وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع إلى الآن، على ما جربت من تجارب وبلغت من رقي، وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات، أن تنشئ نظاما سياسيا يتحقق فيه العدل السياسي والاجتماعي بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه!
وقد ذهبت الإنسانية في الحكم مذاهبها المختلفة؛ فكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، وكان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا للآلهة، ثم كان فيها حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم ظلالا لإله واحد. وهؤلاء الملوك جميعا كانوا يرون مخلصين أو غير مخلصين أن سلطانهم لا يأتيهم من الناس، وإنما يأتيهم من آبائهم الآلهة إن رأوا أنفسهم آلهة، ويأتيهم من الإله أو من الآلهة الذين اتخذوهم لأنفسهم ظلالا واستخلفوهم على عبادهم من الناس؛ فكان هؤلاء الملوك يصدرون فيما يأمرون وما ينهون وفيما يأتون وما يدعون عن أنفسهم، لا يعنيهم أن يرضى الناس أو يسخطوا، فليس للناس أن يرضوا أو يسخطوا، وإنما عليهم أن يذعنوا، وليس من شأن رضاهم أو سخطهم أن يغير من سيرة ملوكهم شيئا؛ فأنت تستطيع أن ترضى عن الشمس حين تضيء، وتسخط عليها حين تحتجب، فلن يغريها رضاك بالإشراق، ولن يمنعها سخطك عن الاحتجاب.
عرفت الإنسانية حكم هؤلاء الملوك فسعدت به قليلا وشقيت به كثيرا، وحاولت أن تغيره فأتيح لها هذا التغيير في بعض الظروف؛ فعرفت حكم القلة الأرستقراطية التي تستأثر بالعدل فيما بينها من دون الناس، وعرفت حكم الطغاة الذين أقبلوا لينقذوا الشعب من ظلم هذه القلة واستئثارها، وليشيعوا العدل بين الناس جميعا لا يفرقون بين الأقوياء والضعفاء، ولا بين الأغنياء والفقراء، ولا بين القادرين والعاجزين، فلم يتح لهم إلا أن يشيعوا الظلم بين الناس جميعا، وأن يذلوا القلة مع الكثرة ويردوها من الضعة والهوان، إلى مثل ما حاولت أن تخرج منه أو إلى شر مما حاولت أن تخرج منه.
ثم عرفت الإنسانية بعد ذلك نظاما من نظم الحكم، ظنت أنه من خير النظم وأرقاها وأقومها وأمثلها وأجدرها أن يحقق العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، وهو هذا النظام الذي يرد إلى الشعب أمور الشعب يصرفها كما يشاء ويدبرها كما يحب. ولكن الإنسانية جربت هذا النظام فنالت به قسطا من العدل، ولم تنل به العدل كله، بل لم تنل به من العدل إلا أيسره وأهونه شأنا؛ فلم يتح للناس إلى الآن أن يتفقوا على رأي ولا أن يجتمعوا على هوى، ولا أن تتحد لهم كلمة أو يلتئم لهم شمل, وهم من أجل ذلك يرون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، ثم لا يصنعون من ذلك شيئا في حقيقة الأمر: يستفتون الشعب في أمره؛ فإذا كان الاختلاف - ولا بد من أن يكون الاختلاف - أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلين، أو أن يحكموهم على غير ما يريدون؛ ولو قد ضمن للأكثرين أن يحكموا أنفسهم، وأن يحكموا الأقلين لكان هذا النظام مقاربا للعدل مباعدا للظلم المنكر إلى حد ما. ولكن الأكثرين لا يحكمون بأنفسهم ولا سبيل إلى أن يحكموا بأنفسهم، فهم يكلون أمر الحكم إلى ممثلين لهم يختارونهم لذلك اختيارا، ويكلفونهم بذلك تكليفا، وقد يخلص هذا الاختيار في نفسه من العنف والإغراء، ومن الرغب والرهب، أو لا يخلص؛ ولكن ليس من شك في أن هؤلاء الممثلين الذين تكل الكثرة إليهم أمور الحكم، ناس من الناس، فيهم القوة وفيهم الضعف، وفيهم الشدة وفيهم اللين، وفيهم القناعة وفيهم الطمع، وفيهم الإيثار وفيهم الأثرة؛ فهم معرضون لأن يجوروا عن القصد، وينحرفوا عن الطريق، ويحملوا أنفسهم ويحملوا الناس معهم على غير الجادة، ويتورطوا كما تورط الملوك المستبدون، وكما تورطت الأرستقراطية المستأثرة، وكما تورط الطغاة المستعلون في الظلم والجور.
هذا كله ولم نتجاوز العدل السياسي، فكيف إذا قصدنا إلى العدل الاجتماعي الذي يراد منه ألا يجعل الناس سواء أمام الحاكم فحسب، وإنما يجعلهم سواء أمام الثمرات التي قدر للناس أن يعيشوا عليها؛ فقد عجزت نظم الحكم التي عرفتها الإنسانية، على اختلاف العصور والبيئات والظروف، عن أن تحقق هذا العدل الاجتماعي تحقيقا ينتهي بالناس إلى اطمئنان لا يشوبه قلق، ورضا لا يشوبه سخط، وأمن لا يشوبه خوف. والإنسانية المعاصرة ترى من ذلك ما لا يحتاج إلى أن نطيل القول فيه؛ فالديمقراطية قد ضمنت للناس شيئا من حرية وقليلا من مساواة أمام القانون، ولكنها لم تكد تضمن لهم من العدل الاجتماعي شيئا؛ والشيوعية قد ضمنت للناس قليلا أو كثيرا من العدل الاجتماعي، فألغت ما بينهم من الفروق، وأتاحت للعاملين منهم أن يعملوا وينتفعوا بثمرة أعمالهم، وأتاحت للعاجزين منهم أن يعيشوا غير معرضين لذلة أو ضعة أو هوان، ولكنها ضحت في سبيل ذلك بحريتهم كلها فلم تدع لهم منها شيئا، أو لم تكد تدع لهم منها شيئا؛ والفاشية قد ضحت بالحرية والعدل جميعا، فاستذلت الناس لسلطان الدولة استذلالا بعيد المدى، واستغلتهم لقوة الدولة أبشع استغلال وأشنعه، ثم لم ترد عليهم من نتائج عملهم شيئا، ولم تحفظ عليهم من حريتهم قليلا ولا كثيرا.
سلكت الإنسانية في سبيل الحكم الصالح كل هذه الطرق، وجربت كل هذه النظم، فلم تنته إلى غاية، وما زالت تشكو الظلم والجور، وتضيق بالاستذلال والاستغلال، وتبحث عن النظام القويم الذي يضمن للناس الحرية والعدل جميعا. وهذا النظام القويم هو الذي حاولت الخلافة الإسلامية لعهد أبي بكر وعمر أن تنشئه، فمات أبو بكر رحمه الله ولم يكد يبدأ التجربة، وقتل عمر رحمه الله وقد خطا بالتجربة خطوات واسعة، ولكنه لم يرض عنها أولا؛ فقد روي عنه أنه كان يقول في آخر خلافته: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.» فقد رأى عمر إذن أنه لم يبلغ من تحقيق العدل الاجتماعي ما كان يريد، فكيف ولم يعرف المسلمون ولا غير المسلمين أميرا حاول من العدل ما حاول عمر وحقق منه ما حقق عمر. ولم يرض الناس عن تجربة عمر في أيامه ثانيا؛ فقد كانوا يهابونه ويشفقون من سلطانه، ويعطيه أكثرهم خوفا ورهبا؛ وكان أشد الناس حبا لعمر وأشد الناس حبا إلى عمر يبتغون إليه الوسيلة ليرفق بنفسه وبهم وبعامة الناس فلا يبلغون منه شيئا؛ لأنه كان يؤثر العدل على كل شيء، ثم لم يرض المغلوبون عن هذه التجربة آخر الأمر؛ فقد كانوا يرون أنهم يكلفون ما لا يحبون وفوق ما لا يطيقون، وكانوا يرون أنهم أصحاب سابقة في الحضارة، وأن العرب طارئون على هذه الحضارة، وأن مما يخالف أهواء نفوسهم أن يتسلط البادون على الحاضرين. وقد قتل عمر رحمه الله نتيجة لهذا السخط؛ قتله أحد هؤلاء المغلوبين الذي شكا إليه شدة سيده المغيرة بن شعبة، فلما حقق شكاته لم يعتبه، فكانت نتيجة ذلك أن طعن وهو يستقبل الصلاة.
على أن من الإسراف أن نقضي في هذه التجربة الجريئة بهذه السرعة السريعة، فمن حقها علينا أن نقف عندها وقفة فيها شيء من تمهل وأناة، لنرى أكان من الممكن أن تبقى، ولنرى أكان من الممكن أن تنجح وتبلغ غايتها؛ فقد نحقق بهذه الوقفة المتمهلة المستأنية ما أخذنا به أنفسنا من الإنصاف أولا، وقد تعيننا هذه الوقفة المتمهلة المستأنية على أن نفقه هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها، أو أثيرت أيام عثمان، لا لأن عثمان كان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان قد آن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه، وليثير الناس بعضها الآخر.
الفصل الثاني
كانت القاعدة الأساسية التي أقام أبو بكر وعمر عليها نظام حكمهما، هي أن يسيرا سيرة النبي في المسلمين ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وسيرة النبي في المسلمين معروفة إلى أبعد حد ممكن. وكان قوام هذه السيرة تحقيق العدل الخالص المطلق بين الناس، وما نحتاج فيما نظن أن نقيم على ذلك دليلا، وحسبنا أن نذكر من لا يذكر أن الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين؛ أولاهما: التوحيد، وثانيتهما: المساواة بين الناس، والله عز وجل يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
صفحة غير معروفة