أن باكون على مكانته من العلم والثقافة لم يكن ليخطئ تلك الأخطاء التاريخية، التي ترددت في مصنفات شكسبير، ومن أمثلتها ذكر الساعة الدقاقة في عهد يوليوس قيصر، واستشهاد هكتور بكلمات أرسطو وإشارة كوريولانس إلى كاتو، وغير ذلك من الأخطاء الجغرافية والتاريخية، التي لا يقع فيها المتعلمون بالجامعات.
على أنها حجة لها حجة أخرى تناقضها وتماثلها في القوة أو تزيد!
فقد وقع أدباء الجامعات فعلا في أخطاء كثيرة من هذا القبيل، وألف شاپمان العالم الأديب مترجم هومر إلى الإنجليزية مسرحية عن «متسول الإسكندرية الضرير» في زمن البطالسة، فإذا هو يذكر المسدسات والتبغ وأشجار البلاد الإنجليزية، ويجري اسم الإله أوزيريس على الألسنة متبوعا بالدعاء لله والسيد المسيح!
بل قد أخطأ باكون نفسه مثل تلك الأخطاء التي أحصيت على شكسبير، فقال في الطرائف والأجوبة: «إن تمستوكليس أصاب حين قال لملك الفرس: إن الكلام كمنسوجات أراس حين تفتح وتعرض للأنظار لترى فيها النقوش والرسوم، أما الفكر فهو كتلك المنسوجات، وهي مطوية في الصرر والكارات.»
وأين منسوجات آراس يومذاك في عهد تمستوكليس وحروب الفرس واليونان؟!
فالأخطاء التي يقع فيها المتعلمون أو غير المتعلمين لا تذهب بنا بعيدا في فض هذا الخلاف.
وكذلك تشابه الكلمات والمترادفات لا يذهب بنا إلى أبعد من ذلك الأمد، سواء نظرنا فيه إلى شكسبير وباكون أو إلى غيرهما من المعاصرين؛ لأن العصر الواحد كثيرا ما تسري فيه المصطلحات والصيغ المتشابهة حتى تتكرر بنصها في كلام عشرة من الكتاب والشعراء، ولعلنا نلمس ذلك لمسا فيما تنشره الصحف كل يوم، وما يردده المؤلفون بين حين وحين في كل كتاب.
وكل ما تقدم لا ينتهي بنا إلى الجزم بنسبة الروايات إلى باكون، أو إلى الجزم بنسبتها إلى شكسبير.
ولكننا مع ذلك نجزم كل الجزم أن الروايات لم يكتبها باكون، وكتبها شكسبير دون غيره.
ودليلنا على ذلك طبيعة كل من الرجلين، كما تتجلى معزولة مفصولة في تواليف هذا وذاك.
فروايات شكسبير هي روايات الرجل الذي عاش كما عاش شكسبير، وأحس كما أحس شكسبير، وليست هي روايات باكون الذي لم تضطرب نفسه قط بخالجة من تلك الخوالج المقيمات المقعدات في نفوس الشعراء. وقد صدق كارليل حين قال: «إن كل ما تجده في باكون من الذكاء هو من طبقة دون ذاك: طبقة مادية إذا قيست إليه.» أي: إلى ذكاء شكسبير.
وفي شعر شكسبير ونثره - عدا هذا الفارق - عشرات من الإشارات الشخصية إلى ماضيه وحوادث زواجه، وخصوماته ومنافساته، وعلاقاته ببعض الرجال وبعض النساء، مما لا نظير له في سيرة باكون أو سيرة أحد من معاصريه، فضلا عن لغة الفقراء والعامة، التي تشيع فيمن حوله، ولا تشيع فيمن حول باكون من الخاصة المترفعين قليلي الخلطاء بين جمهرة العوام.
ومن أين مع هذا كان لباكون ذلك الوقت، الذي يتسع لكتابة هذه الروايات وهو مشغول بمناصبه وبحوثه ومساعيه ومطالب عيشه؟ ومن أين له بعد هذا كل ذلك العلم الدخيل بحرفة التمثيل، وأفانين المسرح، وترتيب مواقف الأبطال؟
إن السير هنري أرفنغ
Henry Irving
ثقة في هذا الباب؛ لأنه يحكم فيه حكم الممثل الدارس الخبير، ومن رأيه القاطع الذي استشهد له بكثير من الشواهد «أنه لا يستطيع غير الممثل أن يكتب تلك الروايات».
فأيا كان مقطع القول في هذه القضية، فليس مما يرضاه المؤرخ الناقد أن يجعل روايات شكسبير مناط الحكم على مكانة باكون الأديب، فهو لن يدخل إلى عالم الأدب آمنا مطمئنا إلا بمقالاته وفصوله الأخرى التي تشبهها في السياق والتعبير. •••
وقد كانت له مزية الرائد الأول في هذه المقالات، فإن فن المقالة اليوم في اللغة الإنجليزية فن كامل متقن مستفيض النتاج كثير الكتاب والقراء، ومن الكتاب عندهم من يسمون بالمقاليين؛ لأنهم لا يطرقون بابا من الكتابة غير باب المقالة على نمطها الحديث، الذي وصلت إليه بعد ثلاثة قرون في التعديل والتخصيص، والفصل بين أدب المقالة وغيره من نماذج الآداب. ولكنها قبل هذه القرون الثلاثة لم تكن شيئا معروفا باللغة الإنجليزية، ولم يكن لباكون فيها قدوة مترسمة من الأدباء الإنجليز، وإنما نظر فيها إلى الحكيم الفرنسي مونتين
Montaigne
الذي سبقه إلى نشر مقالاته بسبع عشر سنة، ثم لم يكن بينهما من الوحدة فيها غير وحدة القالب دون سواه.
فمونتين فياض مسترسل كثير الأغراض متعدد الملامح الشخصية، قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون - على دأبه في جميع حالاته - كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز، ودسومة المادة الفكرية، واجتناب الألوان الشخصية، والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه.
ومما يقال في شروط المقالة الحديثة أنها ينبغي أن تكتب على نمط المناجاة، والأسمار وأحاديث الطريق بين الكاتب وقرائه، وأن يكون فيها لون من ألوان الثرثرة والإفضاء بالتجارب الخاصة، والأذواق الشخصية، وهذا هو الشرط الذي لم يستطعه باكون قط في عمل من أعماله الكتابية؛ لأن الجانب الإنساني فيه مكبوح لا ينطلق زمامه يوما من يديه، ولم ينس قط أنه «معلم وقور»، وأنه سائس مسئول، وأنه فقيه مطالب بالسمت والرصانة. ولم يحاول الرجل قط أن يكون غير ما كان، أو أن يخالف بالموضوع ظاهر العنوان، فإنه كتب مقالاته وذكر في عنوانها أنها نصائح مدنية وخلقية، فبر بوعده الذي تضمنه هذا الوصف الوجيز. وصدق من قال في وصف مقالاته - ولا سيما الأوائل منها: إنها أشبه الأشياء بالمذكرات التي يدونها صاحبها للمراجعة، وأقرب الكتابة إلى أسلوب «جوامع الكلم»، وأصول الحكم ورءوس العظات، وخليق بأسلوب باكون في هذا الفن خاصة أن يجلو الفارق العظيم بين سليقته، وسليقة شكسبير في المنظوم والمنثور، فما من صفحة من صفحات شكسبير تخلو من لمحة شخصية، ولون من ألوان حياته الداخلية، وما من صفحة في كتب باكون جميعا تنم على أثر من ذلك إلا بعد جهد جهيد في المراجعة والاستنباط، حتى هذا الفن الذي يتفتح طواعية في قديم الزمن وحديثه للمناجاة، والتبسط بين الكتاب والقراء!
ولم يكن لمقالات باكون أسلوب واحد بل أسلوبان؛ لأنه نشر منها في مبدأ الأمر عشرا (سنة 1597)، ثم زادها إلى ثمان وثلاثين سنة 1612، ثم بلغت بعد التهذيب والإضافة ثمانيا وخمسين في طبعة 1625؛ أي بعد ثماني عشرة سنة من ظهورها لأول مرة.
وقد لاحظ النقاد بحق أنها كانت في صيغتها الأخيرة أحفل بالبلاغة والزخرف وفنون التخيل والتشويق منها في صيغتها الأولى، واستطرد بعضهم من هذا إلى ملاحظة عجلى ليس فيها بصائب؛ لأنه حسب أن هذا الاختلاف بين أسلوب الشباب وأسلوب الشيخوخة ظاهرة مستغربة لا تجري مع المعهود من طبائع القرائح الإنسانية، فإن القرائح في الناس عامة أخصب بالخيال والرونق أيام الشباب، خلافا لما بدا من أسلوب باكون في حالتيه على رأي أولئك النقاد.
ولا حاجة هنا على ما نرى إلى مجاراتهم في اختراع بدعة غريبة من بدع القرائح الإنسانية عامة ، إذ المألوف في الواقع أن يكون الشباب أقرب إلى تكلف الوقار؛ لأنه مظنة الخفة، وأن تكون الشيخوخة أقرب إلى تكلف الخفة؛ لأنها مظنة الفتور والجمود.
وثمة سبب آخر نرجع إليه قبل الوثوب إلى البدع والخوارق التي لا تشاهد في جميع الأحوال.
فمما لا شك فيه أن باكون قد بدأ تجربته الأولى في فن المقالة، وهو مترفع عنه ناظر إليه نظرة المتحفظ الذي لا يوليه جهده من العناية والاحتفال، وقد كانت له قبل كتابة المقالات فصول تفيض بالتخيل والرونق، كما تفيض بها مقالاته الأخيرة بعد أن عاودها وهو معنى بها محتفل بتنميقها، فليس في قريحته من هذه الناحية ظاهرة جديدة أو غريبة تخالف المعهود والمألوف.
وإنما هو اكتراث بعد تهاون، وإقبال بعد تردد، وما كان هذا التحول من التردد إلى الإقبال بالمستغرب بعد شيوع المقالات، وتسابق الخاصة والعامة إلى مطالعتها والاستزادة منها، وتلاحق ترجماتها بالفرنسية واللاتينية والإيطالية في سنوات قليلة، فقد تغير تقدير باكون لمقالاته تبعا لتقدير القراء والنقاد، وبدا منه الارتياح إلى رواجها، والإعجاب بها في معارض شتى، فأشار مغتبطا إلى تكرار طبعها، وقال في خطابه إلى أسقف ونشستر: «إنه لا يجهل أن هذا الضرب من الكتابة يضيف إلى اسمه سمعة وسطوعا فوق ما استفاده من الكتب الأخرى مع قلة العناء فيه.» وقال في رسالته إلى دوق بكنجهام: «إن المقالات أروج أعماله؛ لأنها على ما يظهر أدنى إلى شواغل الناس وطواياهم.» وقدر لها أن تبقى ما بقيت الكتب في الدنيا، وإن كانت نسختها اللاتينية هي التي قدر لها هذا البقاء! لأنها اللغة العالمية التي يتفق عليها خاصة القراء.
فقد كان الاحتفال إذن بالأسلوب على قدر العناية والتقدير، ولم يكن على قدر الملكة البلاغية التي صحبته ولم تفارقه في الشباب، ولا في الشيخوخة، فأودع فيها كل فنه بعد أن كان يوليها منه الطرف اليسير.
ولكنه الطرف اليسير في الأداء لا في التأمل والتفكير، فإنه قد وفاها حقها من النضج والتمحيص، سواء ما كتبه منها في الكهولة وما كتبه في الشباب .
إنه لنسيج واحد في الأسلوبين، ونصيبهما من الجودة والنظافة وجمال الهندام واحد لا تباين فيه، وإنما التباين كله في التحلية والترصيع، وفي الوشي والتنسيق. •••
فمقالات باكون في بواكيرها كانت طوائف من المتفرقات الفكرية، تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه فهو غني عن تفصيلها وتوضيحها لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليه، أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال الفكري التي يفهمها المرتاضون على قراءة هذا الضرب من الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه.
ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب، وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه، وطرافة الأمثولة، واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم، وموقعها المنتظر، وتم العجب في أمر باكون خاصة بين كتاب العلية المختارين، فإن الشائع في عالم الأدب أن الجمهور يوجه الكاتب إلى وجهته، ويرى له أحيانا غير ما يراه لنفسه إذا كان من كتاب الجماهير، ولكنه - أي الجمهور - يعجز عن توجيه العلية بين الكتاب في باب من الأبواب، فينقاد لهم أو يتركهم لما يحلو لهم ويحلو لقرائهم الممتازين، فإذا بكاتب العلية الأول - فرنسيس باكون - يقدم لنا أندر الأمثلة على تجاوب الفهم والشعور بين القراء والكتاب كافة من كل طبقة، ومن كل طراز، ويرينا في غير شك ولا غموض أن الجمهور لا يقف بتوجيهه عند كتابه المنقطعين له، والمقصورين عليه، بل يتعداهم أحيانا إلى صفوة العلية بين الحكماء والأدباء، فيوجههم تارة إلى الحسن المحمود، وتارة إلى الشائن المعيب ... وقد كان توجيهه لباكون في أسلوب المقالات خاصة إلى خير مما اختاره لنفسه الحكيم الأريب.
فقد استخلص منه - بفضل الفهم والإقبال - نخبة ما أبدع واستحق به البقاء، وعاش به بين العلية والسواد على السواء، فخرجت المقالات على صورتها المهذبة ذخرا لا يفوقه ذخر أدبي في وفرة جواهر البلاغة، ونصاعة خواطر التفكير، وكثرة ما يصلح منها للاقتباس؛ حتى ليوشك أن تتلاحق العبارات كلها صالحة للتمثيل والاستشهاد، وهي على تكرار بعض الشواهد والأماثيل فيها ليست مما تمل فيه الإعادة لوقوع كل تكرار في موقعه الذي لا يغني فيه سواه.
وليقل من شاء ما شاء في شروط المقالة كما اصطلح عليها النقاد والكتاب المقاليون، فهذه المقالات تؤخذ على نمطها الفريد ولا يضيرها أن تخالف به سائر الأنماط، وليس من اللازم أن تتوافى المقالات جميعا على السنة الشائعة في عرف النقاد والقراء، ففي غير النمط الشائع مجال للخصوصيات المتفردة على حسب القرائح والطبائع والموضوعات.
وإذا كان باكون قد ابتعد بالمقالة عن نمط الحديث والفكاهة، فإنه قد علا بها صعدا ولم يهبط بها إلى قرار دون ذلك القرار؛ لأنه اقترب بها من ترتيل الذاكرين وتنسيق الشعراء، فكان نثره أجدر كلام أن ينسقه شاعر مبين.
ليس باكون بشاعر على التحقيق.
أو هو ليس بالشاعر حين يكون الشعر جيشانا في الحس، وقلقا في البديهة، ونفاذا إلى أغوار الضمير، وخيالا يحلق في السماوات ويغوص إلى الأعماق.
ولكنه شاعر لا ريب حين يكون الشعر لمعانا في الخاطر، وجمالا في التشبيه وانتظاما في النسق، ويقظة في البديهة، وكذلك كان في أسلوب المقالات.
وكذلك كان فيما نظم من القصيد، وهو قليل.
ومن هذا القليل قصيدة نترجمها هنا؛ لأن ترجمتها تفسر لنا ما عنيناه بذلك القسط الشعري في كلامه المنثور، فلا فرق بين ترجمة شعره ونثره، إذا زال الوزن والقافية من قصيدة المترجم إلى لغة أخرى؛ لأن بلاغته الشعرية كلها مما يسهل تحصيله في النثر البليغ.
قال من قصيدة عنوانها «الدنيا فقاعة» حين جرب تقلب الأقدار وطوارق الأخطار:
الدنيا فقاعة، وحياة الإنسان أقصر من مدى الشبر! وضيع في حمله ووضيع من رحم أمه إلى مثواه، وعليه اللعنة من مهده حيث يتربى مع السنين على الهموم والدموع! فهل من يركن إلى الفناء الهزيل، إلا كمن ينقش على الماء أو يخط على التراب؟ ***
لكنك تسأل: أي الحياة - ونحن مثقلون هنا بالأحزان - خير وأشهى؟
فالقصور مدارس يلغو بها أطفال العقول.
والريف جحور لأناس من الوحوش.
وأين هي المدينة التي عرت من أدران الفساد.
حتى لا يقال فيها: إنها وايم الحق لشر الثلاث؟ ***
هموم البيت تقض على الزوج مضجعه، أو توجع رأسه.
والذين يعشون في العزوبة يحسبونها نقمة، أو يصنعون ما هو شر وأدهى، وأناس يتمنون الذرية، وأناس عندهم الذرية ويضجون منها أو يسألون لها الزوال.
فما العزوبة إذن وما الزواج، إلا العزلة الموحشة أو العناء المضاعف. ***
المقام في الدار داء، والرحلة إلى الغربة خطر وعناء.
والحروب ترعبنا بوغاها، والسلم نحن فيه أضل سبيلا.
فماذا بقي لنا بعد إلا أن نصيح وجلين:
ليتنا لم نولد، أو ليتنا إذ ولدنا نموت!
وليس في هذا الشعر - بعد تجريده من الوزن والقافية - معنى لا تحتويه مقالة أو كلام منثور. •••
ولعل باكون كان يتمنى لقريحته نصيبا شعريا أوفى من هذا النصيب؛ لأنه عظم الشعر كما لم يعظمه أحد من علماء زمانه وذوي الرئاسة بين أقرانه، فقال في بعض وصاياه إلى اللورد «إسكس» صديقه أولا وغريمه بعد ذاك: «إن قصائد الشاعر تعيش ولا تضيع منها كلمة بعد أن تنطوي الدول والحكومات، بأجيال وراء أجيال ... وإنها لتصعد على مرتقى من الزمن يستكشف المقبل من الزمان.»
ولا نخال باكون قد صرف هذا التعظيم إلى الشعر الذي ينسب إليه ومنه تلك القصيدة التي قدمناها. ولكنه عظم به ما كان يقدره من كلام غيره، وما كان يتمناه لنفسه ولا يصل إليه.
وكفى بتلك القصيدة وحدها دليلا على الفارق الواضح بين الكاتب باكون، والشاعر شكسبير، أو دليلا على المكان الذي يتبوءه الكاتب باكون من ديوان الأدب الخالد، وهو مكان الأديب الموهوب والناثر البليغ، والشاعر اللبق فيما يحتويه النثر الجميل ولا يزيد عليه.
من باكون؟
(1) مقالات
الحق
ما الحق؟
سؤال سأله بيلاطس مازحا ولم ينتظر جوابه، ومن البين أن كثيرا من الطبائع القلب والعقول الواهية تحسب الثبات على العقيدة قيدا، كما يحسبه أناس حجرا على المشيئة الحرة في التفكير والعمل على السواء.
وقد تولت مدرسة أولئك الفلاسفة، الذين ينظرون تلك النظرة، وبقي بعدهم أناس من أصحاب العقول المزعزعة يجرون على منوالهم، وليست لهم متانة معدنهم ولا نفاذ حجتهم، إلا أننا نرى أنه لا المشقة التي يعالجها الناس في الوصول إلى الحق، ولا القيود التي يفرضها الحق على النفس بعد الوصول إليه، هما العلة المغرية بالكذب والباطل، وإنما هناك علة أخرى من هوى الطبائع تطلب الكذب حبا للكذب، وتهوى الباطل غراما بالباطل.
وقد بحث بعض المتأخرين من فلاسفة اليونان - يعني لوسيان - في هذا الذي يولع بعض الناس بالكذب، وليس فيه سور فني كما في خيال الشعراء، ولا مغنم منشود كما في مساومات التجار.
ولست أدري ولا إخالني أدري، فقد يلوح لي أن الحق في وضوحه كضوء النهار البين الذي لا يروق الأنظار بعض ما تروقها أضواء الشموع في الملاعب والمساخر، ومواكب المقنعين وذوي البراقع.
أو يصح أن يقال: إن الحق كاللؤلؤ الذي يرى أحسن ما يرى بالنهار، ولكنه ليس كالماس أو العقيق، اللذين يريان أحسن ما يريان على اختلاف الأضواء.
وهل يرتاب أحد أنه لو خلت العقول الآدمية من خواطر الغرور، وملق الآمال وزيف الأقدار والقيم، وهواجس التخيل على حسب الهوى والمشيئة، ونظائر ذلك من التعاليل، لانقبضت تلك العقول وامتلأت بالكدر والسوداء؟
قال بعضهم: «إن الشعر خمر الشيطان.» لأنه يملأ الخواطر، وهو ظل الأكاذيب ولكن الأكذوبة التي تعبر بالعقل لا تضيره، وإنما تضيره الأكذوبة التي تتغلغل فيه، وتستقر في أطوائه.
والحق بعد ليس له من ميزان يوزن به غير ميزانه، وبه وحده نعلم أن طلب الحق - وهو خطبة جماله - وعرفان الحق - وهو وصله وحضوره، والإيمان بالحق - وهو المتعة به واحتواؤه، ذلك هو الخير الأوفى والرفعة العليا في طبيعة بني الإنسان.
وقد كان نور الحس أول خلائق الله في الأيام الستة، وكان ختامها نور العقل والرشاد، وكان يوم السبت - يوم الراحة - نور البصيرة والروح.
ففي بداية الأمر بث - سبحانه وتعالى - نوره على وجه الماء أو العماء، ثم بث نوره على وجه الإنسان، ولا يزال - جل جلاله - يبث نوره في وجوه المختارين من عباده.
وكان الشاعر الذي زان أصحابه - الأبيقوريين - على تخلفهم بالقياس إلى غيرهم يقول: «جميل أن تقف على شاطئ البحر، وتنظر إلى السفن غاديات رائحات عليه، وجميل أن تقف على شرفات القلعة وتنظر إلى حومة الحرب وما يجري فيها، ولكنه لا جمال يعدل جمال الوقوف على ساحة الحق، حيث يصفو الجو ويعتدل أبدا لينكشف لك الخطأ والضلال، وما هنالك من الغواشي والأعاصير تحت قدميك.»
وينبغي أن يضاف إلى ذلك أن يكون نظر الإنسان إلى ما يراه هنالك، بعين الرحمة والعطف، لا بعين الزهو والكبرياء، فإنه لكالسماء على الأرض أن يمضي عقل الإنسان في الخير، ويستريح في الحكمة، ويدور أبدا حول قطب من الحقيقة.
وإذا تحولنا من حقائق العقائد الدينية والآراء الفلسفية إلى حقائق المعيشة والعمل، رأينا الاعتراف عاما بين من يمضي على هذه السنة ومن يحيد عنها بأن المعاملة الصراح هي شرف الطبيعة الإنسانية، وأن الخلط والتمويه إنما هما كالمعدن، الذي يشاب به الذهب والفضة، فتروج بهما العملة ولكنها تخس وتنقص، وما كان التلوي والاعوجاج إلا كحركة الثعبان، الذي يزحف على بطنه ولا يتحرك على القدمين، وما من رذيلة تجلل صاحبها بالعار كافتضاحه بالكذب والخيانة، وقد أصاب مونتين حين تساءل: ما بال الكلمة الكاذبة تعاب هذا العيب وتزري بصاحبها هذه الزراية، فقال: «حين يقال: إن رجلا يكذب، فكأنما قيل: إنه جريء على الله جبان بين يدي خلقه؛ لأنه يواجه الله بالكذب، ويفر به من الناس.»
وإن الشر الذي تنطوي عليه الخيانة، لن يتجلى في عبارة كتجليه في العلم بأنها هي النذير الأخير، الذي تستحق به أجيال البشر قضاء الله يوم القيامة، فقد جاء في التنزيل أن المسيح يعود إلى الأرض حين تفارقها الأمانة والإيمان.
الحب
المسرح أحفل بالحب من حياة الناس؛ لأن الحب في المسرح مادة للمهازل، ومن حين إلى حين مادة للمآسي، أما في حياة الناس فهو عظيم الأذى يبدو تارة كالحورية، وتارة كالجنية المتشيطنة.
وقد نلاحظ أنه لم يكن قط بين العظماء وذوي الخطر من النابهين، سواء من حضر منهم ومن غبر، رجل فرد قد أصيب بلوثة الحب ، أو طوح به الحب إلى درجة الولع والهيام، مما يدل على أن الأفكار الكبيرة والهمم الجادة تظل بنجوة من هذه الخالجة الضعيفة.
ولكنك خليق أن تستثني مع هذا رجلا مثل ماركوس أنطونيوس، الذي كان قسيم السلطان في الدولة الرومانية، ورجلا مثل أبيوس كلوديوس أحد الأقطاب العشرة المشترعين في تلك الدولة، وقد كان أولهما شهوان لا يملك زمام نفسه، ولكن ثانيهما كان رجلا موفور الجد والحكمة، فكأنما الحب وشيك - ولو في الفرط النادر - أن يجد سبيله إلى القلوب المحصنة لا إلى القلوب المباحة وحدها، إذا هي لم تأخذ حذرها وتحكم حراستها.
وما أضعف قول أبيكتيتس حين يقول: «إن فينا بعضنا لبعض ما هو حسبنا من رواية كبيرة.» كأنما هذا الإنسان الذي خلق للتأمل في السماوات، وفي جلائل الأشياء لا عمل له إلا أن يركع على قدميه أمام صنم صغير، ثم يستعبد نفسه لعينه لا لفمه كشأن العجماوات، وما خلقت العين إلا لما هو أرفع من هذه الأغراض.
وعجيب أمر الشطط في هذا الهوى الذي يجمح بالطبيعة ويتجاوز الحدود ... ولا يتراءى شطط من أمر، كما يتراءى من استغراب الناس الكلام المفخم الطنان في كل سياق إلا في سياق الغرام، وليس الأمر هنا أمر الكلام وكفى، فإن الإنسان كما قيل أكثر ما يكون ملقا لنفسه، وخداعا لعقله في تعظيم قدره، ولكن العاشق يذهب في الخديعة وراء ذلك؛ لأنه ما من أحد يضل في تعظيم قدره كما يضل العاشق في تعظيم معشوقه وتجميل صفاته، ومن ثم قيل بحق: إنه لا يجتمع عقل وغرام.
ولا ينكشف هذا الضلال للآخرين وحدهم، بل هو منكشف للمعشوق نفسه قبل غيره، ما لم يكن الحب تبادلا بين العاشقين، إذ المتفق عليه أن العشق إما أن يقابل بعشق مثله، أو يقابل بازدراء مكتوم، فما أحرى الإنسان إذن أن يحترس من هذا الهوى، الذي لا يقتصر الأمر فيه على فقدان ما سواه، بل هو فاقد نفسه مع سائر مفقوداته.
أما ما عدا ذلك من المفقودات، فالشاعر قد أشار إليها حين قال : «إن الذي يفضل هيلانة عليه أن يستغني عن عطايا جونو وپالاس.» وفحوى ذلك أن الغلو في قيمة الحب يبخس عند المرء قيمة المال، وقيمة الحكمة.
ومن المشاهد أن هذا الهوى يستوفي فيضه إبان الضعف في حالتيه، وهما حالة الرغد وحالة البأساء، وإن كانت هذه الحالة أندر من الأولى.
وكلتاهما تلهب الحب وتذكي أواره، وترينا بذلك أنه وليد الحمق والغفلة.
وخير ما يصنعه المرء إذا لم يكن له بد من الحب أن يكبحه، ويفصل ما بينه وبين شئون جده وشواغل حياته؛ لأنه لم يتسرب قط إلى أعمال امرئ إلا أوقع الاضطراب في حظوظه، وحال بينه وبين الصمود إلى غاياته.
ولست أدري ما بال رجال الحرب يحبون أن يحبوا، إلا من قبيل حبهم الخمر والتماس الجزاء على الخطر بالمسرات.
بيد أن الإنسان مطبوع في خفايا قلبه على طلب العلاقة بغيره، وهو ميل إن لم ينصرف إلى فرد أو بضعة أفراد انصرف عفوا نحو الكثيرين، فألهم النفس خصال المودة والعطف، وصنع الخيرات والحسنات، كما يشاهد في النساك وإخوان الدين.
إن الحب الزوجي يوجد بني آدم، وحب الصداقة يكملهم ويهذبهم، أما حب اللهو فهو مفسدة لهم وإسفاف.
الحظ
مما لا نكران له أن الحوادث، التي تقع في هذه الدنيا ترجع كثيرا إلى الحظ والمصادفة، كالحظوة والفرصة وموت الآخرين، وتوافق الأحوال وصلاح المناسبات للملكات والكفاءات.
إلا أن المعول عليه أن الإنسان يسبك قالب حظه بيديه، أو كما قال الشاعر: «في يد كل إنسان أن يؤسس حظه ويقيم بناءه.»
ومن أشهر الأسباب العارضة في خلق الحظوظ أن يستفيد رجل من زلات الآخرين، فلم يحدث قط أن أحدا علا به الحظ فجأة، كما يعلو به من جراء زلة يجترحها غيره. وقد جاء في الأمثال أن الحية لا تصبح تنينا حتى تبتلع حية أخرى!
وهنالك مناقب ظاهرة تجلب لصاحبها المدح والثناء، ولكن الصفات التي تجلب لصاحبها الحظ أخفى من ذاك، وقد اجتمع بعضها في الكلمة الأسبانية التي يعنون بها «الكياسة»، ولطف التناول والمعاملة.
وقلما وجدت حالة من حالات الإنسان إلا وهو قادر على أن ينوط فيها دولاب فكره بدولاب الحظ حيث دار. وقد قال ليفي بعد أن وصف كاتو الكبير: «إن الرجل العظيم خليق حيثما ولد في بيئات الحياة أن ينشئ له سمعة وذكرا.»
فلينظر من شاء نظرة العناية والإنعام، وهو ولا ريب قادر على أن يرى ربة الحظ في مدارها.
فهي وإن كانت عمياء، لا تخفى على المبصرين.
وإن طريق الحظ لأشبه الأشياء بطريق المجرة في السماء، إذ هي نجوم صغار لا تضيء الواحدة منها على انفرادها، ولكنها تضيء معا مجتمعات.
كذلك توجد في الناس صفات متفرقات قلما تبدو الواحدة منها للعيان، أو هي جملة من العادات والملكات توفق صاحبها إلى الجد والسعادة.
والإيطاليون يشيرون إلى بعضها، حيث لا تخطر على بال، فيقولون عمن يلازمه النجاح ولا تخيب رمية من رمياته: إنه قد ظفر بمسحة من توفيق الجنون.
والواقع أننا لا نعرف خلتين هما أدنى إلى النجاح كأن يرزق الإنسان قليلا من الجنون ولا يرزق كثيرا من الأمانة.
ولهذا لم يكن الغيورون على أوطانهم أو سادتهم قط مجدودين محظوظين، ولا يتأتى أن يكونوا كذاك؛ لأن الرجل الذي يعلق أفكاره بغيره لا يحسن أن يمضي لغايته ويسلك على جادته ومنهاجه.
وإن الحظ العجل ليخلق الرجل المغامر القلق الذي تتداوله الأطماع. أما الرجل القدير الركين، فإنما يخلقه الحظ الذي يجري على سنة الرياضة والتدريب.
والحظ حقيق بالتشريف والتقدير إن لم يكن لشيء، فلولديه الضمير والصيت، والأول في نفس الإنسان والثاني في نظرة الناس إليه.
على أن العقلاء كثيرا ما يتجنبون الحسد على فضائلهم بنسبتها إلى العناية، أو إلى الحظ والتوفيق؛ لأنهم بهذه النسبة يقدرون على التحلي بها واتخاذها ... فضلا عن العظمة التي يبلغها المرء، حين يكون أهلا للرعاية والاختصاص من مقادير السماء.
وهكذا قال قيصر للربان عند هياج العاصفة: إنك تحمل قيصر وحظه، واختار سلا
Sylla
لقب السعيد دون لقب العظيم.
لا جرم كان من المشاهد المتواتر أن الذين يعزون الفضل الكثير إلى عقولهم، وتدبيراتهم يخذلهم الحظ في النهاية ، وقيل : إن تيموتين الأثيني لم يفلح في عمل قط بعد أن قام يؤدي الحساب عن حكومته للأثينيين، فطفق يقول: وهذا لم يكن للحظ فيه نصيب!
ولا ريب أن بعض الحظ كبعض الشعر في سهولته وسريانه، على نحو ما نرى في شعر هومير بالقياس إلى غيره من الشعراء. وإلى هذا المعنى أشار بلوتارك حين قابل بين حظوظ تيموليون واجيسلاس وايبامننداس. ومرجع هذا كله ولا مراء إلى خاصة في طبيعة الإنسان.
الحسد
ليس في الأحاسيس ما له من السحر والتأثير ما لهذين الإحساسين: الحب والحسد.
فكلاهما عنيف المطالب سريع الامتزاج بتراكيب الخيال، وتواليف الخاطر، يبتدر إلى العين وتنم عليه النظرة، ولا سيما في حضرة من هو محبوب أو محسود، وكل أولئك مما يملي له في سلطان سحره، إن كان للسحر وجود.
وفي التنزيل نرى أن الحسد يسمى بالعين الرديئة أو النظرة السيئة، ويقول المنجمون عن النحس، الذي تتسلط به الكواكب على الناس: إنه طوالع مشئومة، وهو ما يتضمن الاعتراف بسريان شيء من النظر عند وقوع الحسد في موقعه. بل هناك من بلغت به الغرابة في هذا الصدد أن يعتقد أن المحسود لا يستهدف للإصابة من الأعين في حالة من حالاته، كما يستهدف لها وهو في أوج فخاره وانتصاره؛ لأنه يشحذ نصال الحسد في هذه الحالة، ويستخرج كل ما فيه من روح باطن إلى مظاهره المكشوفة، فيتلقى بها الضربة من قريب!
ولكننا ندع هذه الغرائب - وإن لم تكن غير أهل للاعتبار في موطن بحثها - ونتناول البحث في أولئك الأناسي، الذين هم خلقاء أن يحسدوا الآخرين، وفي أولئك الأناسي الذين هم عرضه للحسد الخاص والحسد العام بين جمهرة الناس.
فمن حرم المزية خليق أن يحسدها فيمن رزقها وتحلى بها؛ لأن عقول الناس تتغذى بما يصيبها من الخيرات، أو بما يصيب غيرها من الشرور، ومن فاته أحد النصيبين ابتغى العوض منه في النصيب الآخر، ومن يئس من بلوغ المزية التي يملكها غيره، فسبيله أن يسعى إلى مساواته بسلبه إياها وتجريده منها.
وكل طلعة مشغول بأمور الخلق ، فهو على الأرجح حسود بالفطرة؛ لأن استطلاع أحوال الخلق لا يعنيه في خاصة شئونه وأعماله، فهو يعنيه إذن للتطلع إلى الحظوظ والأقسام، ومن كان مشغولا بشئونه وأعماله فقلما يتسع له مجال للحسد والضغينة؛ لأن الحسد شعور فضولي جوال يتردد في الطرقات، ولا يأوي إلى المنازل، وأصاب من قال: «قلما يشغل أحد بالاستطلاع والتحري إلا وهو منطوي الصدر على كراهية وبغضاء.»
وقد لوحظ أن المعرقين في الحسب ينظرون بعين الحسد إلى النابغين في إبان صعودهم؛ لأن المسافة بينهم تتغير وتقترب، وما زال من خداع البصر أن يحسب أنه يتأخر كلما رأى غيره يتقدم إليه.
والمشوهون والخصيان والشيوخ والأنغال حاسدون؛ لأن اليائس من إصلاح حاله يبذل ما في وسعه لإفساد حال سواه، إلا أن تحيق تلك العيوب بنفوس طبعت على البطولة والرفعة، فتجعل تلك العيوب سببا من أسباب فخارها والثناء عليها، كما اتفق لبعض الخصيان والعرج أن تسمو بهم الهمم إلى خوارق الأعمال، ومنهم الخصي نارسس والأعرجان اجيسلاس وتيمور.
ويشاهد الحسد في أولئك الرجال الذين يرتفعون بعد النكبات والمصائب؛ لأنهم يسيئون الظن بالدنيا، ويرون أضرار الناس عوضا لهم عما تجشموه ...
والحسد من لوازم أولئك الذين يطمحون إلى التفوق في كثير من الأمور، طيشا منهم أو ولعا بالفخار الكاذب؛ لأنهم لا يعدمون سببا للحسد كلما تفوق عليهم أحد في مطلب من المطالب الكثيرة، التي يطمحون إليها، وكذلك كان الإمبراطور أدريان في جلالة سلطانه يحسد الشعراء والمصورين والحذاق في الصناعات التي كان يشتهي أن يتفوق فيها.
كذلك يشاهد الحسد بين الأقارب والزملاء والناشئين معا في بيئة واحدة، فهم يحسدون أمثالهم كلما جاوزوهم وارتفعوا عليهم، إذا كان هذا الارتفاع غاضا من حظوظهم موجها الأبصار إلى قصورهم وتخلفهم كثير الورود على خواطرهم والتنبيه لخواطر غيرهم. وما زال الحسد ينمو بالقيل والقال والشهرة التي تشغل البال، وقد كان حسد قابيل لأخيه أخس وألأم حين قبلت ضحيته، ولم يكن هنالك من ينظر إليه.
ذلك جملة ما يقال فيمن يحسدون.
أما الذين هم مستهدفون للحسد على كثرة أو قلة ، فأولهم أصحاب المزايا الخطيرة ... وهم كلما ثبتوا في مزاياهم قل حسد الحاسدين إياهم؛ لأن مزاياهم تلوح يومئذ كأنها حق من حقوقهم، وصفة لاصقة بتكوينهم، وقل في الناس من يحسد صاحب الدين إذا ظفر بدينه، وإنما يوكل الحسد بالغنائم والمكافآت.
كذلك يوكل الحسد بالمقارنة، فلا حسد حيث لا مقارنة؛ ولهذا لا يحسد الملوك إلا الملوك.
وعلى هذا يلاحظ أن الذين لا خلاق لهم إنما يحسدون في أوائل ظهورهم، ثم يضعف الحسد لهم بعد ذلك، وهو خلاف ما يلاحظ في أمر الأكفاء وذوي الجدارة، فإنهم كلما دامت لهم حظوظهم تفاقم حسد الحاسدين إياهم، إذ يسهل إنكار فضلهم مع بقائه، كما كان بعد بزوغ الحظوظ الأخرى التي تغض من حقوقهم.
والمعرقون في النسب أقل نصيبا من حسد الحاسدين عند علوهم، كأنهم فيما يبدو للناس ينالون حق ميلادهم، ولا يبدو للناس مع ذلك أنهم قد أضيف إليهم شيء كثير فوق ما كان لديهم.
والحسد كنور الشمس أحر ما يكون في السفوح الصاعدة، وأقل ما يكون حرارة في البطاح المبسوطة؛ ولهذا يقل حسد الناس لمن يبلغ حظه درجة بعد درجة، ويشتد حسدهم لمن يثب إلى الحظ في سرعة مفاجئة.
والذين يقرنون نجاحهم بالرحلات البعيدة والمغامرات الخطرة، والهموم اللاعجة هم أقل من غيرهم نصيبا من حسد الحاسدين؛ لأن الناس يعلمون أنهم قد جهدوا جهدهم قبل نجاحهم، وقد يشفقون عليهم ويرثون لهم، وما زالت الشفقة دواء شافيا للحسد والغيرة، ومن ثم ترى الدهاة من الساسة على قدر حظهم من الدهاء يبالغون في ذكر متاعبهم والشكاية من أوصابهم؛ لا لأنهم يشعرون بذلك حقا في طوايا قلوبهم، ولكن ليفلوا غرب الحسد ويكبحوا طغيان النقمة والضغينة.
إنما ينبغي أن نذكر هنا أن المشاق التي تفل غرب الحسد هي المشاق التي تفرض على أصحابها فرضا، وليست هي تلك التي ينتزعونها من غيرهم انتزاعا، فما من شيء يضرم الحسد كتضخيم الأعمال وتوسيع المطامع، وما من شيء يطفئ سورته كاستبقاء ذوي المناصب العالية جميع مرءوسيهم في مواضعهم، وتزويدهم بجميع حقوقهم، فيقومون إذن حواجز كثيرة تحول بينهم وبين أعين الحاسدين.
وبعد فإن أكثر الناس تعرضا للحسد كله أولئك الذين يحملون حظوظهم الكبيرة في صلف وعجرفة، ولا يهدأ لهم بال حتى يعرضوا للأنظار مبلغهم من العظمة، إما بالفخفخة الطنانة أو بقمع ما يعترضهم من المناوأة والمنافسة، على حين يتعمد العقلاء أن يقدموا القرابين للحسد بقبول التخطي والإهمال أحيانا، فيما ليس له عندهم كبير طائل.
ومع هذا يحسن أن نذكر أن التجمل بسمت العظمة في غير صلف، ولا عجرفة يعفي صاحبه من الحسد الذي يصيب المتحيلين والمراوغين في إظهار عظمتهم؛ لأن المراوغة معناها هرب الإنسان من الاعتراف بحقه في العظمة، وتسليمه باغتصاب ما هو في حوزته من الحظوظ، فيوحي إلى الآخرين بالقدوة له أن يحسدوه.
ونختم هذا الجزء من المقال بما أشرنا إليه في مستهله، حيث قلنا: إن الحسد ينطوي فيه على شيء من السحر، فعلاجه وعلاج السحر سواء.
أما هذا العلاج فهو نقل الآفة من موضوع إلى موضوع، أو من هدف إلى هدف (كما يصنع السحرة حين يتخذون تعويذة ينقلون إليها فعل المكيدة السحرية).
وكذلك كان عقلاء النابهين حريصين أبدا على أن يبرزوا على المسرح بعض الشخوص؛ لتتلقى عنهم إصابة الحساد، من قبيل الأعوان والخدام تارة، ومن قبيل الزملاء والعشراء تارة أخرى، ولا يعدمون يوما طائفة من أصحاب الطبائع الهحامة يقبلون هذا لقاء ما هم طامحون إليه من السطوة والنفوذ.
ونعود إلى الحسد العام أو الحسد بين جمهرة الأمة، فنقول: إنه لا يخلو من النفع إذا كان الحسد الخاص قد خلا منه بتة، إذ كان حسد الأمم ضربا من الفتوى التي تصدرها الشعوب لعقوبة العظماء، فهو كابح لهم من الغلواء، ومذكر لهم بالتزام الحدود، ويصيب الرجال كلما تجاوزوا في العظمة أقصى الحدود.
وأصل كلمة الحسد في اللغة اللاتينية مشتق من النظر أو الإصابة بالعين، وهو في معنى الحسد العام يقابل عندنا معنى التذمر والسخط، وانقلاب الرأي العام الذي سنتناوله بالبحث عند الكلام في الفتنة والهياج.
وإنه لكالمرض المعدي حين يظهر في الأمة؛ لأن العدوى هي إصابة السليم من السقيم، وهكذا الحسد العام أو التذمر حين يصيب جمهرة الأمة من شأنه أن يسري إلى أحسن الأعمال، فيلوثها بسوء القالة، وقلما يجدي هنالك أن تمتزج الأعمال الذميمة بالأعمال الحميدة؛ لأنها تلوح للناس كأنها محاولة للوقاية والنجاة، وكثيرا ما يكون الجهد في اتقاء العدوى من أسباب الإصابة.
ويبدو أن الحسد العام موكل بكبار الرؤساء وأصحاب المناصب دون الملوك والدول أنفسها، ولكنها قاعدة لا ريب فيها أنه حين يشتد الحنق على وزير من الوزراء وهو قليل التبعة فيه، أو حين يعم الحنق جميع الوزراء ولا يخص أحدا منهم فهو في الواقع موجه إلى الدولة في صميمها، وإن لم تصرح به الظواهر لأول وهلة.
وحسبنا هذا في موضوع الحسد العام والفرق بينه وبين الحسد الخاص، وإنما نضيف إلى ما تقدم كله أن الإحساس بالحسد هو أشد الأحاسيس إلحاحا وأقواها على المثابرة؛ لأن الأحاسيس الأخرى تعتري صاحبها نوبة بعد نوبة. أما الحسد فهو كما قيل في المثل: «يعمل بغير إجازة أو بغير عطلة.»
ومن ثم يذبل الحاسد والعاشق، ويلح عليهما الضنى والهزال، على خلاف المعهود في غيرهما من الأحاسيس؛ لأنها لا تدوم هذا الدوام ولا تلح هذا الإلحاح.
وإن الحسد فوق هذا لمن أخس الأحاسيس وأرذلها، فلا جرم يعزى إلى الشيطان الذي يدعى بالرجل الشرير «يدس الزوان بين القمح في جنح الظلام»، وهكذا كان الحاسد أبدا من العاملين في الخفاء لإفساد الطيبات، والقمح مثل لهذه الطيبات.
الحمد والثناء
الحمد هو ظل الفضيلة أو انعكاس شعاعها، ولكنه يشبه الزجاجة أو الجسم الذي يعكس الشعاع.
فإن كان من سواد العامة فهو في الأغلب الأعم كاذب فارغ، وأكثر ما يكون من قسمة أصحاب الغرور دون أصحاب الفضيلة.
لأن الذي يستجلب الحمد منهم إنما هو أحط أنواع المزايا، فأما المزايا الوسطى فهي تدهشهم، وتثير عجبهم أو إعجابهم، وأما ما فوق ذلك من المزايا فلا قدرة لهم على إدراكها بتة، ولا يعرفون منها إلا صورتها ومرآها، ويصدق عليهم هنا قول القائل: إنهم يؤخذون بما يلوح لهم أنه فضيلة لا بما هو فضيلة في الجوهر.
والحق أن الصيت كالنهر الذي يحمل ما خف وانتفخ، ويغرق ما صلب ورجح وزنه، ولكنه إذا اتفق عليه أولو الرأي والجدارة كان كما جاء في التنزيل: «خيرا من الدهن الطيب.» يملأ جميع ما حوله ولا يزول سريعا؛ لأن نفحة الطيب أبقى من عبير الأزهار.
وثمة ضروب شتى من الحمد والثناء حتى ليحق للإنسان أن يتلقاها بالحذر والريبة، فمنها ما يأتي من الملق وهو مختلف على حسب أصحابه، فإن جاء من بعض العامة فهو لا يعدو إسناد الفضائل الشائعة، التي تصلح لكل ممدوح، وإن جاء من ذي حيلة وفطنة، فهو يحذو فيه حذو المتملق الأعظم وهو الممدوح نفسه.
فحيث يتعاظم رأي الممدوح في نفسه وظنه في مزاياه، فمن ثم يأخذه المتملق وتشتد قبضته عليه، إلا أن يكون متملقا وقاحا فيعمد إلى مواطن الضعف التي يحسها الممدوح من نفسه، فيغلو في الثناء عليها فيبدو له كأنه يسخر منه، وينبه إلى نقائصه وعيوبه.
ويصدر بعض الثناء من نية حسنة ومقصد شريف، كالثناء على الملوك والعظماء، وربما كان القصد به التعليم والإرشاد من طريق الإطراء والمديح.
ويصدر بعض الثناء للإيذاء والمضرة من طريق إثارة الحسد والضغينة، وفي هذا يصدق تاسيتس، حيث يقول: إن أخس الأعداء هو العدو الذي يثني ويمدح.
وقد كان من أمثال اليونان أن الرجل الذي يمدحه المادحون لضرره خليق أن ينبت له بثرة على أنفه، وهو شبيه بما نقوله نحن عن الكاذب الذي تنبت له بثرة على لسانه!
بيد أن المدح المعتدل في مناسباته ومعارضه يفيد وينفع، وسليمان الحكيم يقول: إن من يرفع عقيرته بالثناء على قريبه في بكرة الصباح «يحسب له لعنا»؛ لأن الإغراق في التعظيم يغري بالمناقضة ويثير الحسد والسخرية، وثناء المرء على نفسه غير لائق به إلا في أندر أحواله، ولكنه يستطيع أن يثني على وظيفته أو على صناعته بشيء من اللياقة وحسن النية.
وقد تعود كرادلة روما، وهم الفقهاء والعلماء، أن يطلقوا كلمة «المستخدم» على جميع العاملين في الوظائف المدنية من رجال الحرب والسفارات والشرائع على سبيل الزراية والاستخفاف، ولكن هؤلاء «المستخدمين» كثيرا ما يعملون في نطاق وظائفهم ما هو أجل وأنفع من تلك السبحات العالية!
وكان القديس بولس يقول حينما افتخر بنفسه: «إنني أتكلم كالحمقى.» ولكنه كان إذا أشار إلى رسالته قال: «بما أني رسول للأمم أمجد خدمتي.»
الشباب والشيخوخة
قد يكون الرجل الصغير في سنيه كبيرا في ساعاته إن لم يفرط في شيء من وقته، ولا يتفق ذلك إلا في الندرة.
والغالب أن الشباب كالفكرة الأولى التي ليس فيها من الحكمة ما في الفكرة الثانية؛ لأن الشباب يكون في الأفكار كما يكون في الأعمار.
إلا أن مبتكرات الشباب أنضر من مبتكرات الشيخوخة، والأخيلة إلى أذهانهم أسرع وأقرب إلى النفحات العلوية.
والطبائع التي تغلب عليها الحدة، وتستولي عليها الشهوات العنيفة لا تنضج للعمل حتى تجاوز منتصف حياتها كما كان يوليوس قيصر وسبتيموس سفيروس، الذي قيل فيه إنه قضى عمرا مفعما بالأخطاء، بل بالجنون، وكان مع هذا أقدر العواهل جميعا أو يكاد.
ولكن الطبائع الهادئة قد تحسن العمل في الشباب، كما كان أوغسطس والدوق قسموس أمير فلورنسه وجاستون دي فوا وآخرون.
على أن الحدة والنشاط في الشيخوخة من أصلح الخصال للنهوض بالأعمال.
والشبان أصلح للإبداع منهم للحكم والتقدير، وللتنفيذ منهم للمشورة، وللخطط الجديدة منهم للسنن المقررة.
والشيوخ يسددون خطاهم فيما يتناولونه من أعمالهم، ولكنهم يسيئون توجيههم فيما هو جديد مبتكر.
على أن غلطة الشباب وبال على العمل، ولكن غلطة الشيخوخة لا يبلغ منها إلا أنها تتطلب المزيد من القدرة أو المزيد من السرعة.
ومن دأب الشبان في سياسة الأمور أنهم يحيطون بأكثر مما يقدرون على حمله، ويحركون أكثر ما يقدرون على تسكينه، ويندفعون إلى الغاية دون مبالاة منهم بالوسائل والدرجات، ويعتمدون على قليل من المبادئ التي اتفقت لهم بغير روية، ويعتسفون المسائل التي تقحمهم في العواقب المجهولة، ويبدءون بالعلاج الحاسم من الوهلة الأولى، ويضاعف أغلاطهم أنهم لا يعترفون بها ولا يرجعون فيها، كالجواد الجامح الذي لا يقف ولا يلتفت يمنة ويسرة.
أما الشيوخ فيعترضون كثيرا ويتشاورون طويلا ويقتحمون قليلا، ويسرعون إلى الندم والنكوص، وقلما يدفعون الأمور إلى أقصى غاياتها، بل يقنعون من النجاح بالخطة الوسطى.
ومن الحسن ولا ريب أن يتلاقى النهجان؛ لأن تلاقيهما خير للحاضر إذ تتكفل فضائل كل سن بتصحيح نقائص الأخرى، وخير للمستقبل إذ يصبح الشبان متعلمين حين يكون الشيوخ عاملين، وخير لآثار الأعمال فيما يراه الناس؛ لأن الثقة والحجة تقفوان أثر الشيوخ والحظوة والشهرة تقفوان أثر الشبان.
ولعل الشبان أحق بالرجحان في مسائل الأخلاق، حيث يكون الشيوخ أحق بالرجحان في مسائل السياسة، وقد جاء في أقوال بعض الربانيين: «إن شبانكم سيبصرون الرؤى وشيوخكم سيحملون الأحلام.» مما يفيد أن الشبان أقرب إلى جوار الله من الشيوخ؛ لأن الرؤى في باب الوحي أوضح وأصدق من الأحلام.
والواقع أنه كلما شرب الرجل من هذه الدنيا أسكرته، وإنما يستفيد الشيوخ على الأرجح من جانب مدارك الفهم فوق ما يستفيدون من جانب حسن المشيئة والشعور.
ومن الناس من يعجل إليهم النضج ويعجل بهم الذواء والذبول، وهم أصحاب العقول القصمة، كأنها الحد المشحوذ الذي يتثلم من بضع ضربات.
كذلك كان هرموجينس الخطابي الذي جاءت قريحته بمصنفات بلغت الغاية من الدقة ولطف المدخل، ثم تثلمت قريحته وغلب عليها التبلد والكلال.
وهناك طراز آخر من ذوي الملكات تجمل ملكاتهم في الشباب، ولا تجمل في الشيخوخة، ومنها ملكة الكلام الذلق المزخرف وهو مقبول من الشباب غير مقبول من الشيوخ.
وقد قال شيشرون عن مزاحمه هورتنسيوس: «لم يتغير وقد كان في التغير له صلاح.»
والطراز الثالث من أصحاب الملكات بعد هؤلاء وهؤلاء يثب الوثبة العالية في البداية، ثم يعجز عن ملاحقتها بما هو أهل لها في الشيخوخة، وكذلك قال لسمي المؤرخ عن سيبيو
Seipio
الأفريقي: «إن بدايته كانت أعظم من منتهاه.»
الدراسة
الدراسة تراد للسرور أو للزينة أو للقدرة.
وهي للسرور في العزلة والانفراد، وللزينة في الحديث ومطارحة الآراء، وللقدرة في تصريف الأعمال وتدبير الأمور.
وقد يستطيع ذوو الخبرة الذين عرفوا أعمالهم بالمرانة أن ينجزوا العمل ، بل أن يتأملوه في تفصيلاته، منفردين كل منهم على حدة.
أما المشاورات العامة والخطط المرسومة ومراجعة المسائل وعرض الشئون، فإنما تكون على أتمها وأحسنها إذا تولاها ذوو العلم والدراسة.
والإسراف في وقت الدراسة كسل، والإسراف في التزين بها تكلف وادعاء، والتعويل عليها وحدها في تقدير الأشياء هو شنشنة معهودة في الحفاظ والعلماء.
فالدراسة في الواقع تصقل الطبيعة والخبرة تصقل الدراسة، وما الملكات المطبوعة إلا ككل ما تنبت الطبيعة محتاجة إلى التشذيب من يد الصناعة والمعرفة.
والدراسة تكيل لنا المعارف كيلا جزافا، فهي من جانبها محتاجة إلى ضابط من الخبرة والتجربة. •••
إن الأذكياء يستخفون بالدراسة، والسذج يعجبون بها، والعقلاء يستخدمونها؛ لأنها لا تؤدي إلى وسائل استخدامها بغير عقل مستقل عنها مستفاد من الملاحظة والاستنباط.
ولا تقرأ لتعارض وتجادل، ولا لتسلم وتستسلم، ولا لتطرق بابا من أبواب الأحاديث والأقاويل؛ ولكن لتزن وتفكر وتعيد النظر فيما قرأت.
ومن الكتب ما يذاق، ومنها ما يزدرد، ومنها - وهو أقلها - ما يمضغ ويهضم.
وفحوى ذلك بعبارة أخرى أن بعض الكتب يتصفحه القارئ جزءا من هنا وجزءا من هناك، وبعضها يتصفحها القارئ بغير اشتياق أو عناية، وبعضها يستوعبه القارئ جميعا بما في وسعه من جلد ومثابرة وانتباه.
كذلك من الكتب ما تنيب عنك غيرك في الإلمام بمضامينه، واقتباس شواهده ومختاراته، وهي من الكتب المرجوحة في القيمة والمرتبة الفكرية. وما زال من دأب الكتب المستقطرة أن تشبه السوائل المستقطرة التي لا طعم لها ولا نكهة.
إن المطالعة تنشئ الرجل المتمم، والمشاورة تنشئ الرجل المستعد، والكتابة تنشئ الرجل المحكم؛ ولهذا يحتاج الرجل إلى ذاكرة كبيرة إذا كان قليل الكتابة، وإلى بديهة حاضرة إذا كان قليل المشاورة، وإلى حيلة كبيرة إذا كان قليل القراءة، فيتسنى له أن يبدي من العلم والمعرفة ما ليس لديه. •••
والقراء يقتبسون الحكمة من التواريخ، والفطنة من الأشعار، والدقة من الرياضيات، والعمق والرصانة والخلق والمنطق، وقوة المعارضة من الفلسفة الطبيعية والعلوم التجريبية.
وما من عقبة في التفكير إلا وفي وسعك أن ترفعها، وتذللها بمعالجة الدراسة شأن الفكر في ذلك شأن الجسد، إذ يعالج النقص فيه بالرياضة والتمرين، فتعالج العروق والمفاصل بكرة المضارب، وتعالج الرئة والصدر بالرماية، وتعالج المعدة بالسير الرفيق، ويعالج الرأس بالركوب، إلى أشباه ذلك من ضروب العلاج بالرياضة والتمرين.
وعلى هذا النسق يعالج شرود الذهن بالرياضيات؛ لأن المشتغل بالرياضة يضطر إلى البدء من أول المسألة إذا شرد ذهنه ولو لمحة قصيرة.
كما يعالج العجز عن التفرقة بين الأشياء بمتابعة الفطاحل المتبحرين من علماء الكلام؛ لأنهم يشقون نقير الحبة شقين!
وكذلك يعالج ضعف الاستدلال واستحضار الأمثلة والشواهد بدراسة قضايا المحامين، وقس على ذلك كل قصور في الذهن، فهو ميسور العلاج برياضة ذهنية من هذا القبيل.
الإلحاد
لأهون علي أن أصدق جميع الأعاجيب التي في كتب الأولين وفي التلمود والقرآن من أن أصدق أن هذه البنية الكونية خلو من العقل.
وأرى أن الله لم يخلق قط معجزة لإقناع الملحدين؛ لأن خلقته العامة حرية أن تقنعهم إن كان بهم مقنع.
والحق أن قليلا من الفلسفة يجنح بالإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يرد العقول إلى حظيرة الإيمان.
وإذا وكل العقل بالأسباب الثانوية، وهي مبعثرة ولا تناسق بينها وقف هنالك أحيانا ولم يتجاوزها إلى ما وراءها.
ولكنه متى لمح التسلسل بين حلقاتها والاتصال بين أجزائها لم يكن له بد من اللياذ بالقدرة الخالقة والحكمة الإلهية.
لا بل يأتي الدليل على صدق الإيمان من أكثر المدارس الفلسفية عرضة للاتهام بالإلحاد، ونعني بها مدرسة ليوسبس وديمقريطس وأبيقور؛ ولأن يقال: إن العناصر الأربعة المتغيرة والعنصر الخامس الذي لا يتغير تستغني عن الله بما فيها من قدرة التألف والتركيب - ذلك أدنى إلى القبول من أن يقال إن هذا الجيش الذي لا يحصى من الذرات الصغيرة ينتظم على هذا الوضع الجميل بغير قيادة إلهية.
والتنزيل يقول: «إن الأحمق قال في نفسه أن لا إله.» ولم يقل: إنه فكر في نفسه.
فإنه ليهجس بها على هواه، ولكنه لا يستطيع أن يؤمن بها حقا وصدقا أو يبلغ بها من عقله مبلغ الإقناع. وما من أحد ينكر وجود الله إلا أولئك الذين يوافقهم أن يكون الله غير موجود.
ولا يظهر من شيء من الأشياء أن الإلحاد على الشفاه وليس في صميم القلوب كما يظهر ذلك من لفظ الملحدين حين يتحدثون برأيهم، كأنهم ضعفوا عن احتماله في قرارة أنفسهم، فهم يبغون القوة عليه من موافقة الآخرين.
وأكثر من ذلك أن ترى الملحدين يسعون في جمع المريدين حولهم، كما ينبغي للطوائف المؤمنة، وأكثر من هذا وذاك أنهم يحتملون التضحية في سبيل الإلحاد ولا ينكصون عنه. فما بالهم يشقون أنفسهم إن كانوا يحسبون حقا أن لا إله؟
ويعزى إلى أبيقور أنه كان يتوخى المصانعة بما لا يعيبه حين قرر ما قرر عن الطبائع المباركة، التي تستوفي متعتها دون التفات إلى حكومة العالم العليا، ويزعمون أنه كان يداور ويراوغ وهو في سريرته لا يؤمن بوجود الله، ولكنه على التحقيق مظلوم فيما اتهم به؛ لأن كلماته نبيلة قدسية إذ يقول: «ليس من الرجس أن تنكر أرباب العامة، وإنما الرجس أن تعزو أقوال العامة إلى الأرباب.»
فلو كان أفلاطون قائل هذه الكلمات لما زاد، وإنه وإن بلغت به الثقة أنه ينكر التدبير لم تبلغ به القوة أن ينكر الطبيعة.
وقد اتخذ أقوام كهنود أمريكا الأسماء لأربابهم الخاصة، وإن لم يتخذوا اسما واحدا لله. فهم على ديدن الوثنيين الأقدمين، حيث كانوا يدعون من أربابهم جوبيتر وأبولو ومارس، ولا يدعون اسم الله الأعظم، ويؤخذ من ذلك أنه حتى القبائل البربرية تدرك الفكرة وإن لم تصل إلى متسع آفاقها، فكأنما اجتمع على إدحاض الملحدين أعرق الناس في الهمجية وأقدر الفلاسفة على الفهم والنفاذ إلى الحقيقة.
وإن الملحدين المفكرين لقليلون، تلقى منهم دياجوراس وبيون ولوسيان وواحدا هنا أو هناك، ولكنهم مبالغ في أمرهم ... إذ كان الناس يحسبون كل من ينكر ربا خاصا أو عقيدة خاصة من الملحدين.
أما كبار الملحدين فمنافقون لا يزالون يمسون القدسيات بغير شعور، حتى ينتهي بهم الأمر إلى فساد الضمير.
ومن دواعي الإلحاد كثرة الشيع في الأديان، فإن شيعة من الشيع الكبيرة عسية أن تلهب حماسة العقيدة في قلوب الشيعة الأخرى. أما الشيع الكثيرة فمجلبة للشك والإلحاد.
ومن دواعيه فضائح رجال الدين، حين يبلغ من سوء حالهم أن يقال فيهم كما قال القديس برنارد: «كانوا في القديم يقولون: كيفما يكون الشعب يكون قسيسوهم. أما اليوم فليس هذا مما يقال لأن الشعب خير من القسيسين.»
وداع ثالث للإلحاد تعود بعض الناس ألا يتورعوا عن التهزئة بالشعائر المقدسة، فلا يزال ذلك دأبا لهم حتى يعصف في نفوسهم بهيبة الدين.
وإذا شاع التعلم - ولا سيما في أيام الرغد والرخاء - فذلك داع آخر من دواعي الإلحاد؛ لأن أيام العسر والمحنة تلوذ بعقول الناس إلى حظيرة الدين.
ولتعلم أن الذين ينكرون الله يهدمون كرامة الإنسان، إذ كان الإنسان بجسده قريبا من الحيوان، فإن لم يكن بروحه قريبا من الله فهو مخلوق لئيم خسيس.
كذلك يهدم من ينكرون الله مروءة الإنسان وما في طبعه من سمو وشرف، ولنراقب ذلك في مثال الكلب وما يتمثل فيه من الكرم والشجاعة حين تشمله رعاية مولاه، وهو عنده بديل من الإله، أو طبيعة عليا بالقياس إليه، وما كانت لتخامر مخلوقا مثله تلك الشجاعة لولا اعتماده على طبيعة خير من طبيعته تكلؤه وترعاه.
والإنسان على هذا المنوال يستجمع القوة واليقين الذي لا قبل للطبيعة الآدمية به حين يركن إلى العناية الإلهية والرعاية السماوية.
فالإلحاد وهو خلة بغيضة من شتى الوجوه يزداد بغضا بهذه الجناية التي تحرم الطبيعة الآدمية وسائل الترفع عن ضعتها والسمو على ضعفها.
وشأن الأفراد في ذلك شأن الأمم والأقوام، وما تناهت النخوة بآل رومة إلا من ذاك، كما قال شيشرون وهو يخاطب أبناء قومه: «سادتي، إننا نكبر أنفسنا ما نشاء، ولكننا على أية حال لا نفوق الأسبان في الكثرة ولا الغاليين في القوة، ولا القرطجنيين في الحيلة، ولا الإغريق في الفن، بل لا نفوق الإيطاليين واللاتين في الغرام الفطري بهذا الوطن وهذه الأمة، ولكننا في التقوى أو الحاسة الدينية، أو في تلك الحكمة الخاصة التي ترجع بتدبير جميع الأشياء وهدايتها إلى العناية الإلهية - نحسبنا قد تفوقنا ولا ريب على جميع الأمم وجميع الأقوام.»
الظن
الظنون بين الأفكار كالخفافيش بين الطيور، لا تطير إلا في غسق المساء.
ومن الحق أن تكبح أو تراقب على حذر؛ لأنها تغيم على العقل وتضيع الأصدقاء وتعطل العمل، فلا يجري في مجراه على استقامة وسهولة.
وهي تغري الملوك بالطغيان والأزواج بالغيرة والحكماء بالتردد والوجوم، وهي عيوب في الرءوس لا في القلوب؛ لأنها تتسل إلى أقوى الطبائع كما رأينا في مثال هنري السابع ملك هذه البلاد، فلم يكن قط رجل أقوى منه ولا أميل منه مع الظنون، وذاك الذي يعصم بعض العصمة، فلا ينجم من الظن إلا اليسير من الأضرار؛ لأنه لا يؤخذ على علاته ولا يقبل إلا بعد امتحان وترجيح.
ولكنه سريع التمكن في الطبائع التي يملكها الخوف، ولا شيء يدعو إلى إفراط في الظن من الإقلال في العلم اليقيني، فمن التمس دواء للظن فليلتمسه في زيادة العلم واستقصائه، ولا يقنع بكظمه والسكوت عليه.
وماذا يبغي الناس يا ترى؟ أيحسبون أولئك الذين يستخدمونهم أو يعاملونهم قديسين وملائكة؟ أيخفى عليهم أنهم ينشدون مآربهم ولباناتهم، ويخلصون لأنفسهم فوق إخلاصهم لغيرهم؟
فخير ما نكفكف به من جماح الظنون، ونردها به إلى الاعتدال أن ننظر إليها كأنها صادقة لا غرابة فيها، وأن نصدها كأنها كاذبة لا دليل عليها، ومن حسب الظنون صدقا كان ذلك أحرى أن يمنع ضررها ويسبقه بالحيطة والوقاية. •••
إن الظنون التي يلفقها الذهن طنين، أما الظنون المصطنعة التي تنفثها في الرءوس همسات النمامين وأراجيف الوشاة فهي حمة لاسعة، وخير ما يصنع في هذه الحالة أن يعمد الظان إلى الصراحة، فيواجه النمام بمن ينم عليه، ويعرف إذن من حقيقة الأمر ما غاب عنه، ويصدم النمام فلا يعود إلى الوشاية والاختلاق.
إلا أنها خطة لا تحمد مع السفلة والوضعاء؛ لأنهم إذا انكشفوا بالتهمة لم يخلصوا قط بعد ذلك، والإيطاليون يقولون في أمثالهم: «إن الاتهام يحل من عهد الولاء» ... كأنما الظن يبطل دواعي الإخلاص وهو في الواقع قمين أن يمهد لها سبيل التبرئة والانتصاف.
الخرافة
لأن يتجرد الإنسان من كل فكرة عن الله خير من أن تكون له فكرة سيئة فيه؛ لأن الأولى نقص في العقيدة، أما الأخرى فهي ذم ومعابة.
فالخرافة عيب في حق الذات الإلهية.
وقد أحسن بلوتارك حين قال: «أحب إلي كثيرا أن يقول الناس: لم يوجد قط إنسان يدعي بلوتارك من أن يقولوا: إنه وجد وكان يأكل أولاده عند وضعهم!» كما يتحدث الشعراء عن زحل في الأرباب.
والعيب في الله أعظم، فالخطر فيه أعظم على الناس.
إن الإلحاد يدع للعقل سبيلا إلى تأمل الفلسفة والتقوى الطبيعية، والمبالاة بالقوانين والسمعة، وهي صالحة لهدايته إلى ضرب من الفضيلة الظاهرة، وإن لم ينتفع بهداية الدين.
ولكن الخرافة تنزع هذا كله، وتسيطر على العقول، ولم يحدث قط من أجل هذا أن اضطربت دعائم الدول من أجل الإلحاد؛ لأنه يفتح أعينهم لأنفسهم ولا يعدوها، وقد كانت الحضارة مستقرة في بعض العصور الجانحة إلى الإلحاد، كما كان عصر القيصر أوغسطس بين الرومان.
أما الخرافة فقد طالما أقلقت الدول، وطغت على جوانب الحكومة بأجمعها فعطلتها.
وصاحب السلطان في الخرافة هو الشعب الجاهل والحكماء تبع له في هذا السبيل، فهي تعكس وضع الأمور وتقلب عمل العقول.
وقد قال بعض الكهان بحق في مجمع ترنت، حيث شاعت آراء علماء الكلام: إن علماء الكلام هؤلاء يشبهون الفلكيين الذين يرسمون الأفلاك والمدارات والمراكز للسيارات والكواكب لتفسير حركاتها، حيث لا وجود في الخارج لتلك الرسوم، وكذلك علماء الكلام قد رسموا في عالم الدين طائفة دقيقة من الشعائر والمعالم؛ لتيسير مهمة الكنيسة.
وتنجم الخرافة من عناصر كثيرة منها المحافل والمراسم الرائقة، ومنها الإفراط في مظاهر التقوى المموهة، ومنها الإسراف في تعظيم الموروثات القديمة التي تثقل لا محالة على كاهل الكنيسة، ومنها احتيال رجال الدين لمنافعهم الخاصة، ومطامعهم الشخصية، والمغالاة في المقاصد الحسنة التي تفتح الباب للبدع، والأفانين المستحدثة، وإشراك التخمين الآدمي في الحكم الربانية مما هو خليق أن يضلل الخواطر ويبلبل الأذهان.
ومن عناصر الخرافة عصور البربرية ، وبخاصة تلك العصور التي يرهقها العسر والبلاء.
والخرافة السافرة شيء مشوه ممسوخ.
ومما يزيد في تشويه القرد أنه يشبه الإنسان، وكذلك شبه الخرافة بالشعائر الدينية، يزيدها مسخا على مسخ وتشويها على تشويه.
واللحم إذا فسد تولدت منه الديدان الصغيرة، وكذلك الشعائر الحسنة إذا فسدت تولدت منها تلك الشعوذات الصغيرة، والتقاليد المسفة التي لا طائل وراءها.
ومن الخرافة ما يدعو إليه اجتناب الخرافة، وذاك حين ينزع الإنسان الخرافة فيغلو في انتزاعها.
ولهذا وجب الحذر في هذا الباب كما وجب الحذر في كل تنظيف وانتقاء؛ لئلا يذهب الحسن مع القبيح، فلا يبقى هذا ولا ذاك، كما يتفق كثيرا حين يتصدى الشعب لمهمة الإصلاح.
الجمال
الفضيلة كالجوهر النفيس، أجمل ما يرى في التركيب البسيط، ولا شك أن الفضيلة ترى على أجملها في الجسد القويم، الذي لم تهزله رقة الملامح والقسمات، والذي يغلب فيه وقار السمت على وسامة الصورة، فقليلا ما يكون فرط الجمال مقرونا برجحان الفضيلة، كأنما الطبيعة كانت وهي تنشئ أصحاب الجمال الرائع في شاغل بإتقانه، واجتناب الخطأ في صنعه عن تحري الكمال في غير هذه المزية.
ومن ثم يبدو عليهم الصقل والتهذيب، وقلما يبدو منهم عظم المقدرة وعلو الهمة. فيملكون زمام السلوك ولا يملكون زمام الفضيلة.
على أنها قاعدة لا تطرد في جميع الأحوال، فقد كان أوغسطس وتيتوس فسباسيوس وفيليب الجميل ملك فرنسا وإدوارد الرابع وإسماعيل الصفوي جميعا من أقدر الرجال، ومن أجملهم في زمانهم.
والتعبير في الجمال مقدم على اللون والرشاقة فيه مقدمة على التعبير، بحيث يكون أجمل الجمال ذلك الجانب الذي لا تقوى الصور على تمثيله، بل لا تستوعبه العين لأول نظرة.
وما من جمال فائق قط يخلو من غرابة التناسب بين أجزائه، ولا ندري لهذا أي المصورين أسخف وأهزل في فنه: زيكوس اليوناني أو ألبرت دورر الألماني، فذاك يعمد إلى النسب الهندسية في تصويره، وهذا يجمع شتى المحاسن من الوجوه المختلفة؛ ليتقن منها تصوير وجه واحد، فلا يستحق صنعهم الإعجاب من غيرهم فيما أرى، وإنما المصور كالموسيقي حين يستهوي الأسماع بوحي روحه، وإلهام سليقته لا بتوفيق الأنغام من القواعد والأوزان.
وقد تلمح العين وجها تتأمله قسمة قسمة، فلا ترى في كل قسمة منه ما يروق ويونق، ولكنه مع هذا في جملته رائق المحيا وسيم الطلعة.
وإذا صح ما قيل من أن قوام الجمال رشاقة الحركة، فلا عجب أن ترى الناس مع السن يزدادون في السمت والوسامة، كما قيل في المثل القديم: جميل خريف الجميل.
فالسمت في الشباب لا يتاح بغير تجميل ومجاوزة، والسمت فيه مدين لسن الشباب.
والجمال بعد كفاكهة الصيف يسرع إليها العطب، ولا يقسم لها الدوام، ويتفق كثيرا أن يقود الشباب إلى العربدة، ويخل باتزان الشيخوخة، ولكنه مع هذا يزيد بهاء الفضيلة، ويحجب دمامة الرذيلة حين يصان عن الابتذال.
الانتقام
الانتقام ضرب من العدل الآبد الجموح، كلما هجمت عليه طبيعة الإنسان وجب على القانون أن يمحوه ويقتلعه، فإن العدوان الأول لا يتجاوز أن يكون إساءة إلى القانون، أما الانتقام لذلك العدوان فهو يعطل عمل القانون وينزع وظيفته من بين يديه.
والمنتقم ند للمعتدى عليه، ولكن المسامح الغفور أعلى منه وأكرم، وما زال من شأن الأمراء أن يهبوا العفو والغفران، وقد قال سليمان الحكيم: «مجد الإنسان أن يمر بالإساءة مر الكرام.»
وما مضى فات ولا يعود، وحسب العقلاء ما يشغلهم من شئون الحاضر والمستقبل، وإنما يعبث في حق نفسه من يعنيها بما مضى من أوقاته وشئونه.
وما من أحد يبغي أن يسيء حبا للمساءة، وإنما يسيء المسيء طلبا لمنفعة أو مسرة أو رفعة، فما بالي أغضب على إنسان لأنه يحب نفسه فوق حبه إياي؟ أما الذي يسيء لأنه مطبوع على الإساءة، فالغضب منه أعجب؛ لأن مثله كمثل الشوك الذي يخدش ويطعن؛ لأنه لا يحسن غير ذلك.
إن أدنى الانتقام إلى القبول لذاك الانتقام للإساءات التي لا يصلحها القانون، ولكن على المنتقم في هذه الحال أن يجعل انتقامه كذلك، بحيث لا يعاقب القانون عليه، وإلا كان عدوه راجحا عليه، وقد بادله واحدة باثنتين!
ومن الناس من إذا انتقموا أحبوا أن يعرف غريمهم من أين جاءته النقمة، وهو أدنى إلى الكرم والنخوة، إذ لا تكون غبطة المنتقم بمحض الضرر، بل بحمل غريمه على الندم، إلا أن الطبائع اللئيمة الماكرة ترسل انتقامها كالسهم الذي ينطلق في الظلام.
وقد كانت لكوسموس دوق فلورنسة كلمة يائسة يقولها عن أصدقائه الخونة، كأنه يرى أن أشباه هذه الأخطاء لا تقبل الغفران، فكان يقول: «إننا أمرنا بأن نغفر لأعدائنا ولم نؤمر بأن نغفر لأصدقائنا.»
ولكن سجية أيوب قد ارتفعت إلى نغم أجمل وأفضل حين قال: أنأخذ من يد الله ما يسر، ولا نرضى أن نأخذ منها ما يسوء؟
وهكذا يكون القول في الأصدقاء على قدرهم.
ومن المحقق أن الرجل الذي يفكر في الانتقام يبقي جراحه مفتوحة دامية، وهو لولا ذلك أحرى أن تندمل وتبرأ.
والانتقام العام على الأرجح مقرون بالتوفيق، كالانتقام لموت قيصر وبرتيناكس وهنري الثالث الفرنسي وغيرهم كثيرون.
أما الانتقام الخاص فالأمر فيه على خلاف ذلك؛ لأن الرجل الحقود الذي لا يصفح يعيش عيشة السواحر بين الأذى والكيد والبأساء.
الشدة
كانت كلمة عالية من سنيكا على نمط الحكماء الرواقيين، حيث قال: «إن حسنات الرخاء موضع رغبة، أما حسنات الشدة فموضع إعجاب.»
والمعجزات - إذا كانت هي السيطرة على الطبيعة - فهي إذن أظهر ما تكون في أيام الشدة والبلاء.
وأعلى من تلك الكلمة - أعلى جدا مما ينتظر من وثني - قوله: «إن العظمة الحقيقية أن يكون لك ضعف إنسان ومنعة إله.»
وإنها لكلمة أحق بالشعر المنظوم، حيث تسوغ هذه المبالغات، وقد شغل الشعراء حقا بهذا المعنى، وهو الملحوظ في تلك الأسطورة التي لا تخلو من سر وتعد من أقرب الأساطير إلى روح المسيحية، ونعني بها أسطورة هرقل حين ذهب لإطلاق برومثيوس، فعبر البحر اللجي في قدرة من فخار، وكأنما تمثل هذه الأسطورة عزيمة المسيحي الذي يعبر أمواج هذه الدنيا في زورق واهن من اللحم والدم.
ونهبط من شاهق المبالغات فنقول: إن فضيلة الرخاء هي الاعتدال، وفضيلة الشدة هي الصبر والعزم الجليد، وهي في مراتب الأخلاق أسمى وأشبه بالبطولة .
والرخاء بركة العهد القديم، أما الشدة فهي بركة العهد الجديد الذي هو طبقة من هداية الله أرفع، ومن وحي الله أوضح وأصفى.
على أنك - حتى في العهد القديم - تسمع من مزامير داود نوح المآتم كما تسمع أناشيد الأعراس، وقد كانت عناية الكتاب بتفصيل محنة أيوب أكبر من عنايته بمتع سليمان.
وما خلا الرخاء قط من محاذر ومشنوءات، ولا خلت الشدة قط من سلوة ورجاء.
وقد نتبين العبرة في مصنوعات الوشي والتطريز، حيث نرى أن الظهارة المفرحة على البطانة القاتمة أسر وآنق من الظهارة القاتمة على البطانة المفرحة، وخليق بهذا أن يطرد في الحكم على مسرة القلوب، كما يطرد في مسرة العيون.
والحق أن الفضيلة كالعطر النفسي أجمل ما يسطع حين يحرق أو يعرك، ومن شأن الرخاء أنه أصلح ما يكون لكشف الخسة والرذيلة، أما الفضيلة والعظمة فلا يكشفهما شيء كالمحنة والبلاء.
الموت
يخاف الناس الموت كما يخاف الأطفال ولوج الظلام، ويزداد خوفهم بالأحاديث والروايات كما يزداد خوف الأطفال.
والتأمل في الموت كأنه «أجرة الخطيئة»، ومجاز العالم الآخر ورع وصلاح، ولكن الخوف منه - كأنه حق على طبيعة الأحياء - جبن وخور.
وقد جاء في كلام رجال الدين عن الموت مزيج من الوهم والغرور، فأنت تقرأ في بعض كتبهم عن صرعات الموت أن الإنسان قمين أن يعرف ما فيها من الألم إذا أصيب في طرف إصبعه، فيقيس عليه ألم الجسم كله حين يعمه الفساد والانحلال، مع أن الموت كثيرا ما يحل بالإنسان وألمه أهون من ألم جارحة من الجوارح، وليست أهم الأعضاء أسرعها حسا، بل حقيقة الأمر أن حواشي الموت أرهب من الموت نفسه، كما يفقه من هو فيلسوف وعالم بطبائع الأشياء، فإن الأنين والاختلاج وبكاء الإخوان ولباس الحداد، ومشهد الجنازة وما شباهها لهي التي تظهر لنا الموت في ذلك المظهر المفزع المرهوب.
وحقيق بالالتفات أنه ما من سورة في نفس الإنسان إلا وهي كفؤ، بل غالبة للخوف من الموت، فلا يكونن الموت إذن ذلك العدو المرهوب حيث يكون الإنسان في هذه الصحبة - صحبة السورات النفسية - التي تتيح له مناجزته والغلبة عليه!
فالانتقام يغلب الموت، والحسب يستهين به، والشرف يتطلع إليه، والحزن يطير إليه، والخوف يذهل عنه، بل نحن نعلم من تاريخ العاهل «أوتو» أن كثيرا من الناس قتلوا أنفسهم حنوا ورحمة حين ذبح مليكهم نفسه، وهم من أصدق رعاياه.
ويضيف «سنيكا» رونقا إلى المعنى حين يقول: «قد يموت الرجل وليس بشجاع ولا بائس، إنما يموت سآمة من حياة يكرر فيها الشيء بعد الشيء مرات.»
ومما هو أجدر مما تقدم بالالتفات أن نلاحظ ضآلة ما يحدثه الموت من التغير في جأش بعض المحتضرين، الذين يظلون على حالهم من الثبات إلى الرمق الأخير، فمات أوغسطس وهو يحيي زوجته قائلا: «ليفيا! تذكري حياتنا الزوجية وعيشي واسعدي.»
ومات طيبريوس كما قال المؤرخ تاسيتس، وهو يهبط في قوة الجسد ولا يهبط في قوة الدهاء والمواربة، ومات فسباسيان مازحا وهو يجلس على المقعد قائلا: «أحسبني سأصير إلها.» ومد غلبا رقبته وهو يصيح بالجلاد: اضرب إن كان في ذلك خير لأمة الرومان، وقال سبتيموس سفيروس: انظر هل بقي لي ما أعمل!
إلى كثير من أمثال ذلك.
ولقد غلا الرواقيون في العناية بأمر الموت حتى ضاعفوا الرهبة منه بكثرة التأهب له والعناية به، وأحسن من ذلك أن يقال: إن الرقدة الأخيرة تحسب من نعم الحياة، ومن الطبيعي أن يموت الإنسان كما يولد، بل ربما كان كلاهما للطفل الصغير على درجة واحدة من الألم.
إن الذي يموت في مسعى مجد حثيث لكالذي يجرح في حمية الجهاد لا يحس ساعة الجرح بألمه، ومن ثم يستطيع العقل المستغرق في العمل النافع أن يتجنب مخاوف الموت، وصدقني أن أعذب الأنغام لهي نغمة المنشدين: «الآن تظلل عبدك يا سيد حسب قولك بسلام.» حينما يبلغ الإنسان غاية مسعاه، ويحقق الرجاء فيه.
ومن مزايا الموت أنه يفتح الباب للذكر الحسن، ويخمد جذوة الحسد كما قيل: إنك ستحب حين تموت.
حكمة المعاش «أو حكمة المرء لنفسه»
النملة مخلوق حكيم في شئون نفسه، ولكنه خبيث في شأن البستان أو الحديقة، وكذلك الحكماء من الناس في أمور أنفسهم يهدرون المصالح العامة في سبيلها.
والواجب أن تقسم بين حب النفس وحقوق المجتمع قسمة رشيدة، وليكن من صدق إخلاصك لنفسك ألا تكون غاشا لغيرك، ولا سيما الملك والوطن.
وإنه لمحور ضئيل أن يدور عمل الإنسان كله حول أثرته وهواه، تلك نزعة أرضية لا تعرف غير مركزها، على حين تدور الكائنات التي لها قبس من السماء جميعا حول كائن آخر تتحرى موافقته.
والرجوع بكل شيء إلى «الذات» خصلة ترتضى من الأمير المالك؛ لأن ذاته في الواقع ليست بذاته وكفى، وإنما يعود خيره وشره على حظوظ الأمة بأسرها.
أما أن تكون هذه الأثرة في نفس رجل من رعايا الملك، أو خادم من خدام الجمهورية فذلك هو الشر الموبق، إذ ما من قضية تمر بيديه في هذه الحالة إلا وجهها إلى وجهته، التي تختلف كثيرا لا محالة عن وجهة سيده وحكومته.
ولهذا وجب على الأمراء والحكومات أن يختاروا أعوانهم من غير أصحاب هذا الخلق، إلا أن تكون وجهتهم التي يخدمونها تالية في اعتبارهم للوجهة العامة، فمما يضاعف الشر أن خلق الأثرة في الأعوان يخل بحدود التناسب كل الإخلال؛ لأن تقديم مصلحة التابع على مصلحة المتبوع فيه الكفاية من الإخلال بتناسب الأمور، فإذا تمادى به الشطط حتى يجعل مصلحته الصغيرة مقدمة على مصالح سيده الكبرى، فذلك هو النهاية في قلب الأوضاع.
وتلك هي حال أعوان السوء من الولاة والخزنة والسفراء والقادة وغيرهم من خونة الموظفين والمستخدمين، الذين ينقادون لمآربهم ومنافساتهم، ويهدرون في سبيلها أهم المصالح الموكولة إليهم من سادتهم، وهذا فضلا عن أن النفع الذي يأخذونه شبيه بأقدارهم، وأن الضرر الذي يبذلونه في لقائه شبيه بأقدار أولئك السادة، ويصدق فيهم حينئذ أنهم كالذي يحرق البيت كله ليشوي على الحريق بيضات لطعامه.
ومن العجب أن أمثال هؤلاء يظفرون أحيانا بالحظوة عند سادتهم؛ لأنهم يصرفون همهم كله إلى مرضاة السادة ومنفعة أنفسهم، وينسون مصلحة العمل في سبيل هذين الغرضين.
وعلى هذا يقال: إن حكمة المرء لنفسه شيء معيب ، وفيه مشابهة لحكمة الجرذان التي تستوثق من هجر المنزل قبل سقوطه، أو حكمة الثعلب الذي يطرد السرعوب الذي يأويه في حجره، أو حكمة التمساح الذي يذري الدمع وهو يلتهم فريسته!
وجدير بالتنبه إليه ها هنا أن أولئك الذين يصفهم شيشرون بأنهم «محبو أنفسهم بغير مزاحم» هم من وجوه عدة تعسون، يضحون بكل شيء لإسعاد حظهم، ثم يصبحون في نهايتهم ضحية نزوة من نزوات الحظ القلب الذي خيل إليهم أنهم قبضوا على جناحيه.
المكر
المكر في عرفنا ضرب من الحكمة العسراء أو الحكمة العرجاء، والفرق كبير بين رجل حكيم ورجل ماكر، ولا نعني الفرق في النزاهة وحسب، بل نتجاوزها إلى الفرق في المقدرة والكفاءة.
وقد يحسن الرجل تنضيد الورق ولكنه لا يحسن اللعب، وعلى هذا النحو يحسن الرجل الدس والمكيدة، وهو فيما عدا ذلك عاجز ضعيف.
ولنعلم أن فهم النفوس شيء وفهم المسائل والأمور شيء آخر، فكم من رجل ذي حظوة مع الناس لا يضطلع بعمل كبير، وهو في الغالب نمط الرجال الذين درسوا الناس فوق دراسة الكتب والعلوم، وأمثال هؤلاء هم أصلح للحيلة والمداراة منهم للمشورة والنصيحة، ولا يصلحون مع ذلك إلا في البيئات التي درجوا عليها، فلا يلبثون أن يضلوا الطريق إذا وضعتهم بين رفاق غير رفاقهم ومعشر غير معشرهم، ومن ثم لا تصدق عليهم كلمة الأول الذي قال: «إن أردت أن تعرف الأحمق من الكيس، فأرسلهما عاريين وانظر ماذا يصنعان.»
وإنما هؤلاء المكرة كالبائع الطواف الذي يلفق في تجارته البخسة بين بعض السلع الصغيرة، فليس من العسير أن تفضح هنا سر بضاعتهم المزجاة.
فمن ضروب المكر أن تطيل النظر بعينيك إلى من تحدثه على دأب اليسوعيين، وكأي من عاقل له قلب مكنون وطلعة صافية! وقد يحدث ذلك بالإغضاء أحيانا في حياء ووداعة كدأب اليسوعيين كذاك.
ومن ضروبه حين تكون حريصا على بلوغ مأرب هام أن تلهي من لديه هذا المأرب بأحاديث أخرى في غير هذا الصدد؛ لكيلا يتيقظ للاعتراض والمناقشة، وقد عرفت مستشارا من أمناء السر لم يمثل قط بين يدي الملكة اليصابات لتوقيع بعض الأوراق، إلا بدأ الحديث في معارض شتى من أحوال الدولة؛ ليصرف اهتمامها عن تلك الأوراق.
وشبيه بهذه المفاجأة أن تبعث المسائل لصاحب الشأن وهو في عجل لا يتيح له أن ينعم النظر فيما هو معروض عليه.
وإذا أحب أحد أن يعرقل عملا يتوقع من غيره أن يعرضه على نحو مقبول، فعليه هو أن يصطنع الغيرة على إنجازه، ويبادر بعرضه على النحو الذي يستوجب إحباطه والنفرة منه.
واعلم أن اقتضابك الحديث كأنك هممت بقول، وعدلت عنه هو من دواعي الفضول في نفس محدثك، ويضاعف اشتياقه إلى المزيد.
وأجدى لك أن تلقي الكلام بعد سؤالك عنه من أن تتبرع به غير مسئول، فعليك أن تطرح لمحدثك طعما للسؤال بتغيير سحنتك التي تعودها منك، فينفتح أمامه الباب لسؤالك عن علة هذا التغير، كما صنع نحميا «يوم أراد أن يسأله الملك في الأمر الذي يعنيه، فبدا مكمدا أمامه على غير مألوفه». فبادر الملك إلى سؤاله: «لماذا وجهك مكمد وأنت غير مريض؟»
ويحسن في الأمور الحساسة المسيئة أن ترود الطريق أولا بكلام ليس بذي بال، وتؤجل الكلام الخطير إلى أن يأتي عرضا كأنه غير مقصود.
كما صنع نرجس حين قص على العاهل كلوديوس نبأ بناء زوجته مسالينا بزوج آخر في حياته هو الشيخ سيليوس
Silius .
ويحسن في المسائل التي يحب المرء أن يواري فيها بواطنه أن يستعير لسان الدنيا ليقول ما يريد، فيقول مثلا: إن «الدنيا كلها تتحدث بهذا، وإنه قد شاع على الألسنة كيت وكيت.»
وقد عرفت رجلا كلما أرسل كتابا في مسألة تعنيه أضافها إلى ذيل الحاشية، كأنها جاءت بغير اكتراث.
وعرفت آخر كلما تهيأ للكلام تخطى ما يعنيه خاصة، ومضى إلى غيره، ثم عاد إليه كأنه قد أوشك أن ينساه.
وآخرون يهيئون لمن يقصدونهم فرصة مفاجأتهم وفي أيديهم خطاب أو عمل مستغرب منهم، حتى يساقوا إلى البوح بما هم راغبون في بيانه.
ومن ضروب المكر أن توحي إلى غيرك بكلام يقوله بدلا منك، ثم تستفيد من نسبته إليه.
وقد عرفت رجلين كانا يتنافسان على منصب من مناصب أمانة السر عند الملكة اليصابات، ولكنهما بقيا على وفاق بينهما يتشاوران في المسألة، ولا يظهران المنافسة، فقال أحدهما لصاحبه: إن أمانة السر في عهد إدبار الدولة عمل محرج فهو لا يتطلع إليها، فذهب صاحبه يعيد هذه الكلمات مع رفاقه، ويقول: إنه لا يجد باعثا له إلى طلب أمانة السر في عهد الإدبار، فأسرع منافسه وعني بإبلاغ الملكة هذا الكلام على لسان غيره، فغضبت الملكة أشد الغضب من وصف عهدها بالعهد المدبر، ولم تكن من ساعتها تطيق ترشيح الرجل لتلك الوظيفة.
وفي إنجلترا ضرب من المكر يصطلحون على تسميته «بتقليب القرص في المقلاة»، وفحواه أن يفضي الرجل بكلام إلى محدثه، ثم يزعم أن محدثه هو الذي أفضى به إليه، ولا ريب أنه لمن أعسر الأمور إذا كان مدار الحديث بين اثنين أن تعرف من منهما المبدئ به ومن المعيد.
ومن أساليب إلقاء الشبهات عند بعض الناس أن يعمدوا إلى ذكرها بصيغة النفي والتلميح! كذلك فعل تيجلينس
Tigellinus
وزير نيرون، إذ التفت إلى برهوس
Burrhus ، وقال: «إنني لا أرى موضعا للخلاف إلا من حيث تمس سلامة الإمبراطور.»
ومن الناس من لا يزالون على استعداد بصنوف من الحكايات والنوادر، بحيث لا يومئون إلى شيء أو يوعزون به إلا استطاعوا أن يضمنوه حكاية أو نادرة، فيجمعون بين الاحتراس في الحديث وبين الإفضاء به في قالب يسر سامعيه.
ويعد من أفانين المكر الناجح أن يصوغ المرء الجواب الذي يريده في قالبه هو وتعبيره، فيقل التشبث به من الطرف الآخر.
وأغرب ما يلاحظ أن تراقب بعضهم كم يطول انتظارهم للوقت الذي يفوهون فيه بطواياهم، وكم يحومون ويحومون حول الغاية التي يتعمدونها، وكم يطرقون من المواضع البعيدة؛ ليقتربوا من تلك الغاية ... إنه لصبر عجيب ولكنه غير قليل.
ويتفق كثيرا أن يؤدي السؤال الجريء المفاجئ إلى استطارة الإنسان وفتح مغاليقه، ومن هذا القبيل ذاك الذي بدل اسمه وخرج يتمشى، فغافله بعضهم من ورائه وناداه على غرة باسمه الصحيح ، فنسي نفسه واستدار على عجل إليه.
ولا نهاية لهذه الأفانين الصغيرة من بضاعة المكرة، وحبذا لو تيسر إحصاؤها جميعا في سجل محفوظ، إذ ليس أضر بالدول من الاغترار بالمكرة، وحسبانهم حكماء وعقلاء.
على أن بعضهم قد يعرف ضروب المكر، ولا يعرف مع هذا مداخلها ومخارجها، مثلهم مثل البيت الذي حسنت أبوابه وسلالمه، ولم تحسن حجرة واحدة من حجراته، فتراهم ينتهون إلى حلول مقبولة، ولكنهم لا يقدرون على بحث المسائل ومناقشتها، ويروقهم كثيرا مع عجزهم هذا أن يحسبوا من ذوي القدرة على العبث بالآخرين وتسخيرهم، ويعتمدون على غش الآخرين دون المبالاة بصواب تصرفاتهم، ولكن سليمان الحكيم يقول: «حكمة الذكي فهم طريقه وغباوة الجهال غش ... والغبي يصدق كل كلمة، والذكي يتنبه إلى خطواته.»
الفتن والقلاقل
رعاة الشعوب أحوج الناس أن يعرفوا علامات العواصف، التي تهب على الحكومات، وتشيع عندما تزول الفوارق وتتقارب الأقدار، كما تشيع عواصف الطبيعة عندما يتساوى الليل والنهار، وللدول علامات قبل هبوب العواصف عليها كتلك العلامات التي تشاهد في انطلاق الهواء وجيشان الماء قبل هبوب الأعاصير، وكثيرا ما تنذرنا الشمس - كما قال فرجيل - بما في الغيب من قلاقل هوجاء وحروب خفية.
ومن تلك العلامات شيوع الحملات والمثالب التي ترمى بها الحكومات، ووفرة الأخبار الكاذبة التي تحوم حول الحكومات وتتلقاها الأسماع بالقبول السريع، وقد نسب ڨرجيل الشهرة أو الإشاعة فقال: إنها أخت الجبابرة والعمالقة، وإن الأرض أوغرها الغضب على السماء، فأخرجت الشهرة أو الإشاعة من جوفها وكانت آخر الذرية.
وكأنما الإشاعات بقايا فتن مضت، وهي في الحقيقة طلائع فتن ستأتي من عالم الغيب، على أنه قد أحسن التشبيه حيث رأى أن الإشاعات والقلاقل لا تختلف فيما بينها، إلا كاختلاف الشقيقة من الشقيق والذكر من الأنثى، ولا سيما حين يصل الأمر إلى الحد الذي يساء فيه الظن بأجمل أعمال الحكومات وأدعاها إلى الرضى والثناء، وذاك كما قال «تاسيتس»: إن الشهرة السيئة إذا استعاض أمرها، واشتعل لهيبها كان سيئ الأعمال وحسنها على السواء من دواعي المقت والاستياء.
ولا يلزم من هذا أن الفتن تتقى بالصرامة المفرطة في قمع الإشاعات السيئة، إذ كانت هذه الإشاعات من علامات الفتنة، فإن احتقارها في كثير من الأحيان ربما كان أدعى إلى انقضائها، من حيث يطول أجلها بمحاولة القضاء عليها.
وينبغي الارتياب أيضا في ذلك الضرب من الطاعة، الذي تحدث عنه تاسيتس، حيث قال: «إنهم يؤدون واجباتهم، ولكنهم يؤدونها مع هذا وبودهم لو ينقدون رؤساءهم ولا ينقادون لهم.»
فإن اللجاجة والاتهام واللغط في حديث الأوامر والتدبيرات كلها نوع من نفض النير عن الأعناق ومحاولة العصيان، ولا سيما يوم يلاحظ أن الذين يدافعون عن الأوامر والتوجيهات يدافعون عنها هامسين هيابين، وأن الذين ينكرونها يعلنون إنكارها مجترئين غير حافلين.
وقد أحسن ماكيافيلي الملاحظة بانتباهه إلى سوء العاقبة، إذ يجنح الأمراء إلى جانب من جوانب الشعب، وهم أحجى أن يكونوا آباء لجميع أحزابه على السواء، فتلك أشبه الأحوال بحال الزورق الذي يوشك أن ينقلب لثقل الوسق فيه على جانب دون جانب، ومثل ذلك حدث في عهد هنري الثالث ملك فرنسا، إذ تحالف مع بعض رعاياه لاستئصال الطائفة البروتستانتية، ثم انقلب هذا الحلف عليه بعيد ذلك بقليل، وذاك أن سلطان الملوك إذا أصبح تابعا لقضية من القضايا، وأصبحت هناك قيود أوثق رباطا من رباط السيادة الملكية، فقد تزعزع مكانهم، ووهنت قبضتهم على زمام الأمور.
وعلامة من علامات فقدان الحكومة هيبتها أن تجري المنازعات والشحناء علانية وبغير تقية ومبالاة، فإن حركات عظماء الدولة ينبغي أن تجري على مثال حركات الكواكب والسيارات في المذهب القديم، إذ يرى أصحاب ذلك المذهب أن هذه الكواكب ينبغي أن تسرع الاستجابة لمصدر الحركة الأولى، وأن تتحرك هي حركتها الذاتية في رفق وسهولة.
فإذا شوهد أن عظماء الدولة في حركتهم الذاتية يعنفون بها ذلك العنف الذي ينزع منهم خشية ملوكهم كما قال تاسيتس، فتلك علامة الخروج من مدارها واضطراب أمرها، وما زال توقير الملوك هو الحزام الإلهي الذي يؤيدهم به الله ويحله متى شاء.
وعلى الناس أن يسألوا الله السلامة كلما اضطربت دعامة من دعائم الدولة الأربع، وهي الدين والقضاء والمشورة والخزانة.
ولندع هذا الحديث عن علامات الفتن لنزيده إيضاحا فيما يلي، ونأخذ أولا في الحديث عن مادة الفتنة، ثم بواعثها ثم وسائل علاجها.
فأما مادة الفتنة فشيء لا غنى عن دراسته مذ كان خير الوسائل لاتقاء الفتنة، حيثما اتسع الوقت لاتقائها أن تنزع منها مادتها، ونحن لا نعلم - والوقود حاضر مهيأ للاشتعال - متى تنقدح الشرارة التي تلهب فيه النار.
وعلى هذا نقول: إن مادة الفتنة على نوعين: أحدهما الفاقة، وثانيهما فرط السخط والتذمر، وقد تبينت هذه الحقيقة من مراقبة الكثير من الدول الدائلة والأحوال الحائلة، وقد لاحظ الشاعر لوكان
Lucan
أحسن الملاحظة طوالع الفتنة في رومة قبل الحرب الأهلية، فقال: «وهكذا نجم الربا وجشع المغانم فضياع الأمانة فالحرب التي يرجو منافعها كثيرون.»
فالحرب التي يرجو منافعها كثيرون علامة صادقة لا تخطئ من علامات الدول التي تتحفز فيها الفتن والقلاقل، فإذا اقترنت هذه الزعازع المالية بالضنك والحاجة الملجة في الطبقة الفقيرة فالخطر داهم عظيم؛ لأن ألعن الثورات ثورة البطون.
أما عناصر السخط والتذمر فهي في البنية السياسية، مثلها مثل الأخلاط في البنية الجسدية، كلما طغت عليها الحمى في حرارة لا تطيقها.
ولا يكن هم الملوك يومئذ أن يقيسوا الخطر بمقدار ما في الشكاية من الحق والباطل؛ لأن ذلك معناه أن الشعوب تحتكم إلى العقل والرشد، وهي في أحيان كثيرة تطأ على منافعها بقدميها من حيث لا تدري.
ولا يكن من همهم كذلك أن يقيسوا الخطر بكبر الشكاية التي من أجلها يثورون أو صغرها، فإن أخطر الشكايات لتلك التي يربى فيها الخوف على الألم كما قال پيتي في رسائله: «إن الألم له حدود، أما الخوف فليس له حدود.»
وعدا هذا يشاهد في المظالم الكبرى أن الأمور التي تبتلي الصبر تحد الشجاعة والجرأة في الوقت نفسه، وليس الأمر في الخوف والتوجس كذلك.
ولا يخطرن للملوك أن يأمنوا الاستياء؛ لأنه تكرر أحيانا وطال في أحيان أخرى دون أن تنجم عنه الفتنة، فإنه لصحيح ولا ريب أن الزوبعة لا تأتي من كل دخان أو بخار ، ولكنه صحيح كذلك ولا ريب أن الزوبعة تأتي في النهاية وإن تبدد الدخان حينا بعد حين، وصدق الأسبان إذ يقولون في أمثالهم: «إن الحبل ينقطع أخيرا بأضعف شدة!»
أما أسباب الفتن وبواعثها فهي البدع في الدين والضرائب، وتبديل الشرائع والعادات، وانتهاك الحقوق وحرمات الامتيازات، والظلم الشامل، والوفيات، وتسريح الجيوش واستيئاس الطوائف والأحزاب، وكل ما كان من شأنه الإساءة إلى الناس أن يجمعهم ويقرب بينهم في قضية عامة.
ولعلاج الفتن أصول عامة يمكن الكلام فيها، أما الشفاء الحق فلا مناص من الرجوع فيه إلى المرض الخاص، الذي يحسن تركه للبحث والمشورة، ولا توضع له الأصول والقواعد العامة.
وأول علاج أو وقاية هو أن تزال بجميع الوسائل الميسورة مادة الفتنة، وهي الضنك والفاقة، ويعتمد في ذلك على حسن الموازنة في التجارة وإحياء الصناعة، ومحاربة الكسل والبطالة، ومنع التبديد والإسراف بالقوانين الحازمة، وتحسين التربة الزراعية واستصلاحها، وتنظيم أسعار السلع المتداولة، والاعتدال في الضرائب والإتاوات وما إليها.
وتجب الحيطة أولا لعدد السكان في المملكة - وبخاصة تلك الممالك التي لم تستنفدها الحروب - لكيلا يتجاوز طاقة الإنتاج في البلد الذي يحتويهم، وليس المعول في ذلك على إحصاء العدد وحده؛ لأن العدد القليل الذي ينفق الكثير قد يستنفد الموارد قبل العدد الكثير الذي ينفق القليل، وازدياد النبلاء وذوي المكانة على القدر الملائم للعامة وسواد الشعب وشيك أن يصيب الدولة بالفاقة، ويقال مثل ذلك في زيادة الكهان ورجال الدين الذين لا يضيفون إلى إنتاج الأمة، وعلى هذا النحو زيادة المشتغلين بالعلم والدراسة على القدر الصالح للمنفعة.
ولا يغب عن الذاكرة أيضا أن الزيادة في ثروة بلد إنما تؤخذ من الأجنبي عنه، ولا توجد مع هذا إلا ثلاثة أصناف تباع بين أمة وأخرى، وهي الثمرات كما تخرجها الطبيعة والمصنوعات وجهد العمل والتوصيل، فإذا انتظمت هذه الموارد فاضت الثروة كما يفيض الجدول من الينبوع، ولا يندر أن يكون جهد العمل وتوصيله مربيا في القيمة على المادة نفسها وأجلب منها لغنى الدولة، كما يشاهد في الأمة الهولندية التي لها من المناجم فوق الأرض ما لا نظير له في الأرض كلها.
والسياسة الحسنة مقدمة في هذا الصدد على كل شيء، فلا يصح أن تجمع ثروات الدولة وأموالها في أيد قليلة، فيتفق في هذه الحالة أن تجوع الأمة ولديها الوفرة من الزاد، ومن صفة المال أنه كالسماد أصلج ما يكون إذا انتشر، وسبيل الوصول إلى ذلك أن تبسط يد الرقابة على الربا الفاحش والضياع الواسعة، التي تحول من الزرع إلى المرعى، وما جرى مجراها.
وإزالة أسباب السخط يرجع فيها إلى عاملين في كل دولة، وهما العلية وسواد الناس.
فحيثما يكون السخط مقصورا على فريق منهما دون فريق فالخطر غير عظيم؛ لأن سواد الناس بطيئون إلى الحركة ما لم يستنفرهم العلية؛ ولأن العلية قليلون لا يستقلون بحركة، اللهم إلا أن يكون سواد الناس على استعداد للحركة بغير تحريض من غيرهم، فهنالك الخطر الذي لا يملك فيه العلية إلا أن يتربصوا حتى تتدفق الأمواج الثائرة، ثم يتجهوا بعد ذلك وجهتهم.
وفي أخيلة الشعراء أن الأرباب قد ائتمرت بينها على تقييد كبيرها جوبيتر، فأشار عليه بالاس أن يرسل في طلب المارد بريارس
Briareus ؛ لينجده بأيديه المائة ... وهو رمز يدل الملوك على مبلغ السلامة في التعويل على حسن النية والإخلاص في السواد من الناس.
والحرية المعتدلة في التفريج عن الشكايات وأسباب السخط والاستياء وسيلة طيبة في اتقاء الفتنة ما لم تتجاوزه حدها إلى القحة والاجتراء، فإن حبس الأخلاط ورد القيح إلى الجوف يخلقان الدمامل والأدواء. •••
إن دور أبيمثيوس ليصلح لبرومثيوس في أحوال السخط والتذمر، إذ ليس ثمة عدة أصلح لاتقائها، فلما طارت الشرور من الحق عمد أبيمثيوس أخيرا إلى الغطاء، فحفظ الرجاء في قرارة الحق وأبقاه.
ومما لا مراء فيه أن استخدام السياسة والمحاولة في تغذية الآمال، وحمل الناس من أمل إلى أمل، هو من خير ما يتخذ ترياقا مانعا لسموم السخط والشكاية، وآية من الآيات على حسن تدبير الحكومة وسداد تصرفها، فتستولي على قلوب الرعايا بالأمل حيث يئودها أن تستولي عليها بالكفاية، وتعالج الأمور علاجا لا يأذن لشر من الشرور أن يستفحل، حتى لا تنفرج منه ندحة للرجاء، وذلك أهون الصعوبتين؛ لأن الأفراد والطوائف يجدون ثمة وسائل للعزاء وتمليق أنفسهم، أو يموهون على أنفسهم ما هم مرتابون فيه.
ومن الحيطة الحسنة والوقاية النافعة ألا يكون ثمة رأس صاح لاتفاق الناس حوله، والالتفاف به في أيام السخط والشكاية، ونعني بالرأس الصالح من له عظمة وسمعة وللساخطين به ثقة ورجاء، فيتطلعون إليه وهم يعلمون أنهم مثلهم ساخط من أجل شئونه التي تعنيه.
وأمثال هؤلاء الرجال إما أن تستميلهم الدولة وتسترضيهم جدا وحقا، وإما أن تقاومهم بنظراء لهم في الجماعة فيقسمونها عليهم.
وعلى الجملة لا تعد الحيلة في تفريق الطوائف التي تعادي الحكومة وإقصاء نفوذها وبث الوقيعة بينها محاولة غير محمودة عند الضرورة الميئسة، وهذه الضرورة هي ابتلاء الحكومة بالشقاق في أعمالها، وملاقاتها لخصوم متساندين بينهم متفقين عليها.
وأذكر أن بعض الأقوال اللاذعة البراقة التي يلفظ بها الأمراء كثيرا ما تلهب نيران الفتن والقلاقل، فقيصر قد أضر بنفسه غاية الضرر بقوله عن سولا: (إنه لا يعرف الكتابة ولذلك يملي إرادته.) لأن هذه التورية قد أيأست الناس من تخليه يوما من الأيام عن سلطان الاستبداد، وأساء غلبا Galba إلى نفسه، حيث قال: إنه لا يشتري جنوده ولكنه يكبتهم، فأيأس منه الجنود وأمثالهم.
فعلى الملوك في الأيام الحرجة والمسائل الحساسة أن يحاسبوا ألسنتهم على ما تلفظ به، ولا سيما تلك الكلمات القصار التي تنبعث انبعاث السهام، وتكشف للناس عن طواياهم؛ لأن الأحاديث الفياضة شيء عريض لا يمسك ولا يعلق بالذاكرة.
والقول الأخير: إن الملوك حريون أن يجعلوا حولهم رجلا أو رجالا من أولي الشجاعة العسكرية لقمع الفتن في أوائلها، وبغير ذلك يخشى أن يقع في البلاط عند ابتداء الفتنة، أكثر مما ينبغي من القلق والإحجام، وتتعرض الحكومة للخطر الذي أشار إليه تاسيتس، حيث قال بعد مقتل غلبا بأيدي جنوده: «لقد كان قليلون يجسرون على هذه الفعلة وكثيرون يتمنونها، وجميعهم يرضون بها ويقرونها.»
ومن اللازم لهؤلاء الرجال أولي الشجاعة الذين يحفون بالملوك أن يكونوا على اطمئنان وسمعة حسنة، لا أن يكونوا حزبيين أو ذوي شهرة شعبية، وأن تعمر الصلة بينهم وبين عظماء الدولة الآخرين، وإلا كان الدواء شرا من الداء.
المناصب الرفيعة
الرجال في مناصبهم الرفيعة خدم مثلثو الخدمة: خدم لملك الدولة، وخدم للسمعة، وخدم للعمل والمصلحة، فلا حرية لهم في أنفسهم ولا في أعمالهم ولا في أوقاتهم.
وأعجب الرغبات أن يرغب الإنسان في السيطرة ويفقد الحرية، أو أن يطلب السلطان على الآخرين ولا سلطان له على نفسه.
إن الصعود إلى المناصب الرفيعة لمشقة مجهدة، ومن ألم ينتقل المرء إلى ألم أشد منه وأضنى، وكثيرا ما يتوسل المرء بالخسة إلى الرفعة، وينشد الكرامة بالتفريط في الكرامة.
وإن الوقوف في الطريق مزلقة، أما الرجوع فهو إما سقوط أو احتجاب وكسوف، وهو محزنة مجلبة للأسى، وقد قال شيشرون: «إذا أصبحت غير ما كنت فلا معنى لأن تعيش.»
على أن المرء لا يعتزل المنصب كما يريد، ولا يعتزله بحكم العقل والحكمة، ولكنه برم بالعزلة حتى في الشيخوخة والسقم الذي يتطلب الظل والمأوى، كأنه «ابن البلد»، الذي يظل على عادته من الجلوس في الطريق أمام داره وإن عرض شيخوخته للسخرية.
وأحسب الرجال في مناصبهم الرفيعة مفتقرين إلى آراء غيرهم؛ ليخيل إليهم أنهم سعداء، فإنهم إذا رجعوا إلى آرائهم لم يجدوا السعادة هناك، إنما يفكرون في أفكار الناس عنهم، وإن غيرهم يود لو يدركهم فيخامرهم الشعور بالسعادة، كأنه إصابة العدوى، أما في ضمائرهم فهم قد يعرفون منها نقيض ما يعرفه غيرهم؛ لأن المرء أول من يشعر بحزنه وإن لم يكن أول من يشعر بخطئه.
والحق أن الرجال في المناصب الرفيعة غرباء عن أنفسهم، ولا يزالون في شغلهم مشغولين عن تعهد صحتهم، سواء من جانب الجسد أو من جانب الفكر والقريحة، وقد قال سنيكا: «إن الموت يهبط ثقيلا على من يموت، وهو لا يدري وغيره يدرون جد الدراية.»
ويستطيع صاحب المنصب الرفيع أن يفعل الخير والشر، وفعل الشر لعنة، فإن أحسن الحالات بالنظر إليه ألا تريده، وتليه الحالة اللاحقة وهي ألا تستطيعه.
لكن استطاعة الخير هي المسوغ الحق الجميل للطموح إلى الرفعة؛ لأن النيات الخيرة - وإن كانت مقبولة عند الله - ليست في حسبان الناس إلا كالأحلام ما لم تخرج من حيز النية إلى النفاذ، ولا يتسنى ذلك إلا بقوة المنصب الذي يشرف منه الرجل على سواه.
وللمرء في جهده غاية هي الأفضال وصالح الأعمال، وإن رؤية هذه الغاية تتحقق لهي الرضا والغبطة، ومن تشبه بالله في الخلق حري أن يتشبه به في النظر إلى آثاره، وقد جاء في التنزيل: «أنه - جل شأنه - نظر إلى صنع يديه فإذا هو كله جميل بالغ في الجمال»، ومن ثم جاء «السبت» والرضى «بعد ستة أيام من الخلق والتكوين».
وعليك في تصريف أعمالك أن تتخذ القدوة لأنها هداية، ثم تتخذ نفسك مقياسا لك بعد فترة من الزمن؛ لترى هل كان صنيعك في البداية خيرا من ذاك، ولا تنس أمثلة الذين أساءوا الصنيع في مثل مكانك؛ لتجتنب الإساءة لا لتنحي باللائمة عليها.
فكن إذن مصلحا بغير زهو ولا ملامة للأزمنة السابقة أو الرجال السابقين، وليكن همك أن تنشئ السوابق الحسنة لمن يليك، كما تتبع السوابق الحسنة ممن تقدم عليك.
وارجع بالأمور إلى أصولها لتنظر كيف حاق بها النقص والإدبار، واقتبس العبرة من كلا الزمنين: من الزمن السابق فيما هو الأكمل، ومن الزمن الأخير فيما هو الأصلح والأوفق والميسور بالقياس إليه.
واجعل عملك على وتيرة منتظمة ليعرف الناس سلفا ما يترقبون منك، ولكن لا تلتزم الجزم والجمود على حال، وحسبك إذا انحرفت عن جادتك أن تحسن الإبانة عن علة هذا الانحراف.
واحفظ لمنصبك حقه، ولكن في غير حاجة إلى إثارة النصوص القانونية، وإنما تحفظ له حقه في سكون، وبالعمل الواقع دون اللجاجة والدعوى.
واحفظ كذلك حق ما دونك من المناصب، واعتبر أنه لأشرف لك أن توجه مرءوسيك وأنت في مكان الرئاسة من أن تتولى أعمالهم كلها بيديك.
واطلب المعونة والنصيحة فيما يمس منصبك، ولا تقص عنك أولئك الذين يتطوعون لك بأخبارهم ومعلوماتهم كأنهم فضوليون، بل تقبل منهم أحسن قبول.
وللسلطان آفات أشهرها أربع: وهي التراخي والفساد والصلف والمحاباة.
وعلاج التراخي تسهيل الوصول إليك وتعيين المواعيد، وإتمام ما في يدك، واجتناب المداخلة بين الأعمال إلا للضرورة التي لا محيد عنها.
وعلاج الفساد لا ينحصر في كف يدك أو أيدي أعوانك عن الأخذ، بل ينبغي مع ذلك أن تكف أيدي الطلاب وأصحاب الحاجات عن العطاء، فإن النزاهة المفهومة تؤدي أحد هذين الغرضين، ولكن النزاهة المصرح بها في مقت واضح للرشاوى تؤدي الغرض الآخر، ولا يكن قصاراك أن تتجنب الغلطة دون أن تتجنب معها المظنة.
ومن مظنة الرشوة والفساد تقلب الخطط واختلافها البين بغير سبب بين؛ ولهذا يجمل بك كلما غيرت رأيك أن تجهر بتغييره وبالسبب الذي دعاك إليه، ولا تفعل ذلك خلسة في الخفاء.
ومن مظنة الرشوة والفساد أن يكون لك تابع في موضع الثقة والسر، ولا يرى له من الجدارة ما يفسر هذا التقريب.
أما الصلف والخشونة فهما مجلبة للشكاية في غير ضرورة، وإذا كانت الصرامة تبعث الخوف فإن الصلف ليبعث الكراهية، بل حتى اللوم من الرئيس في معرض العقاب ينبغي أن يقترن بالوقار، ولا يتجاوز ذلك إلى التعيير والإيجاع.
أما المحاباة فهي شر من الرشوة؛ لأن الرشوة تأتي بين حين وحين، ولكن الرجل الذي يحابي ويجامل لا يزال بمعزل عن الإنصاف، كما قال سليمان الحكيم: «محاباة الوجوه ليست صالحة فيذنب الإنسان لأجل كسرة خبز.»
وصدق الأقدمون حيث قالوا: «إن المنصب يكشف الرجال بعضهم لما هو أجمل وبعضهم لما هو أقبح» ... وقد قال تاسيتس عن غلبا: إنه كان مرشحا لولاية الملك بالإجماع لو لم يتول الملك فعلا ... «وقال عن فسبسيان: إنه الإمبراطور الوحيد الذي تبدل بعد الولاية خيرا مما كان.» وإن كان الكاتب قد عنى الكفاية في ذاك، وآداب المعاملة والأخلاق في هذا.
وإنها لعلامة من علامات النبل في الطبيعة أن تنصلح ببلوغ الشرف والجاه؛ لأن مكان الشرف والجاه هو مكان الكفاءة، وكما يشاهد في الطبيعة أن الأشياء عنيفة الحركة حين تندفع إلى أماكنها، ولكنها قليلة العنف حين تتحرك في أماكنها، كذلك الكفاءة تتحرك مع الطموح عنيفة وعند الوصول إلى مكانها هادئة رصينة.
وسلالم الصعود إلى المناصب الرفيعة كلها حلزونية لفافة ... فإن كانت هناك شيع فمن الحسن للمرء أن يتحيز وهو صاعد، وأن يلتزم الحيدة وهو واصل.
وعليك أن تنصف ذكرى الأسلاف؛ لأنك إن تجافيت سنة الإنصاف، فاعلم أنه دين عليك سوف يتقاضاك إياه من يليك.
واحترم زملاءك واعلم أنه لخير لك معهم أن يلقوك حيث لا يترقبونك من أن يتفقدوك وهم مترقبوك.
ولا تذكر مكانك الرفيع في أحاديثك وأجوبتك لأصحاب الحاجات إليك، بل دعهم يقولون: إنك في مكانك إنسان غير ذلك الإنسان.
الصداقة
لقد كان عسيرا عليه - ذاك الذي نطق بهذه الكلمات - أن يجمع من الحق والباطل في كلمات قليلة، مثل ما جمعه في كلماته تلك، حيث قال: «من سرته الوحدة فهو أحد اثنين: إما حيوان آبد أو إله.»
فإنه من الحق الذي لا مراء فيه أن نفور الإنسان من المجتمع وبغضه إياه فيهما شيء من الحيوانية المستوحشة، ولكن ليس من الحق أن هذه الخلة تمت بشيء إلى الصفات الإلهية، إلا أن يكون حب الوحدة لغرض غير السرور بالوحدة، وهو رياضة النفس على سلوك في الحياة أرفع وأقوم، كما كان بعض الوثنيين يصنع خطأ وتمويها فيما زعموا من الروايات عن أبيمنديس الكندي، ونوما الروماني، وأمبيد كليس الصقلي وأبولنيوس التياني، أو كما كان بعض آباء الكنيسة الأولين وبعض النساك يصنعون عن صدق وحقيقة.
على أن الناس قلما يفهمون المقصود بالوحدة أو مداها، فإن الزحام لا يحسب صحبة، والوجوه المنظورة ما هي إلا معرض من معارض الصور، وأصداء الكلام ما هي إلا رنين أجوف حين يخلو من المودة، وصدق المثل اللاتيني القائل: «إنه كلما ازداد سكان المدينة ازدادت الوحدة.» لأن الصحاب في المدن الكبيرة يتفرقون فلا تنعقد بينهم تلك الآصرة التي تكون بين أهل الجيرة الواحدة.
ونخطو بعد هذا خطوة فنقول: إن الوحدة التي تعوزك فيها الصحبة الصادقة هي بؤس ونكد؛ لأن الدنيا بغير الصحبة الصادقة قفر موحش لا أنس فيه، ومن كان في هذه الوحشة محروما بفطرته من الشعور بالصداقة، فهو إنما يستمد فطرته من طبيعة الوحش لا من طبيعة الإنسان.
وأهم ثمرات الصداقة أن يفرغ الصديق فؤاده لصديقه ميلا طبيعيا توحي به، وتدعو إليه كل عاطفة وكل شعور، وقد علمنا أن أمراض الاحتباس والاختناق هي شر الأمراض الجسدية، وهي كذلك شر الأمراض العقلية.
وقد تتناول العشبة المغربية لإطلاق الكبد، وبرادة الحديد لإطلاق المرارة، ومسحوق الكبريت للرئة والجندباوستر للدماغ، ولكن القلب لا يطلقه دواء كدواء الاطمئنان إلى صديق صادق تبثه شكاتك وأفراحك ومخاوفك وآمالك، وشكوكك ومشوراتك، وكل ما يثقل على القلب ويجرحه، كأنك تؤدي مراسم الاعتراف.
ومن الغرائب التي تلاحظ في هذا الصدد أن ترى مبلغ تقويم الملوك العظماء لهذه الثمرة من ثمرات الصداقة؛ فإنها لذات قيمة عزيزة جدا عليهم مذ كانوا يشترونها أحيانا مجازفين بسلامتهم ورفعة شأنهم، فلا قبل لهم - لبعد المسافة بين أقدارهم وأقدار رعاياهم - أن يصلوا إلى تلك الثمرة إلا بتقريب بعض أولئك الرعايا؛ لاختصاصهم بالملازمة والصحبة على سنة المساواة في بعض الأحايين، مما ينجم عنه كثيرا ضرر وامتعاض.
واللغات الحديثة تسمي هؤلاء بالندماء وأصحاب الحظوة، كأنما المسألة مسألة مسامرة ومؤانسة ... ولكن الاسم الذي يطلقه الرومان عليهم أصح في الدلالة على وظيفتهم وسبب اختيارهم، وهو اسم «شركاء الهموم».
فهذه التسمية هي التي تحكم ربط العقدة كما يقولون.
ونرى واضحا أن هذا الاختيار لا يختاره الضعفاء من الأمراء وحسب، بل هو من خيرة أقوى الأمراء وألبقهم وأدهاهم بين من تولوا الملك على الإطلاق، فكانوا يصطفون خدامهم أناسا يبادلونهم اسم الصديق، ويسمحون لغيرهم أن يسموهم هذه التسمية، ويستخدمون في ذلك ألفاظ الخطاب التي يتداولها سائر الناس.
فلما كان سولا يحكم روما رفع إلى هذا المقام پومپي الذي عرف بعد بلقب العظيم، فعامله معاملة النظير في تبجح وثقة، وبلغ من ذاك أنه رشح للقنصلية رجلا لا يرضاه سولا، فأنكر سولا عمله بعض الإنكار وارتفع بلهجة الخطاب والتعاظم والاستعلاء، فلم يكن من پومپي إلا أن استدار له وأمره في الواقع بالسكوت قائلا: إن الذين يعبدون الشمس الطالعة أكثر ممن يعبدون الشمس في مغربها.
وفي عهد يوليوس قيصر بلغ ديسماس پروتس هذه المنزلة، فرشحه للوراثة في وصيته بعد ابن بنت أخته أوكتافيوس، وكان پروتس هو الرجل الذي تمكن بنفوذه أن يسوقه إلى حتفه، ولما خطر لقيصر أن يحل مجلس الشيوخ تشاؤما من بعض النذر، ومنها حلم امرأته كلبورنيا، رفعه پروتس برفق من كرسيه آخذا بذراعه، ونصح له أن يرجئ حل المجلس حتى تعود امرأته فترى في منامها حلما أفضل من حلمها الأول!
والظاهر أن سلطانه على قيصر كان من القوة بالمنزلة التي جعلت أنطونيوس يصفه في رسالة له أثبتها شيشرون بأنه الساحر ... كأنه خلب قيصر برقية في سحره.
ورفع أوغسطس أجريبا
Agrippa
من مولده الوضيع إلى مثل هذه القمة، حتى إنه شاور ماسنياس يوما في تزويج بنته جوليا، فاجترأ هذا على أن يشير عليه بأن يزوجها باجريبا أو ينتزع حياته ولا ثالث للأمرين؛ لأنه جعله عظيما.
وصعد سيجانوس إلى هذه القمة مع طيبريوس قيصر، فكانا يدعوان بالصديقين الحميمين، وكتب طيبريوس إلى سيجانوس مرة، فقال: «إنني لم أخف هذه المسألة إكراما لصداقتنا.» وبنى مجلس الشيوخ مذبحا للصداقة - كأنها ربة من الربات - تحية للصداقة العزيزة التي بينهما.
ومثل هذه الصداقة - وأوثق منها - كان بين سپتيموس سفيروس ويلوبيانوس؛ لأنه أكره ابنه الأكبر على البناء ببنت بلوتيانوس، وطالما نصر هذا على ابنه كلما أساء إليه وتطاول عليه، وقد كتب إلى مجلس الشيوخ في رسالة يقول: «إنني أحب الرجل حبا جعلني أتمنى له عمرا أطول من عمري.»
ولو كان هؤلاء الأمراء من قبيل طراجان أو ماركس أو ريليوس لخطر في البال أنهم صنعوا ما صنعوا لفرط الطيبة والمسالمة، أما وهم من هم من قوة العقل والجد وصرامة الخلق والأثرة البالغة، فإن ذلك لدليل واضح على أنهم شعروا في نعمتهم بنقص لا يتمه إلا الصديق، وكانوا مع ذلك أمراء ذوي أزواج وأبناء وإخوة وأخوات، فلم يغنهم ذلك كله من لذة الصداقة.
ولا ننس ما لاحظ كومينس
Comineus
على سيده الأول الدوق شارل الجليد من كتمانه الشديد لأسراره؛ حتى لا يبوح بها لكائن من كان، وحتى كان من جراء ذلك في أخريات أيامه أن جنى هذا الكتمان الشديد على صوابه، وغام على تفكيره.
ولو شاء كومينس لقال مثل هذا المقال عن سيده الثاني لويس الحادي عشر الذي كان كتمانه مصدر عذابه، وقول الفيلسوف فيثاغوراس في أمثولته: «لا تأكل قلبك بهمومك.» مظلم ولكنه صحيح، ولو أننا قسونا في التعبير بعض الشيء لقلنا: إن أولئك الرجال الذين يعوزهم الأصدقاء الذين يفتحون لهم صدورهم لهم كأولئك الهمج المستوحشين ممن يأكلون لحوم البشر، ولكنهم لا يأكلون قلوبهم!
على أني أختم هذه العجالة عن ثمرات الصداقة بشيء من العجب بمكان، وهو أن إفضاء الرجل إلى صديقه بسريرة فؤاده يأتي بالنقيضين، فيضاعف السرور ضعفين ويشطر الحزن شطرين، وما من صديق يبث صديقه مسراته إلا ازداد سرورا على سروره، وما من صديق يبث صديقه حزنه إلا قل حزنه بعد بثه إياه. ويصدق على العقل في هذا المعنى ما يزعمه أصحاب الكيمياء لأحجارهم من جمع النقيضين في علاج الأجساد، ولكن لفائدة الطبيعة وصلاحها. ولا حاجة بنا في الحقيقة إلى مدد من أصحاب الكيمياء؛ لأن الأمر واضح كل الوضوح في مجرى الطبيعة المألوف، إذ لا يزال ملحوظا أن اتحاد الأجسام يزيد القوة، وينعشها، ويضعف أثر الصدمات ويهونها، وكذلك اتحاد العقول.
وثمرة أخرى من ثمرات الصداقة أنها مصححة لازمة للفهم، كما أن الثمرة الأولى التي قدمنا الكلام عليها مصححة لازمة للشعور، فإذا كانت الصداقة ترد نهار الشعور صحوا من الزوابع والأعاصير، فهي في عالم الفهم نهار ساطع يبدد ظلام الحيرة والاختلاط، ولا نريد بهذا أن نشير إلى النصيحة الخالصة التي يتلقاها الرجل من صديقه الأمين وكفى، ولكننا قبل الوصول إلى معرض النصيحة نلاحظ أن الفكر المثقل بشتى الهموم تسلس خواطره، وتتضح وتتناسق، وهو يتحدث بها إلى غيره، فيسهل له عرضها ويتمثلها وهي مفرغة في قالب الكلام، ويخرج من ثم أعقل مما كان فإذا هو قد استفاد من ساعة في الحديث ما لا يستفاد من يوم في التأمل والتفكير.
وقد أحسن تيموستكليس إذ قال لملك الفرس: إن الحديث كنسيج أراس الذي تبدو نقوشه حين يبسط، ولكن الفكر يطويها كما تنطوي في الكارات والأضابير.
وليست هذه الثمرة الثانية من ثمرات الصداقة مقصورة على الأصدقاء، الذين يستطيعون إسداء النصيحة الحسنة والمشورة الصالحة، وإن كان هؤلاء خيرا وأجدى ولا مراء، ولكنه - بغير هذا - يعلم حقيقة نفسه ويعرض أفكاره للنور، ويشحذ قريحته كما يشق الحجر النصول وهو بنفسه غير قاطع، وعلى الجملة إنه لخير للإنسان أن يناجي تمثالا أو صورة من أن يخنق أفكاره ويحتبسها.
ولإتمام فضل هذه الثمرة نذكر تلك المزية المشهورة التي يفطن لها العامة مع الخاصة، وهي مزية النصيحة الخالصة من الصديق الأمين.
وقد أصاب هرقليطس في قوله: «إن النور الجاف أفضل وأنقى ...» فلا مراء أن النور الذي يتلقاه المرء بالمشورة من غيره أجف من النور الذي يتلقاه من ذهنه وحكمه، وهما أبدا مبللان مشبعان بالأهواء والعادات، وإن الفرق بين مشورة الصديق ومشورة المرء لنفسه، لكالفرق بين الصاحب المخلص والصاحب الملق المتزلف، فليس هنالك من هو أكثر ملقا للمرء من ذات نفسه، ولا دواء لهذا الملق أنجع من حرية صديق.
والنصيحة ضربان: نصيحة في شئون السلوك والآداب، ونصيحة في شئون المرافق والمعاملات، ففي شئون السلوك والآداب ليس أصح للعقل ولا أعظم وقاية من العتب الخالص على لسان صديق، إذ كان إلحاف المرء على نفسه في الحساب دواء يوجع ويضني، وكانت قراءة كتب الأخلاق الجيدة لا تخلو من الفتور والتفاهة، وكانت مراقبة أخطائنا في الآخرين لا تجمل بنا في بعض الأحايين، إلا عتب الصديق فإنه لأجدى من ذلك كله، وأعني بالأجدى هنا ما هو أجدى في التناول وأجدى في العلاج.
ولقد نعجب كم من الأخطاء الجسام والسخافات البالغات يقع فيها الكثيرون - ولا سيما العظماء - من جراء فقدان الصديق الذي ينبههم إليها، وفي ذلك ما فيه من ضير على سمعتهم ومصالحهم، فما أشبه هؤلاء بمن قال فيهم القديس جيمس: إنهم ينظرون إلى وجوههم في المرآة فينسونها!
أما في شئون المرافق والمعاملات فليقل من شاء: إن عينين لا تبصران خير من عين واحدة، وإن اللاعب يرى ما لا يراه المتفرج، وإن الرجل الغاضب له من العقل ما للرجل الذي قرأ الدروس ووعاها، وإن البندقية تنطلق وهي على الذراع كما تنطلق وهي على سائر الجسد، وأشباه ذلك من الأخيلة والتمثيلات التي تزين لمن يرددها أنه هو كل شيء ولا شيء سواه، فلا شبهة بعد كل ما يقال في نفع المشورة لتقويم الأعمال، وإذا خطر لبعضهم أن يتلقى النصيحة، ولكن مجزأة من هذا في عمل ومن غيره في عمل آخر، فأجدى عليه فيما نرى ألا يلتمس النصح على الإطلاق؛ لأنه يتعرض لخطرين؛ أحدهما ألا يظفر بالنصح الخالص وهو نادر جدا ما لم يكن من صديق وفي كامل الصداقة، فيأتيه النصح معوجا ملتويا موجها إلى مأرب يبغيه من أشار عليه، والخطر الآخر أن يزجي إليه النصح ضارا غير مأمون ولو عن حسن نية ممن أزجاه إليه، فيمتزج فيه العلاج بالأذى كمن يستشير طبيبا خبيرا بعلاج الداء الذي يشكو منه المريض، ولكنه لا علم له بطبيعة جسده، فيشفيه لساعته من دائه ولكنه يخل بسلامة البنية من ناحية أخرى، فيشفي المرض ويقتل المريض!
بيد أن الصديق العليم بدخيلة صديقه قمين أن يحذر وهو يخدم المصلحة الحاضرة من تعريض مصلحة غيرها للحيف والضياع، وهذا الذي يوجب عليك ألا تعول على النصائح المتفرقة، التي هي إلى التضليل والتشتيت أقرب منها إلى الراحة والتوجيه.
وتأتي الثمرة الأخيرة بعد هاتين الثمرتين الجليلتين، وهما سلام النفس ومعونة العقل، وتلك ثمرة كأنها في الثمار الرمانة التي تحتوي الواحدة منها المئات من الفواكه الصغار؛ لأنها تحتوي فيها المساعدة والمشاركة في شتى الأعمال والمناسبات، ولن نحصيها إلا إذا أحصينا تلك المقاصد الكثيرة، التي لا يستقل بها المرء وحده، فنعلم يومئذ أن الأقدمين قصروا في وصفهم حين قالوا: إن الصديق نفس أخرى؛ لأنه في الواقع أقوم من نفس أخرى.
فللإنسان مداه في الحياة، وإنه ليعاني الموت مرات في اشتهاء كل ما يشتهيه من صميم قلبه، كتربية الأبناء وإنجاز الأعمال، وغير ذلك من المطالب المختلفة، فإذا كان له صديق وفي، فإنه لخليق أن يستريح إلى ضمان هذه الأمور من بعده، بحيث يصح أن يقال: إنه مزود في هذه الدنيا بحياتين.
وللإنسان جسد يحتويه مكان واحد، وحيثما توجد الصداقة فهناك يتسنى له أن يعمل في أماكن عدة بنفسه وبمعونة صديقه.
وكم من شيء لا يستطيع المرء أن يقوله أو يعمله، وهو موفور الكرامة والحياء! فليس في وسعه أن يبدي فضائله ومزاياه وهو محتفظ بحيائه فضلا عن الإشادة بها وتمجيدها، وليس في وسعه أحيانا أن ينزل إلى التوسل والرجاء، وأشباه ذلك كثير.
إلا أن ذلك وأشباهه يقوله الصديق وهو متجمل بوفائه، من حيث لا يفوه به المرء إلا وهو خجل متهيب.
ولكل امرئ صلات وعلاقات لا يستطيع أن يتجاهلها أو يتخطى حدودها، فلا يسعه أن يكلم ابنه إلا كلام والد، أو زوجه إلا كلام زوج، أو عدوه إلا على شروط وقيود، أما الصديق ففي وسعه أن يتكلم حيث شاء بما تقضي به المناسبة غير مقيدة في كلامه بذلك الاعتبار.
ولا نهاية لإحصاء هذه الفوائد والمزايا، فحسبنا أن نضع القاعدة على الإجمال، وأن نعلم أن الذي يعييه أن يقوم بمطالبه على الوجه الأمثل، فعليه أن يخلي الميدان ما لم يكن له صديق أمين.
عظمة الممالك والدول
كانت كلمات تمستوكليس - على ما فيها من الغطرسة والتعظيم لنفسه - تشتمل على ملاحظات خطيرة، وحكم جليلة ينتفع بها الآخرون.
سئل في وليمة أن يعزف على عود فقال: إنه لا يحسن أن يجس الأوتار، ولكنه قادر على أن يجعل البلد الصغير مدينة عظيمة.
وهي كلمات إذا أجريناها مجرى الرمز والتمثيل، تبدي لنا نوعين من الكفاءة في أولئك الذين يتولون أعمال الحكومات، فإننا إذا عرضنا سير الساسة والمشيرين وجدنا منهم في الندرة من يقدرون على أن يجعلوا الحكومة الصغيرة دولة عظيمة، ولكنهم لا يقدرون على جس الأوتار، ومنهم من يحسنون جس الأوتار ويبرعون فيها ولا يجعلون من الحكومة الصغيرة دولة عظيمة، كأنما تتجه قدرتهم إلى الوجهة الأخرى، وهي الهبوط بالدول العامرة إلى حضيض الدمار والدثور.
والحق أن هاتيك الصناعات المسفة التي ينال بها بعض المشيرين والحكام حظوة عند ساداتهم، وإعجابا من الغوغاء لا تستحق في جملتها أن تسمى باسم آخر غير اسم اللعب بالأوتار، إذ هي أمور تسر في حينها وتجمل في ذاتها، ولا تؤدي إلى منفعة أو تقدم للحكومات التي تخدمها.
وهناك ولا ريب حكام ومشيرون يوصفون بأنهم قادرون على حسن التدبير، واتقاء المزالق والمآزق، ولكنهم أبعد ما يكونون عن القدرة على توسيع الدولة وتزويدها بالقوة والعدة واليسار.
وندع العاملين كيف كانوا وننظر إلى العمل المقصود، وهو عظمة الدول الحقيقية ووسائل تلك العظمة، وهو مبحث جدير ألا يغرب عن بال الأمراء العظماء؛ لكيلا يدفعهم الغلو في تقدير سطوتهم إلى استنفاد جهودهم في المساعي الباطلة، أو يدفعهم الشك في تلك القوة، والنزول بها عن قدرها إلى الجبن والشح في الرأي والمشورة.
إن عظمة الدولة في سعة أقطارها تدخل في تقدير القياس، كما تدخل عظمة أموالها وخزانتها في تقدير الحساب.
وقد تمثل كثرة السكان بالصور والنماذج، وتمثل ضخامة المدن بالبطاقات والرسوم، ولكننا لا نرى شيئا قط في مسائل السياسة يشيع فيه الغلط، كتقدير قوة الدولة ومنفعتها.
إن مملكة السماء لم تشبه بنواة أو جوزة كبيرة، بل شبهت بحبة الخردل وهي من أصغر الحبوب، ولكنها تمتاز بالخاصة النادرة التي تهيئ لها سرعة النمو والانتشار.
كذلك الحكومات منها ما هو واسع، ولكنه غير قابل للعظمة والسلطان، ومنها ما هو صغير، ولكنه قابل لأن تؤسس عليه أعظم الممالك.
إن المدن المسورة والمسالح المملوءة والعدد الكثيرة والخيل الأصائل، ومركبات الحرب والفيلة والمدافع وما شاكلها - كل أولئك إنما هي كالخراف في جلود الأسود ما لم تكن في طبيعة الشعب صلابة الحرب والجهاد، ولا قيمة لوفرة العدد في الجيوش حيث يبتلى الشعب بالخور، ويحرم فضيلة الشجاعة. وقد قال ڨرجيل: إن الذئب لا يبالي كم يبلغ قطيع الضأن من العدد! وقد كان جيش الفرس في ساحة أربيلا كالبحر الزاخر مما هال قواد الإسكندر، فأشاروا عليه بأن يدهمهم ليلا وهم غافلون، فكان جوابه لهم أنه لا يختلس النصر، ثم جاءت الهزيمة على أيسر ما يكون.
ولما نظر تيجران ملك الأرمن - وهو معسكر على التل في أربعمائة ألف رجل - فرأى أن جيش الرومان لا يربى على أربعة عشر ألفا سخر بهم وقال: إنهم أكبر من أن يكونوا وفد سفارة، وأصغر من أن يكونوا جيش قتال، فلم تغرب الشمس حتى تبين فيهم الكفاية لدحره ومطاردته، والإثخان بالقتل في جحفله العظيم.
والأمثلة كثيرة على التفاوت بين العدد والشجاعة، فلا يتردد الإنسان في الجزم بأن عظمة الدولة التي تتقدم في الأهمية على كل عظمة هي أن تشتمل على شعب مليء بالقتال.
وليس المال بعصب الحرب كما يجري خطأ على بعض الألسنة، فإن الأمة لتضمحل وعندها المال إذا وهن عصب الرجال، وقد أحسن صولون حيث قال لقارون، وهو يعرض عليه ذهبه: «سيدي! إن جاءك من عنده حديد خير من حديدك، بسط يديه على ذهبك.»
فليحذر الأمير أن يغتر بقوته ما لم تكن له عدة من شجاعة جنوده، وليعرف الأمير حقيقة بأسه من الناحية الأخرى إذا اطمأن إلى النزعة العسكرية في قومه، إن لم يكن بهم قصور في غير هذا الباب.
أما الجنود المرتزقة التي يستعان بها في هذه الأحوال، فالأمثلة كلها شاهدة بأن الأمير الذي يلقي كل اعتماده عليها قد ينشر جناحيه إلى مدى، ولكنه لا يلبث أن يطويهما بعد حين، ولن تتلاقى بركة يهودا وبركة يساكر، فتصبح الأمة الواحدة في وقت واحد شبل أسد وحمارا لحمل الأثقال، أو تصبح الأمة المثقلة بالضرائب أمة شجعان مقاتلين.
وصحيح أن الضرائب التي تفرض بالرضى والموافقة أقل مساسا بشجاعة السكان، كما يشاهد في البلاد الواطئة «أثناء الحرب الأسبانية»، أو كما يشاهد على نحو ما في تبرعات الشعب الإنجليزي لعرش بلاده، فالقلب - وليس الكيس - هو مناط الأمر في هذه الحالة، وإذا كانت الضريبة التي تجبى قسرا والضريبة التي تجبى طوعا سواء في عرف الكيس فهي في عرف القلب غير سواء، ومن ثم يجوز لك أن تقرر أن الأمة التي ترهقها الضرائب لا تصلح للسيادة وسعة السلطان.
وعلى الدول التي تنزع إلى العظمة ألا تغفل عن سرعة تكاثر العلية من طبقاتها؛ لأن كثرتها تسقط العامة إلى مرتبة الفعلة الأخساء الذين لا قلب لهم ولا همة، ولا شأن لهم إلا أنهم عبيد السادة النبلاء، وقد رأينا أن الأشجار إذا كثفت في الأدغال هزل النبات الذي تحتها، فلا ينجم منه إلا العشب الشاحب الهزيل، وهكذا الأمم كلما كثر نبلاؤها خست عامتها، ورذلت منزلتها. وكن على يقين في هذه الحالة أن مائة رأس لا تكون كفاء خوذة واحدة، ولا سيما في المشاة الذين هم عصب الجيوش وعضلها، فيكثر عدد السكان وتنقص قوة الجيوش.
ولا يشاهد مصداق ذلك في شيء كما يشاهد في المقابلة بين إنجلترا وفرنسا، فإن إنجلترا على قلة اتساعها وقلة سكانها لا تقوم لها فرنسا ندا في ميدان الكفاح، إذ كان أبناء الطبقة الوسطى فيها جندا صالحا لا ينهض له الفلاحون من أبناء البلاد الفرنسية، ويتضح هنا أن خطة هنري السابع - الذي توسعت في شرح سيرته - كانت بعيدة الأمد حقيقة بالإعجاب، حين عني بتوزيع البيوت والمزارع على نحو يكفل لمن يعيشون فيها أن ينعموا باليسر ولا تنحدر بهم الحال إلى الضنك والمذلة، وأن يظل المحراث في أيدي مالكه لا في أيدي الأجير المسخر لغيره، وبذلك يصح فيها وصف ڨرجيل للإقليم الذي توافرت له صلابة السلاح ورخاء الأديم.
وهناك طبقة (لعلها مقصورة على إنجلترا إذا استثنينا بولندة)، نعني بها طبقة الخدم والأتباع الذين يلحقون بالنبلاء والسراة، وهي لا تقل صلاحا لحمل السلاح عن طبقة ملاك الأرض والزراع، ومما لا جدال فيه أن الأبهة، وسعة الحاشية والكرم الذي يتسم به النبلاء ويصبح في حكم العادة الموروثة خصال تنزع إلى العظمة العسكرية ونقيضها البخل والضيق في معيشة النبلاء، فإنهما يحيفان على الطبيعة العسكرية في الحاشية والأتباع. •••
وعلى أية حال تنبغي العناية بأن تكون ساق شجرة «نبوخذنصر» - شجرة الملك - من المتانة، بحيث تحمل الفروع والأغصان، ونعني بذلك أن يكون سكان المملكة الأصلاء على عدد كاف بالقياس إلى عدد الرعايا الغرباء المحكومين في الدولة، وكل حكومة سمحة في تبني رعاياها الغرباء، فهي حكومة صالحة لاتساع الملك وسياسة الإمبراطورية، إذ إن الفئة القليلة - وإن كانت على أعظم نصيب من الشجاعة والسياسة في العالم - قد تحيط بملك يتسع إلى حين، ولكنه وشيك أن يخفق فجاءة.
وقد كان الإسبرطيون شعبا سمحا في مسألة التبني والتجنيس يوم كانوا في حيز نطاقهم، فلما تجاوزوا هذا الحيز وأربت فروع الشجرة على طاقة الساق عصفت بهم العاصفة على حين غرة.
وما فتحت أمة صدرها قط للتبني والتجنيس كما فعل الرومان، فوافقتهم هذه الخصلة كل الموافقة، وبلغوا الغاية من سعة السلطان، وقد كان من خطتهم أن يمنحوا الحق المدني في أوسع حدوده وأرفعها، فلا يقتصرون على منح حق الاتجار أو حق الزواج أو حق الوراثة، بل يضيفون إلى هذه الحقوق حق الانتخاب وحق ولاية المناصب العامة، ولا يخصون بذلك أفرادا قلائل معدودين، بل يعمون الأسر بل المدن بل الأمم في بعض الأحوال، يضاف إلى ما تقدم تعودهم أن ينشئوا الجاليات الرومانية، حيث ينتقل الرومان إلى التربة الأجنبية، فإذا قرنت بين الخطتين ساغ لك أن تقول: إن الرومان لم ينتشروا في الدنيا، بل الدنيا هي التي انتشرت في رومة، وهذا هو الضمان الوثيق للعظمة والسلطان.
ولقد عجبت أحيانا لأسبانيا كيف انبسطت على كل هذه المدن من المستعمرات بفئة قليلة من الأسبان الأصلاء، ولكن نطاق أسبانيا ولا ريب ساق أعرض وأضخم من ساقي رومة وإسبرطة، ثم هي على تشددها في تبني الأجناس الأخرى قد فعلت ما يتلو التبني في الفائدة، وهو قبول كل الأجناس جنودا في جيشها، وضباطا أو قادة في بعض الأحايين، ومع هذا يشعر الأسبان الآن بحاجتهم إلى مضاعفة السكان، كما يظهر من قانون تشجيع الزواج والنسل الذي أصدروه.
ومن المحقق أن صناعات الجلوس أو الصناعات البيتية الدقيقة، التي تحتاج إلى الإصبع، ولا تحتاج إلى الذراع من دأبها أن تناقض النزعة العسكرية في طبيعتها، وقد جرت العادة بأن تجنح الشعوب العسكرية إلى الكسل، وتؤثر خطر الجهاد على مجهود العمل، وليس من اللازم الإفراط في صرفها عن هذه العادة للمحافظة على حميتها.
ولهذا كان من الملائم جدا في إسبرطة وأثينا ورومة وغيرها أنهم كانوا يستخدمون العبيد الأرقاء في الاشتغال بأمثال تلك الصناعات، إلا أن شريعة المسيحية قد غيرت هذا النظام.
وأقرب نظام إلى ذلك النظام أن تترك تلك الصناعات في جملتها للغرباء، الذين يجب أن يتيسر تبنيهم وتجنيسهم لهذا الغرض، وأن توزع جمهرة الوطنيين من الغوغاء بين هذه الأعمال الثلاثة: وهي فلاحة الأرض، والخدمة الحرة، وصناعات الرجولة القوية كالحدادة والبناء والنجارة وما إليها، وهذا عدا الجنود المحترفين.
وفوق كل شيء نعد أهم الأمور لعظمة الدولة أن تجعل الأمم شرفها الأكبر في حمل السلاح ودراسة فنونه والانتساب إلى صناعته، فكل ما تقدم إنما هو وسائل إلى هذه الصناعة، وماذا عسى أن تجدي الوسائل بغير القصد والعمل؟ وقد قيل رواية أو رمزا: إن روميلوس أرسل بعد موته إلى قومه يوصيهم أن يعنوا بالسلاح، فيصبحوا من ثم أعظم دول العالم بأسره، وكان محور دولار الحكومة في إسبرطة يدور بها كلها للاتجاه إلى هذه الوجهة وحدها، وإن أخطأتها الحكمة في تحقيقها، واهتم بها الفرس والمقدونيون لمحة والغاليون والجرمان والغوط والسكسون والنورمان زمنا، والترك في هذه الأيام وإن غلب عليهم الاضمحلال.
أما في أوروبا المسيحية فالأسبان وحدهم في الواقع معنيون بهذه الوجهة، وإنه لمن الوضوح بحيث لا يحتمل الإطالة في البيان أن المرء يستفيد من الشيء على قدر عنايته به، وحسبنا أن نقول: إنه ما من أمة تقصر في اتخاذ صناعة السلاح، ثم تسقط لها العظمة لقمة باردة في أفواهها، وبخلاف ذلك الأمم التي تطيل مراس هذه الصناعة كما فعل الرومان والترك على التخصيص، فإنها تأتي بالأعاجيب. أما الأمم التي اتخذتها زمنا فقد بلغت بها العظمة مع ذلك، وضمنت لها بقاءها طويلا بعد تخليها عن تلك الصناعة أو تعرضها فيها للتأخر والانحدار.
ومما يساعد على هذه الوجهة أن تتاح للأمة تلك القوانين والعادات، التي تهيئ لها أسبابا عادلة للحرب في دعواها، فإن في طبائع الإنسان حاسة العدل، التي تأبى عليه دخول الحرب وما فيها من الويلات لغير سبب مفهوم للنزاع، فالترك لديهم السبب الحاضر في أيديهم للحرب، وهو نشر دينهم وشريعتهم، والرومان على اعتبارهم توسيع تخومهم شرفا عظيما يسبغونه على قادتهم بعد ظفرهم في الحروب، لم يتخذوا قط هذه الغاية وحدها سببا للقتال.
فعلى الأمم التي تطمح إلى العظمة أن تنمي الإحساس بالغضب لكل إساءة يلقاها سكان تخومها، أو تجارها أو المندوبون السياسيون عنها، ولا تصبر طويلا على التحدي والاستثارة، وعليها إلى جانب هذا أن تكون على أهبة دائمة لنجدة حلفائها، كما كان دأب الرومان الأقدمين، حتى لقد كانوا يبادرون إلى نجدة الحلفاء لأول دعوة وإن كان حليفهم مرتبطا بعهود الدفاع مع حكومات عدة، فلا يكلون شرف النجدة قبلهم إلى واحدة من تلك الحكومات. •••
على أننا لا ندري كيف يتيسر المسوغ الحسن للحروب، التي كانت تشن قديما لنصرة جانب من الجوانب أو لتشابه الأنظمة الحكومية، كالحرب التي شنها الرومان لتحرير جراسيا، أو الحرب التي شنها اللقدميون والأثينيون لتأييد الديمقراطيات وحكومات العلية أو تقويضها، أو الحروب التي كان يشنها الأجانب وهم يدعون إنقاذ رعايا الدول الأخرى من الظلم والطغيان، وما شاكل ذلك. ويكفي أن نذكر أنه ما من دولة يحق لها أن تطمح إلى العظمة ما لم تكن ملبية لكل سبب عادل يحفزها إلى حمل السلاح.
ما من بنية تغنم الصحة بغير رياضة، سواء في ذلك البنية الحيوانية والبنية السياسية، ولا ريب أن الحرب العادلة هي أفضل الرياضات للدول والحكومات.
إن للحرب الأهلية حرارة كحرارة الحمى، ولكن الحرب الخارجية تبث في بنية الأمة حرارة كحرارة الرياضة، وتحفظ عليها صحتها في حين أن السلم الراكد يبتلي الشجاعة بالتأنث والأخلاق بالفساد.
وإذا نظرنا إلى السعادة دون العظمة، فمن دواعي السعادة ولا ريب تعزيز السلاح، فإن قيام جيش قوي عريق (وإن كبرت تكاليفه)؛ ليصون القانون أو يصون على الأقل سمعة الأمة بين جيرانها ، كما يرى ذلك جيدا في أسبانيا، حيث تحتفظ في جانب منها أبدا بجيش قائم عريق، يوشك أن يظل قائما على الدوام، وقد مضى الآن زهاء مائة وعشرين سنة.
وسيادة البحر حياطة للدولة، ومن كلام شيشرون عن استعداد پومبي لقيصر: «إن سياسة پومبي هي - على ما هو جلي ظاهر - سياسة ثمستوكليس؛ لأنه يرى أن الرجل الذي يملك البحر يملك الموقف ...» ولقد كان پومبي خليقا أن يضني قيصر، لولا أنه لفرط الغرور والثقة قد عدل عن هذه الخطة.
وإننا لنبصر أمامنا عظم النتائج التي تعقب الحروب البحرية، فقد كان لوقعة أكتيوم القول الفصل في سيادة العالم، وقد صدت وقعة لبانتو سطوة الترك. والأمثلة كثيرة على المعارك البحرية التي كان لها الحسم في الحروب كلما انصرفت إليها همة الملوك والأمراء. ومهما يكن من قول فالأمر الذي لا نزاع فيه أن المسيطر على البحر يملك حريته، ويستطيع أن يأخذ من الحرب أو يدع منها كثيرا أو قليلا على حسب مشيئته، خلافا للأقوياء في البر وحده، فإنهم مستهدفون للحرج في كثير من الأحايين.
وفي عصرنا هذا - بين أهل أوروبا - يبدو جليا أن مزية السيادة البحرية (وهي مهر هذه المملكة الإنجليزية) جد عظيم؛ لأن ممالك أوروبا أولا معظمها بري وله شواطئ بحرية تحيط بجزء كبير من حدوده؛ ولأن ثروة الهندين (هند آسيا وأمريكا) هي ثانيا في متناول سيد البحار إلى حد كبير.
ويلوح على الحروب الحديثة أنها ألقيت في الظل إلى جانب الأنوار، التي كانت تسطع على رجال الحروب القديمة، فعندنا اليوم لتشجيع الروح العسكري بعض رتب الفروسية وأنواطها توهب مع هذا للجنود وغير الجنود، وبعض الرموز والشارات على التروس والدروع، ومستشفيات للجرحى والمشوهين وغير ذلك من هذا القبيل. أما في الزمن القديم فقد كانت عندهم الأبراج والأقواس، التي تشاد على مكان المعركة، وكانت عندهم مراثي الفخار، وأضرحة الذكرى لمن قضي عليهم في القتال، وكانت عندهم التيجان والأكاليل، ولقب الإمبراطور الذي استعاره بعدهم ملوك العالم، ومواكب النصر للقواد العائدين من الحروب، والهبات السخية للجنود عند تسريحها وغير ذلك من المكافآت التي تلهب الحماسة في جميع الصدور.
ولم تكن هذه المراسم مظهرا كاذبا أو فخفخة باطلة، بل كانت نظاما من أحكم الأنظمة التي عرفت؛ لأنها جمعت بين ثلاثة أمور: تشريف القادة، وثروة الخزانة، وهبات الجنود.
إلا أن هذا التشريف على ما يظهر لم يكن موافقا للملوك ما لم يكن التشريف للملك نفسه وأبنائه، كما حدث في أيام الرومان، إذ كان الملوك يجتنون لأنفسهم ولأبنائهم معالم النصر الحقيقية في الحروب التي حضروها، ويتركون للحروب التي انتصر فيها القواد علامات تشريف لا تزيد على الحلل والشارات.
ونختتم الكلام بأن نذكر ما جاء في الكتاب، إذ يقول: إن الإنسان لا يستطيع أن يزيد بجهد من المجهود قيراطا على قامته، فنقول: إن هذا الذي لا يستطاع في بنية الإنسان يستطيعه الملوك في سمعة الممالك ومجدها، فيضيفون إليها السعة والعظمة ويخلفون لأعقابهم - باتخاذ تلك النظم والعادات التي ألمعنا إليها - مجدا باقيا وعزة موروثة، ولكنها أمور لا تلاحظ على العموم وتترك للمصادفات.
مقتبسات من مقالات
الإنفاق
من عهد في نفسه السرف في باب من الأبواب فهو محتاج إلى القصد في باب آخر. فإن كان مسرفا في المائدة فليكن مقتصدا في الكساء، وإن كان مسرفا في الردهة فليكن مقتصدا في الإسطبل. وقس على ذلك؛ لأنه إذا أسرف في جميع الأبواب فقلما يسلم من البوار.
الطبيعة الإنسانية ... لا يطيلن أحد قسر نفسه على عادة من العادات، وليداخل بين ذلك قليلا؛ لأن الفترة التي يعفي فيها نفسه من القسر تعزز العادة الجديدة، ومن كان به نقص وهو قائم بعمل فهو حري أن يزاول فضائله كما يزاول نقائصه، ويراوح بين هذه وتلك، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالمداخلة في حينها الملائم، ولا يغلون أحد في الثقة بانتصاره على طبعه؛ لأن الطبع يكمن زمنا ثم ينبعث مع الفرصة أو الإغراء، على نحو ما جاء في خرافات أيسوب عن الفتاة التي كانت قطة فأصبحت إنسانة حسناء، فما لبثت وهي جالسة على المائدة في خفرها وحيائها أن بصرت بالفأر فوثبت إليه.
الغضب
الغضب ولا ريب نقص في الخليقة؛ لأنه لا يظهر على أكثره إلا في الضعفاء كالأطفال والنساء والشيوخ، وخليق بالشيوخ إن غضبوا أن يجعلوا غضبهم إلى السخر أقرب منه إلى الخوف، حتى يبدو عليهم أنهم فوق الإساءة لا دونها، ولا يصعب ذلك على الإنسان إذا راض نفسه على ضبط عنانه.
وبعد، فإن أسباب الغضب على الأكثر ثلاثة: «أولها» أن يكون الإنسان حساسا للإساءة، إذ لا يغضب الإنسان ما لم يشعر بأنه قد أسيء إليه؛ ولهذا يتعرض أصحاب المزاج الرقيق كثيرا للغضب لتعدد ما يزعجهم من الأمور التي لا يحسها أصحاب الطبائع الخشنة القوية، و«ثانيها»: أن تكون الإساءة مفرغة في قالب الازدراء؛ لأن الازدراء يشحذ الغضب ويوقد ضرامه ويبلغ من إثارة النفس ما لا تبلغه الإساءة والمضرة، فمن كانت في طباعه يقظة لعوارض السخرية والازدراء، واعتقاد سوء النية فيها فهم أشد الناس اشتعال غضب، واضطرام سورة، و«آخرها»: كل قول له مساس بسمعة المرء وأحدوثة الناس عنه، فإنه يمتهي غوارب الغضب وينضوها، وإنما العلاج أن يجعل المرء كرامته وسمعته من بنيته أقوى وأصلب على المغامز، كما تعود جونسالڨو أن يقول. (2) سطور من فصول (متفرقات)
مقتبسات متفرقة من كتب باكون المختلفة
كل معرفة أو عجب (وهو بذرة المعرفة) هي في لبابها مما يقع في النفس موقع السرور.
إذا بدأ المرء باليقين فهو منته إلى الشك، ولكنه إذا اكتفى بالشك في البداية وصل في النهاية إلى اليقين.
معرفة الإنسان كالماء: بعضه يهبط من السماء، وبعضه يتفجر من الأرض؛ وإحداهما تصل إلينا بنور الطبيعة، والأخرى توحي إلينا بتنزيل من الله.
نحن أميل كثيرا إلى ماكيافلي وأمثاله ممن يقولون ما يعمله الإنسان، لا ما ينبغي أن يعمله.
كل فلسفة أخلاقية حسنة فهي وصيفة للديانة.
من مبادئ ليساندر أن الأطفال يخدعون بالحلوى والرجال بالأقسام.
طرق الحياة كطرق المكان، أقصرها كثيرا ما يكون أقذرها، وليس أجملها بالقريب منك في كل حين.
في الطبيعة ينابيع من العدل تنبثق منها القوانين كالجداول.
ينبغي أن تتبع الكتب العلوم، لا أن تتبع العلوم الكتب.
الوجه الجميل توصية صامتة.
الرجاء إفطار حسن ولكنه عشاء رديء.
كان الونسو الأرغواني يقول في مدح القدم: إنه يبدو خيرا وأفضل في أربعة أشياء: الحطب القديم ليحرق، والخمر القديمة لتشرب، والأصدقاء القدامى ليوثق بهم، والمؤلفون الأقدمون ليقرءوا.
لما فر ديمستين من المعركة وليم على ذلك قال: إن الذي يفر مرة يقاتل مرة أخرى.
لما هنأ بيرهوس أصدقاؤه بانتصاره على الرومان بقيادة فابريكوس بعد مقتلة عظيمة في جيشه قال: نعم! ولكنا إذا انتصرنا هكذا مرة أخرى قضي علينا.
الثروة خادمة جميلة ولكنها أقبح سيدة.
في صوت الشعوب شيء من الربانية، وإلا فكيف تتفق كل هذه الأنفس على رأي واحد؟
الصمت فضيلة الحمقى.
ليس لخطة اعتدال قط قبول عند الغوغاء.
القول بأن الأشياء كلها تتغير، وأنه لا شيء في الحقيقة يفنى وأن مقدار المادة يبقى أبدا كما كان - هو يقين واف.
تتفق الألوان جميعا في الظلام.
من كانت له زوجة وأولاد، فقد أعطى الرهائن للأقدار؛ لأنهم عقبة في طريق كل عمل عظيم للخيرات كان أو للشرور.
الزوجات خلائل الشباب، ورفيقات الكهولة، وممرضات الشيخوخة.
كما يكون المواليد عند وضعهم قباح المنظر كذلك البدع عند ظهورها تقبح في العيون؛ لأنها مواليد الزمان.
من لم يتخذ العلاج الجديد عليه أن يتوقع الداء الجديد؛ لأن الزمن أبو البدع ومنشئ الجديد.
في الدنيا صداقة قليلة، وبخاصة بين الأكفاء.
الفرصة تخلق اللص.
لا نستطيع أن نسيطر على الطبيعة إلا بطاعتها.
المعرفة قوة.
من أشبع غيره منه رخص.
اختيار الوقت قصد في الوقت.
في الطبيعة الإنسانية من الأحمق فوق ما فيها من الحكيم.
الفرنسيون أعقل مما يظهرون، والأسبان يظهرون أعقل مما هم في الحقيقة.
البيوت جعلت للسكن لا للنظر، فلنقدم فيها الفائدة على النسق، ما لم تتفق لها المزيتان.
الشعر (من كتاب «ترقية المعارف»)
الشعر جزء من المعرفة في قالب كلمات مقيدة بعض التقييد، ولكنها فيما عدا ذلك غاية في الترخص والطلاقة، ومرجعها الأصيل إلى الخيال الذي لا تربطه قوانين المادة، ولهذا يصل كما يشاء بين ما فصلته الطبيعة ويفصل بين ما وصلته، ويزاوج ويطلق بين الأشياء على غير السنة المشروعة كما قيل: «إن الرسامين والشعراء قد أبيح لهم دائما ما يرومون.»
ويؤخذ الشعر على مأخذين في كلماته أو مادته، فهو على أحدهما نسق من الأسلوب يرجع إلى صناعات الكلام، ولا شأن لنا بها فيما نحن بصدده الآن، وهو على المأخذ الآخر - كما قيل - قسم من أقسام المعرفة الهامة، لا يعدو أن يكون في الحقيقة نمطا من التاريخ الرمزي يدخل في المنثور كما يدخل في المنظوم.
وغرض هذا التاريخ الرمزي هو أن يعطي العقل الإنسان ظلا من الرضى في تلك الأحوال، التي تضن طبيعة الأشياء بإرضائه فيها.
فالدنيا في وضعها بمرتبة دون مرتبة الروح، ويحدث من أجل ذلك أن تحس الروح بعظمة أوسع، وخير أحكم وتنوع أعم وأكبر مما تحتويه طبائع الأشياء.
ولما كانت حوادث التاريخ الصحيح لا ترتقي في مداها إلى مرضاة العقل الإنساني، فالشعر يمثل له أعمالا وحوادث أرفع وأقرب إلى البطولة؛ لأن التاريخ الصحيح يعرض لنا الأعمال والحوادث المألوفة التي يقل التنوع فيها، فيهب لها الشعر ندرة وتنوعا غير متوقع أو معهود، وهو ما يظهر منه أن الشعر ينزع إلى الطيبات، ومحاسن الأخلاق وبهجة الخواطر، وبهذه المثابة يعتقد دائما أن له حظا من الإلهام الإلهي مذ كان يرفع العقول ويقومها، من حيث يربطها المنطق بطبائع الأشياء ويثنيها لسلطانها، وبهذه الإيحاءات والمطابقات بين طبيعة الإنسان والسرور مع مجاراتها للنغم الموسيقي والصوت الموزون كان للشعر مدخل وتقدير في عصور البربرية الخشنة، لم يكن لباب آخر من أبواب المعرفة والتعليم.
وللشعر أقسام يشارك فيها التاريخ كتمثيل الأخبار والسير، وتمثيل الرسائل والخطب وما إليها، ولكنه فيما عدا ذلك ينقسم أفضل تقسيم إلى فروع ثلاثة: وهي الشعر القصصي، وشعر التصوير والتشبيه، وشعر الرمز والإيماء أو الكناية.
فالشعر القصصي إن هو إلا محاكاة للتاريخ مع الغلو والتزيد، اللذين أشرنا إليهما فيما تقدم، وموضوعاته على الإجمال هي الحرب والحب والسياسة نادرا، والسرور واللهو في بعض الأحيان.
وشعر التصوير والتشبيه هو التاريخ الشاخص المنظور، أو هو صور الحوادث، كأنها حاضرة من حيث يكون التاريخ صورا لها في الطبيعة كما هي - أي كما مضت.
وشعر الرمز والكناية هو سرد يراد به التعبير عن بعض الأغراض الخاصة أو التورية، وقد كانت هذه الحكمة الرمزية شائعة في الأزمنة القديمة على أمثلة خرافات أيسوب ومأثورات الحكماء السبعة، وما يظهر من استخدام الكتابة الهيروغليفية، وعلة ذلك ضرورتها للتعبير عن المرامي التي هي أدق وأخفى على فهم الغوغاء في تلك العصور؛ لأن الناس في تلك العصور كان يعوزهم تنويع المثل ودقة التورية، وكما سبقت رسوم الهيروغليفية الحروف، كذلك كانت الأماثيل سابقة للحجج والبراهين، وهي حتى الآن وفي كل زمان، تشتمل على حياة جمة ونشاط وافر؛ لأن المنطق لا يساويها في التنبيه والأمثلة الحية.
ولكن للشعر الرمزي بعد هذا غرضا يقابل ذلك الغرض الذي قدمناه؛ لأنه يرسي في سياق التعليم إلى الشرح من طريق المواربة والتلبيس بين الظاهر والباطن، كما يحدث في أسرار الديانة وخفاياها، أو في السياسة أو الفلسفة حين تطوي في خلال الخرافات والأماثيل، واستخدام ذلك في الدين جائز مرخص به كما رأينا، وكان استخدام الخرافات على عهود الوثنية كثيرا ما يفيض في سهولة وخفة، ومن أمثلته تلك الخرافة التي تقول: إن المردة قهروا في حربهم مع الآلهة، فأخرجت أمهم الأرض «الإشاعة» من أحشائها على سبيل الانتقام، فإن هذه الخرافة ترينا أن الأمراء والملوك حين يقمعون الثورات والقلاقل العلنية تعمد ضغينة الجماهير - وهي أم الثورات - إلى خلق النمائم والإشاعات والتهم، التي هي من مادة الثورة ولكنها مؤنثة.
كذلك الخرافة التي تقول: إن الأرباب قد ائتمرت برئيسها جوبيتر؛ لتوثقه وتحد من سطوته، فاستدعى پالاس
إليه برياروس
Briareus
بأيديه المائة لمعونة الإله الأكبر، فإن هذه الخرافة ترينا أن الملوك حريون ألا يبالوا بانتقاض رعاياهم الأقوياء على سلطانهم ما أمكنهم بالرأي والتدبير أن يملكوا قلوب شعوبهم الذين ينضوون إليهم لمعونتهم.
وكذلك الخرافة التي تقول: إن أشيل تربى برعاية السنتاؤر شيرون، وهو نصف إنسان ونصف دابة، فإن هذه الخرافة تعلمنا ما أجاد ماكيافلي في شرحه وإن أفسده، حيث يتجلى أن تعليم الأمراء وتدريبهم ينبغي أن يتوخى فيهما اقتدار الأمير على القيام بدور الأسد في العنف والثعلب في الحيلة، كما يتوخى فيهما القيام بدور الإنسان في الفضيلة والعدالة.
على أنني أميل إلى الاعتقاد - في أشباه هذه الخرافات - أن الخرافة وضعت أولا، ثم جاء بعدها الشرح والتفسير، ولا أعتقد أن المغزى وضع أولا ثم جاءت بعده الخرافة، وقديما أولع الغرور كريسپس
Chrysippus
بإجهاد نفسه في عنت شديد؛ لتعليق آراء الفلاسفة الرواقيين على خرافات الشعراء الأقدمين.
أما أن جميع الخرافات والقصص التي نظمها الشعراء كانت لهوا، ولم تكن رموزا وعظات، فذلك ما أمسك عن إبداء الرأي فيه، ومن هؤلاء الشعراء الذين بقيت آثارهم هومير نفسه ... وقد جعله المتأخرون من أساتذة اليونانية ضربا من التنزيل! فلا صعوبة في القول بأن خرافاته لا تنطوي على دخائل المعاني التي تنسب إليها، وليس من السهل مع ذلك أن نجزم بمراميها؛ لأنه هو لم يكن مخترع الكثير منها.
وفي هذا الجزء الثالث من المعرفة - وأعني به الشعر - لا أستطيع أن أشير إلى نقص أو آفة، فإنه كالشجرة التي نبتت من شهوة الأرض بغير بذرة سابقة، فأصابت من النمو والجزالة ما لم تصبه شجرة أخرى، وعلينا أن نعطيها حقها ونوفي لها قسطها، ففي التعبير عن الخوالج، والأهواء، والمفاسد، والعادات نلجأ إلى آثار الشعراء أكثر من لجوئنا إلى آثار الفلاسفة، وليس التجاؤنا إليها بأقل كثيرا من التجائنا إلى آثار الخطباء في معارض الفطنة والفصاحة.
وبعد فلا يحسن بنا أن نسهب طويلا في هذا المجال، فلننتقل منه إلى مجال القضاء، فنقبل عليه ونستجليه بوقار أعظم وعناية أوفى.
الملك هنري السابع
هذا الملك - إذا تكلمنا عنه بما هو أهل له - كان عجبا من أحسن العجب؛ لأنه كان عجبا لذوي الحكمة والذكاء، وكانت في كل من فضائله وحظوظه جوانب مختلفة هي أصلح للتأمل منها للعرض المشاع.
كان تقيا في شعوره وسلوكه، ولكنه لنفاذ بصره في الأوهام بالقياس إلى زمنه ، كانت تغلب عليه السياسة البشرية بين حين وحين.
كان يقدم رجال الكنيسة، وكان رفيقا بمزايا المعابد وحقوقها، وإن أصابه منها بعض الأذى، وقد بنى كثيرا من العمائر الدينية وأنفق عليها عدا مستشفاه التذكاري بسفوا، وكان إلى ذلك محسنا في الخفاء مما يدل أن أعماله في العلانية إنما كانت لمجد الله لا لمجده.
وكان هجيراه أن يعيش في سلام، وتعود في تقديم معاهداته أن ينص على أن السيد المسيح يوم جاء إلى الأرض ارتفعت الأناشيد بالسلام، ويوم فارقها خلف بعده وصية السلام، ولم تأت هذه الفضيلة من خوف أو نعومة؛ لأنه كان شجاعا عالي الهمة موفور النشاط، فهذا الخلق منه لا ريب من الدين ومكارم الأخلاق.
على أنه قد عرف أن سبيل السلام لا يقتضي الإحجام عن الحروب، ومن ثم كان ينذر بالحرب، وينشر أحاديثها وإرهاصها حتى يسوي أحوال السلام، وإنه لعظيم أن يكون الرجل الذي أحب السلام ذلك الحب سعيدا موفقا في الحرب، إذ كانت جيوشه سواء في خارج بلاده أو في الحروب الأهلية لم تمن قط بسوء الطالع، ولم تعرف قط ما هي الهزيمة.
ذي رڤنج
REVENGE (من تعليقات على الحرب الأسبانية)
في سنة 1591 اشتركت سفينة إنجليزية باسم رڨنج (الانتقام) في قتال باقي الأثر بقيادة السير رتشارد جرنفيل، ونقول باقي الأثر فوق كل كلام وإلى ذروة من البطولة تشبه بطولة الأساطير، وقد كانت هزيمة، ولكنها أرفع من النصر والغلبة ... كأنما هي ضربة شمشون، التي قتل بها في موته أضعاف من قتل وهو بقيد الحياة.
لبثت خمس عشرة ساعة كالأيل بين كلاب الصيد التي تقف له بالمرصاد، وأحاطت بها خمس عشرة سفينة أسبانية تناضلها من أسطول تبلغ عدة قطعه خمسا وخمسين، وقفت بقيته تتربص من بعيد، وكانت بين السفن المقاتلة تلك السفينة الكبرى المعروفة باسم القديس فيليب، وحمولتها نحو ألف وخمسمائة طن، وهي سيدة الاثنتي عشرة المعروفة في الأسطول الأسباني برسل البحار، فحمدت الله على السلامة حين تحولت عن ذي رڨنج!
وقد كانت هذه السفينة الباسلة لا تقل أكثر من مائتي جندي وبحار، بينهم ثمانون مرضى في الفراش، ومع هذا غرق حولها سفينتان بعد قتال دام خمس عشرة ساعة، وعطبت سفن أخرى وقتل فيها خلق كثير، ولم تستسلم قط بل أخذت بالوفاق والمصالحة بين الإعجاب العظيم من العدو بقائدها وسيرتها الفاجعة في جملتها. (3) الطرائف والأجوبة
جمع باكون في هذا الكتيب اللطيف نتفا من مطالعاته الواسعة في الأدب والتاريخ، ونوادر من محفوظاته ومسموعاته التي وردت عليه في بيئته وبيئة ذويه وخاصة صحبه، وسماه بالإنجليزية “A collection of Apothegms” ، وهي كلمة تقابل عندنا معاني كثيرة نطلقها على الطرائف وجوامع الكلم، وما شاكلها من الأمثال السائرة والأجوبة المسكتة، والمأثورات النادرة، واخترنا لها عنوان الطرائف والأجوبة؛ لأنه أنسب العناوين لموضوعها كما سيرى القارئ من هذه المختارات المتفرقة، وهي في رأينا أدل ما كتب باكون على أهوائه وأحاديثه في مباذله، وأدلها من ثم على الناحية الإنسانية فيه، فإذا كان «القانون الجديد» وطوبى الجديدة وترقية التعليم أو المعرفة ترجمان باكون العالم، وكانت مقالاته وفصوله ترجمان باكون الأديب، فهذه الطرائف والأجوبة ولا ريب ترجمان باكون الإنسان، حيث يعيش لنفسه وبين جلسائه ومسامريه، وهي من هذه الوجهة تضم إلى قيمتها الأدبية قيمة أخرى في باب الترجمة له والتعريف بنفسه وهواه.
وقد جمعها من ذاكرته في أواخر أيامه، وأشار في التمهيد لها إلى عناية يوليوس قيصر بجمع الطرائف والأجوبة من قبيلها، كأنه يعتذر من اشتعاله بمثلها، وهي في الواقع من خير ما ترك وأمتعه للقارئ الذي ينشد التسلية أو يستفيد.
وهذه نماذج منها تلم بجميع موضوعاتها وأغراضها، وتنبئ القارئ عما توخاه فيها.
دعت الملكة آن بولين “Ann bulin”
إليها رجلا من حاشية الملك، وهي تساق في البرج إلى الموت، وقالت له: «اذكرني عند الملك وقل له بلساني: إنه كان مثابرا على سنته في الارتفاع بي من منزلة إلى ما فوقها، فقد نهض بي من امرأة بين السيدات عامة إلى رتبة المركيزة، ثم نهض بي من رتبة المركيزة إلى عرش الملكات، وها هو ذا اليوم - إذ لم تبق أمامه منزلة على الأرض يرفعني إليها - قد ثابر على سنته، فتوج براءتي بمجد الشهيدات.» «كان قائد عظيم من قواد فرنسا على خطر من ضياع منصبه الكبير، فلم تزل قرينته بشتى الحيل والوسائل ساعية في خلاصه حتى حفظت له ذلك المنصب المهدد بالضياع، فقال بعض الظرفاء: لقد سحق ولكنه احتمى من السحق تحت قرنين!»
توجه أعضاء المجلس الخاص إلى الملكة اليصابات بكثير من النصائح؛ لتنبيهها إلى مكائد المتربصين بحياتها، وقيل لهم: إنهم قد اعتقلوا أخيرا بعض المجرمين وهو متأهب في شر حال للفتك بها، وأروها السلاح الذي أعده لاغتيالها، ثم أشاروا عليها باجتناب الخروج في ذلك الحرس القليل، الذي تعودت أن تخرج به لرياضتها، فأصغت إليهم ثم أجابتهم قائلة: «إنها تفضل أن تموت ميتة القتلى على أن تعيش عيشة السجناء.»
كانت ملكة هنري الرابع - عاهل فرنسا - حاملا في أوائل حملها، وكان الكونت سواسون يتطلع إلى العرش من بعد هنري الرابع، فكان يقول كلما علا بطن الملكة: إنما هي وسادة! فنمى كلامه إلى الملك فأسره في نفسه حتى أوشكت الملكة أن تضع حملها، ثم استدعى الكونت سواسون وقال له وهو يضع يده على بطنها: ألا تزال تحسبها وسادة يا ابن العم؟ فلم يتلعثم الكونت، بل قال على الفور: «نعم يا مولاي! إنها وسادة تركن إليها فرنسا بأسرها!»
كانت الملكة اليصابات تقول عن أوامرها لكبار موظفيها: إنها كالحلة التي تلبس مستقيمة في جدتها، ثم تتثنى وتسترخي يوما بعد يوم.
زارت الملكة اليصابات منزل السير نيكولاس باكون حامل خاتم المملكة وهي عابرة في طريقها، فقالت له: أيها اللورد! ما أصغر منزلك هذا؟
قال السبير نيكولاس باكون: «مولاتي: إن منزلي حسن، ولكنك يا مولاتي أنت التي جعلتني أضخم من أن يتسع لي منزل كهذا.»
كان طاليس الفيلسوف ينظر إلى النجوم فسقط في الماء وهو لا يراه، فقيل في هذا المعنى: لو أن الفيلسوف نظر إلى الماء لكان خليقا أن يرى النجوم فيه، ولكنه نظر إلى النجوم ففاته أن يرى الماء.
ندب بعض الضباط لمهمة مهلكة زوده القائل لها بعدد من الجند قليل لا يكفي لإنجازها، فلم يطلب المزيد بل قال لقائده: زودني يا مولاي بنصف هذا العدد وكفى، فعجب القائد وسأله: ولم؟ فقال الضابط: نعم يا سيدي، فإنه كلما قل عدد القتلى كان ذلك خيرا وأبقى!
من أمثال الأسبان: إن الحب الذي لا غاية له ليست له غاية ... يريدون بذلك أن الحب لغير غرض يبقى ولا يعجل بالانتهاء.
كان رجل شديد الغيرة على امرأته، فجعل يتبعها حيث تسير، ويتعقب أخبارها في كل مكان، فلما ضجرت من غيرته قالت له في كلام صريح لا مواربة فيه: أولى لك أن تعدل عن هذا التعقب المضجر، وإلا أثبت لك على جبينك قرنين يصدانك عن الخروج من كل باب!
كان ميخائيل أنجلو - المصور المشهور - يرسم صورة جهنم في كنيسة البابا، فوضع في الرسم مع الأرواح الملعونة المؤبدة في الجحيم صورة كاردينال كان يبغضه ويعاديه، فلم يخف منظره على أحد رآه.
فتوسل الكاردينال إلى الحبر الأعظم في ذلك وضراعة أن يأمر بمسح تلك الصورة من رسم الجحيم، فأجابه الحبر الأعظم باسما: ومن أين لي ذاك؟ أنت تعلم حق العلم أن لي سلطانا على الأرواح التي في الأعراف ولا سلطان لي على الأرواح التي دخلت النار.
مات رجل مثقلا بالديون، فاجتمع دائنوه يقول أحدهم: لئن ذهب إلى الدار الآخرة، لقد حمل معه خمسمائة دينار من مالي، ويقول غيره: وحمل من مالي إلى الدار الآخرة مائتي دينار، ويعدد الآخرون ديونهم عليه، فقاطعهم بعض الحاضرين قائلا: الآن علمت أن الراحل من الدنيا لا يحمل منها شيئا من ماله، ولكنه قادر على أن يحمل معه كثيرا من أموال الناس!
هجر مصور صناعة الرسم وسلك نفسه بين الأطباء، فقال له ظريف: لقد أصبت فيما صنعت، فقد كانت أخطاؤك منظورة فصارت مدفونة في التراب!
كان السلطان سليم العثماني أول من حلق لحيته من سلاطين آل عثمان، فسأله أحد الباشوات: لم بدلت يا مولاي عادة الآباء والأجداد؟
قال السلطان: لكيلا تسحبوني معشر الباشوات منها كما كنتم تسحبون أولئك الآباء والأجداد.
كان مستر بتنهام القارئ في خان جراي يقول: إن الثروة كالسماد يشتم منه العفن إذا تراكم في موضع واحد، ولكنها تثمر أحسن الثمرات إذا هي انتشرت على أديم الغبراء.
كان بين قيصر بورجيا وسادات رومان خلاف قديم، لم يزل يحتال عليهم حتى سواه وأصلح ما بينهم وبينه، فعاهدوه عهدا اشترطوا فيه ألا يدعوهم كلهم في جمع واحد إليه، مخافة أن يتمكن منهم مجتمعين فيبطش بهم أجمعين، ولكنه ما برح يتلطف إليهم ويتسلل إلى مكان الثقة من نفوسهم، حتى اطمأنوا إليه، ثم دعاهم إلى الاجتماع حيث استأصلهم ولم يبق منهم أحدا، وأبلغ بعض الكرادلة أباه هذه الفعلة على أنها فعلة موفقة ولكنها غادرة، فقال البابا ألكسندر: إنهم هم الذين نقضوا العهد فحضروا إليه جماعة!
كان كاتو الأكبر يقول: إن الرومان كالخراف ... سوق قطيع منها أيسر من سوق خروف.
سيق بيون الملحد في بعض الموانئ إلى هيكل نبتون، حيث أروه ألواحا شتى عليها رسوم أصحاب النذور، الذين نجوا من العواصف بالتوسل إلى إله البحار، ثم تحدوه سائلين: وما قولك الآن؟ ألا تعترف الآن بقدرة الآلهة؟
فأسرع مجيبا: بلى، ولكني أسألكم: أين أجد الألواح التي يرسم عليها الغرقى من أصحاب النذور؟
ابتهى جندي بندوب وجهه من أثر جراح الحرب أمام يوليوس قيصر، وكان قيصر يعرف فيه الجبن والكذب، فقال له: خليق بك إذن ألا تلتفت وراءك وأنت هارب.
كان طراجان يسخر بغيرة الأمراء ممن يخلفهم، ويعجب من محاولتهم إخفاء أمرهم أو إقصاءهم، ويقول: لم يوجد قط ملك قتل خليفته من بعده!
سئل فيليب المقدوني أن ينفي رجلا يسيء المقالة عنه في غيبته، فقال: خير لنا أن يتكلم حيث نحن كلانا معروفان من أن يتكلم حيث لا يعرفه ولا يعرفني أحد.
هزئ اشينس بالخطيب ديمستين قائلا في وصف خطبه: إنها تنفث منها رائحة الشمع ... كناية عن الجهد والسهر في تحضيرها، فقال ديمستين: نعم، والفرق مع ذلك عظم بين ما يعمله كلانا على ضوء الشموع.
من أقوال فيلو جودس “Philo judeus” : إن العقل كالشمس (يعني في مسائل العقيدة والإيمان)، إذ تحجب كواكب السماء وترينا صفحة الأرض، وهو يستر عنا الأمور السماوية ، ويكشف لنا الأمور الأرضية.
وهب داريوس للإسكندر هبات طائلة بعد معركة «جرانيكوم»، فشاور قواده في أمرها، فقال پارمنيو: لو كنت أنا الإسكندر لقبلتها، فقال الإسكندر: وكذلك أنا لو كنت پارمنيو.
تزوج كاتو الأكبر في شيخوخته بامرأة بعد زوجته المتوفاة، فجاءه ولده يعاتبه قائلا له: بم أسأت إليك يا أبت حتى أدخلت على بيتنا هذه الضرة، فقال كاتو: كلا! يا بني، إنك لم تسئ إلي بل أحسنت؛ ولذلك التمست المزيد من الأبناء.
فرق الإسكندر بين قواده وأولى حظوته عطايا عظيمة بعد اقتحامه البلاد الآسيوية، فسأله پارمنيو: وماذا أبقيت لنفسك؟ فأجابه بكلمة واحدة: الأمل.
عرض قارون كنوزه على صولون الحكيم، فقال له الحكيم: لئن جاءك ملك حديده أفضل من حديدك ليذهبن غدا بكل ذهبك.
ليم اريستپس على الإسراف والبذخ، وكان لائمه من الفقراء؛ لأنه اشترى سمكة صغيرة بستة دنانير، فسأله اريستپس: وبكم كنت تشتريها أنت! فقال الفقير: بدراهم معدودة، قال اريستپس: وستة دنانير لا تساوي عندي أكثر من دراهم معدودة.
بعث القرطجنيون بزعيمهم هاني مندوبا للصلح بعد الحرب القرطجنية الثانية، فأفلح في عقده، ولكن شيخا من شيوخ المجلس الروماني قال له في أثناء المفاوضة: إنك كثيرا ما أقسمت وحنثت في قسمك، فبأي الآلهة يا ترى تقسم الآن! فأجابه هاني: بالآلهة نفسها التي رأيتم عقابها الصارم للحنث في أيمانها!
كان ديوجنيس يقول إذا أحاطت به الفيران وهو يأكل: حتى ديوجنيس يطعم الطفيليين.
سن الرومانيون قانونا يحرم الرشوة وقبول الهدية على حكام الأقاليم، فألقى شيشيرون خطابا على الشعب قال فيه: إنه يحسب أن الأقاليم سوف تتوسل إلى حكومة روما لإلغاء هذا القانون، فإن الحكام كانوا قبل سنة يأخذون من الرشاوي والهدايا ما يكفيهم، ولكنهم الآن لا يقنعون بذلك حتى يأخذوا معه ما يكفي القضاة المحلفين، ومراجع الرئاسة!
كان شيلون يقول: إن الذهب يمتحن بمحك المعدن، والرجال يمتحنون بالذهب.
كان مستر پوڨام رئيسا لمجلس النواب قبل أن يصبح رئيسا للقضاة، واتفق في تلك السنة أن المجلس أطال الجلسات على غير جدوى، فلما لقي الملكة اليصابات سألته : ماذا قضيتم يا حضرة الرئيس في مجلس النواب؟
فقال الرئيس: سبعة أسابيع إذا سمحت يا مولاتي!
فتن ثمستوكليس في أيام خصاصته بفتى جميل كان يعرض عنه ويسخر منه، فلما عظم قدره جاءه الفتى يسعى لمرضاته، فأعرض عنه ثمستوكليس وقال: أرى يا صاح أننا كلينا قد تعلمنا الحكمة، ولكن بعد الأوان.
خرج بيون في سياحة بحرية، فلم يلبث أن هاجت بسفينته الأعاصير، وتعالى أصوات النواتية معه بالدعاء إلى الآلهة - وكانوا من شرار الناس - فصاح بهم: صه! لا تدعوا الآلهة تعرف بمكانكم في هذه السفينة!
كان پاس النديم قد حرم لقاء الملكة اليصابات لسلاطة لسانه في نكاته، فشفع له بعض رجال الحاشية، وأكدوا للملكة أنه سيمسك لسانه ولا يتجاوز حده، فلما مثل بين يديها قالت له: هلم يا باس، حدثنا الآن عن عيوبنا ونقائصنا، فما ملك النديم أن قال: لم أتعود يا مولاتي أن أخوض في الحديث المعاد ... وأن أكرر ما يتحدث به جميع الناس!
قال بعض السلف: الفرق الوحيد بين موت الشيوخ وموت الشبان أن الشيوخ يذهبون إلى الموت، وأن الموت يذهب إلى الشبان.
كان ديمترويوس ملك مقدونية يعتزل العمل، ويعكف على اللهو ويدعي المرض وهو محتجب عن الناس، فزاره أبوه أنتيجونس يوما من هذه الأيام، وهو يزعم أنه محموم، فرأى فتى مليحا رشيقا يخرج من حجرته، فلما رأى الملك أباه فوجئ فقال معتذرا: إن الحمى فارقتني الساعة!
قال أبوه: نعم رأيتها خارجة من هنا!
من أقوال كاتو الكبير: إن العقلاء يتعلمون من المجانين أضعاف ما يتعلم المجانين من العقلاء.
قيل لانكسا جوارس: إن الأثينيين حكموا عليك بالموت، فقال: وبالموت حكمت عليهم الطبيعة.
سئل انتيستنس “Antisthenes” : أي العلوم أجدى على الإنسان في حياته أن يعيه في ذهنه؟ فقال: أن يخرج من ذهنه ما لا يفيد.
أنفذ الترك جيشا إلى بلاد الفرس، فوقفوا عند جبال أرمينية ومضايقها الوعرة يتساءلون: كيف السبيل إلى الدخول؟ وسمع الباشوات من حضر مجلسهم، فقال لهم: عجبا، لقد سمعتكم جميعا تسألون كيف الدخول، ولم أسمع واحدا يسأل: كيف الخروج ؟
لما اقترح فيليب على ابنه الإسكندر أن ينزل في سباق الأولمب؛ ليظفر بجائزة العدو لسرعة عدوه، قال الإسكندر: نعم ولكني أجري إن جريت في حلبة ملوك.
من أقوال اريستيبس: إن الذين يتعلمون العلوم ويهملون الفلسفة لأشبه الناس بخطاب پنيلوب حين تقدموا بالغزل إلى جاريتها!
فرض أنطونيوس على آسيا الصغرى فريضة مضاعفة، فجاءه سفراؤهم يقولون: إنهم يؤدون في السنة ضريبتين إذا سمح لهم في السنة بربيعين وحصادين.
قال خطيب أثيني لديمستين: إن الأثينيين قاتلوك لا محالة في ساعة جنون، فقال ديمستين: وهم قاتلوك لا محالة في ساعة رشاد.
قال اپكتيتس: إن العامي يلوم غيره في كل خطأ يصيبه، وطالب الحكمة يلوم نفسه، وأما الحكيم الواصل فلا يلوم نفسه، ولا يلوم الآخرين.
أقام الرومانيون تماثيل كثيرة لمشاهيرهم، فسأل أحدهم كاتو الكبير: ما بالهم لم يرفعوا له تمثالا كغيره، فقال: أحب إلي أن يسأل الناس لم لم يرفعوا له تمثالا من أن يسألوا: لم رفعوا له هذا التمثال؟
تعب صديق للسير توماس مور في تأليف كتاب ينشره، وهو شديد الإعجاب بذكائه، على قلة الموافقين له على رأيه في نفسه، وجاء بالكتاب إلى السير توماس مور ليقرأه ويصارحه برأيه فيه، فلم يجد السير توماس في الكتاب ما يستحق عناء النشر، وقال لصاحبه: حبذا لو كان نظما وليس بنشر! فسرعان ما أخذه الرجل وعاد به منظوما بعد فترة وجيزة، فكان تعقيب السير توماس عليه في المرة الثانية أنه قال للمؤلف المخدوع في جد واهتمام: الآن هو شيء؛ لأنه على الأقل موزون، أما من قبل فلم يكن بالمعقول ولا بالموزون.
كان أحد الحكماء السبعة يقول: إن القوانين كنسج العنكبوت تقع فيه صغار الطير وتعصف به كبارها.
كان فوسيون الأثيني رجلا صارما لا يلين لعامة الناس، ووقف يخطب يوما فهتف له السامعون، فالتفت إلى أقرب أصحابه، وسأله: فيم أخطأت يا ترى؟
قال ديوجين لفتى متهم النسب رآه يرمي بالحجارة بين الجمهور: حذار يا هذا فربما أصبت أباك.
كان بلوتارك يقول عن صغار الناس في كبار المناصب: إنهم كالتماثيل الصغيرة التي تضؤل في النظر كلما ارتفعت قواعدها.
من عادة فرنسيس باكون أن يقول عن الرجل الذي يكظم غيظه، فلا يتحرك لسانه بالمسبة: إن تفكيره أسوأ من مقاله، وعن الرجل الذي يسب إذا غضب: إن مقاله أسوأ من تفكيره.
درجت الملكة اليصابات على أن تسأل عن كل موظف كبير من رجال الدين أو الدنيا؛ لتعرف ما يقال عن تقواه واستقامته وعلمه، فإذا علمت من ذلك ما يرضيها عنيت بالنظر إلى شخصه وسيماه، وتفضلت في موطن من هذه المواطن، فقالت لي: باكون! كيف يكون للقاضي سلطان إن لم تكن له هيبة ووقار؟
تكلم بعضهم عن إصلاح الكنيسة الإنجليزية، بحيث لا تصبح في الحق كنيسة إذا عمل برأيه، وكان سير فرنسيس باكون يميل إلى الاعتدال في هذه الشئون، فقال للمتكلم: سيدي! إن الموضوع الذي تتكلم فيه هو عين البلاد الإنجليزية، ومن الحسن إذا رأينا في العين قذاة أو اثنتين أن نخرجهما. ولكنه طبيب عيون عجيب، ذلك الذي يخرج العين كلها؛ لينقيها من قذاها.
كان لورد سانت البان - باكون نفسه - قلما يتعجل إثبات القضايا العامة، بل يخطو إليها خطوا وئيدا من طريق التجربة، فقال يوما لبعض الفلاسفة الذين لا يرون رأيه: إن الطبيعة كالمتاهة - لا بيرنت - كلما أسرعت فيها ضللت الطريق.
ينتصر مرتين من ينتصر على نفسه في ساعة الغلب.
إذا كانت الرذيلة مجدية، فالفضلاء هم الخاطئون.
ينام نوما طيبا من لا يشعر أنه ينام نوما رديئا.
الألم يخلق الكذوب حتى من الرجل البريء.
أصغر شعرة لها ظل.
يموت الإنسان عداد من يفقد من الأصدقاء.
يتهم نبتون - إله البحار - ظلما من تجنح به سفينته للمرة الثانية.
صفحة غير معروفة