وما دمنا بسبيل الزكاة وإبل الصدقة، فلنذكر اعتراضا آخر وجهه خصوم عثمان إليه، وهو أنه أخذ من أموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة. قال المعترضون: إن لأموال الصدقة مصارف معينة بينها الله في قوله:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم . والله قد بين هذه المصارف بهذا القصر الذي نصه في أول الآية، وبقوله:
فريضة من الله . فلا يجوز للإمام أن ينفق من أموال الصدقة إلا في المصارف التي بينها الله عز وجل في هذه الآية.
وأجاب المتكلمون من أهل السنة والمعتزلة على هذا الاعتراض بأن عثمان لم يفعل ذلك إلا حين رأى في أموال الصدقة سعة، وحين رأى حاجة الحرب إلى مزيد من نفقة، فاقترض من أموال الصدقة لينفق على الحرب، مزمعا أن يرد ذلك إذا اتسع بيت المال لرده. ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين ولا يغير بذلك سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها. ونقول نحن: إن جواب المتكلمين ليس به بأس من ناحية الدين، ولكن البأس هو أن يأخذ الإمام من مصرف لينفق على مصرف آخر؛ فإن ذلك أحرى أن يدل على شيء من سوء التدبير المالي، وعلى إسراف في أموال الحرب والمرافق الأخرى بإنفاقها في غير احتياط ولا تحفظ، وبإعطائها على سبيل الهبة لمن لا يستحقها. وسنعود إلى هذا الحديث في موضع آخر قريب.
وعاب خصوم عثمان عليه أنه حمل الناس على مصحف واحد، ثم لم يحظر غير ما جاء في هذا المصحف من القراءة فحسب، ولكنه حسم الأمر حسما، فحرق ما عدا هذا المصحف من الصحف التي كتب فيها القرآن. قال المعترضون على عثمان: إن النبي قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف.» فعثمان حين حظر ما حظر من القراءة وحرق ما حرق من الصحف إنما حظر نصوصا أنزلها الله، وحرق صحفا كانت تشتمل على قرآن أخذه المسلمون عن رسول الله. وما ينبغي للإمام أن يلغي من القرآن حرفا أو يحرق من نصوصه نصا. وقصة جمع الناس على مصحف واحد ليست يسيرة إلى هذا الحد الذي تصوره خصوم عثمان وأنصاره. فقد روي عن النبي روايات متظاهرة أنه قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف.» ولكن المسلمين ما زالوا مختلفين في تأويل هذا الحديث إلى الآن: فقوم يرون أن هذه الأحرف هي المعاني التي تناولها القرآن من الوعد والوعيد والأمر والنهي والوعظ والقصص، وقوم يذهبون بهذه الأحرف مذهب التصوف، وقوم يرون أن هذه الأحرف هي ألفاظ تختلف فيما بينها باختلاف اللغات التي كانت العرب تتكلمها. ولم يتفق المسلمون اتفاقا قاطعا على معنى دقيق لهذا الحديث؛ فلا يصح الاحتجاج به على عثمان حتى يتفق المختصمون والأنصار على معناه. وقد تظاهرت الروايات أيضا بأن المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن أيام النبي نفسه، ولم يكن اختلافهم في اللهجات، وإنما كان اختلافهم في الألفاظ دون أن تختلف معاني هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبي نفسه فأجاز قراءتهم جميعا؛ لأنها لم تكن تختلف في معناها، وإنما كانت تختلف في ألفاظها. وقد جمع القرآن أيام أبي بكر وعمر، وجاءت الشكوى إلى عثمان بأن المسلمين في الأمصار والثغور يختلفون في قراءة القرآن، ثم يختصمون حول هذا الاختلاف، فيفضل بعضهم قرآنه على قرآن غيره، حتى أوشكوا أن يفترقوا، وحتى قال حذيفة بن اليمان لعثمان: أدرك أمة محمد قبل أن تتفرق حول القرآن.
فليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف وحمل المسلمين على حرف واحد أو لغة واحدة يقرءون بها القرآن، عمل فيه كثير من الجراءة، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة. فلو قد ترك عثمان الناس يقرءون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح، وبعد أن استعرب الأعاجم، وبعد أن أخذ الأعراب يقرءون القرآن.
ولهذا لم يتردد أهل السنة والمعتزلة في إقرار ما عمل عثمان، وفي الاعتراف له بهذا الفضل العظيم؛ لأنه حال بين المسلمين وبين الفرقة، وجمعهم على الشيء الوحيد الذي لا ينبغي أن يختلفوا فيه. ولا نعلم أن عليا أنكر ذلك على عثمان، ولا أن أحدا من أصحاب الشورى أنكره، بل روي أن عليا قال في خلافته : «لو كنت مكان عثمان لحملت الناس في أمر القرآن على ما حملهم عليه.» فليس على عثمان بأس في دينه من هذه الناحية. وقد يمكن أن يعترض عليه في أنه كلف كتابة المصحف نفرا قليلا من أصحاب النبي، وترك جماعة من القراء الذين سمعوا من النبي وحفظوا عنه وعلموا الناس في الأمصار، وكان خليقا أن يجمع هؤلاء القراء جميعا ويجعل إليهم كتابة المصحف. ومن هنا نفهم غضب ابن مسعود؛ فقد كان ابن مسعود من أحفظ الناس للقرآن. وهو، فيما كان يقول، قد أخذ من فم النبي نفسه سبعين سورة من القرآن، ولم يكن زيد بن ثابت قد بلغ الحلم بعد. فإيثار عثمان لزيد بن ثابت وأصحابه وتركه لابن مسعود وغيره من الذين سبقوا إلى استماع القرآن من النبي وحفظه عنه، قد أثار عليه بعض الاعتراض. وهذا شيء يفهم من غير مشقة ولا عسر.
وربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرق عثمان من المصحف، ولم يقبلوا اعتذاره بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئا لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة، بل تكاد تتاح للخاصة، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات. وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئا من دينهم، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيرا من العلم بلغات العرب ولهجاتها، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات.
وأنكر المنكرون على عثمان خصلة أخرى ما نعرف أن العذر يمكن أن يقوم له فيها. ذلك أنه رد عمه الحكم بن أبي العاص وأهله إلى المدينة، وكان النبي قد أخرجهم منها إخراجا عنيفا. وكان بيت الحكم بن أبي العاص في الجاهلية مجاورا لبيت النبي، فكان الحكم يؤذي جاره الكريم أشد الأذى وأقبحه. والحكم بن أبي العاص هو الذي أخذ عثمان حين أسلم، فشد وثاقه وأقسم لا يخليه حتى يعود إلى دين آبائه، ثم لم يطلقه إلا حين استيأس منه. وقد أقبل الحكم بعد فتح مكة إلى المدينة مسلما، ولكن إسلامه لم يكن إلا جنة يتقي بها الموت. وآية ذلك أنه ظل يؤذي رسول الله بقوله وفعله، فكان يسعى وراءه ويغمزه ويقلد حركاته ساخرا منه. واطلع ذات يوم على النبي في حجرة من حجراته، فخرج النبي مغضبا، فلما عرفه قال: «من عذيري من هذا الوزغ!» ثم أخرجه من المدينة وقال: «لا يساكنني فيها أبدا.» وقد شفع عثمان عند النبي في إعادته فلم يعده، وطلب ذلك إلى أبي بكر فأبى عليه، وطلب ذلك إلى عمر فلم يكتف بالرفض، وإنما زجر عثمان وحرج عليه ألا يعاوده في أمر الحكم مرة أخرى. فلما استخلف عثمان أعاد الحكم إلى المدينة، فأنكر المسلمون ذلك، وسعى إليه أعلام الصحابة فلاموه فيه، ولكنه زعم لهم أنه كلم النبي في رد الحكم فأطمعه في ذلك، ثم توفي قبل أن يرده. ويقول المعتذرون لعثمان من أهل السنة والمعتزلة: إن عثمان قد كان يرى أن إخراج النبي الحكم وأهله من المدينة ليس ضربة لازب؛ فإن حال المنفي قد تصلح على مر الزمن، فيجوز أن يعفى عنه وأن يرد إلى الأرض التي نفي منها. ويقولون كذلك: إن عثمان علم أن النبي كان يريد رد الحكم، فلم يقبل منه ذلك أبو بكر وعمر؛ لأنه انفرد بهذا العلم فلم تستقم شهادته. فلما استخلف قضى بعلمه، ومن حق الإمام أن يقضي بعلمه.
ولكن خصوم عثمان يقولون إن سيرة الحكم في جاهليته مع النبي وسيرته بعد إسلامه المتكلف وقول النبي: «من عذيري من هذا الوزغ!» وقوله: «لا يساكنني فيها أبدا»؛ كل ذلك يحظر على عثمان أن يرده إلى المدينة، وليس للإمام أن يقضي بعلمه حين تكون هناك الشبهة التي توهم أن الإمام إنما قضى بما قضى إيثارا لقرابته. فقد كان الحكم عم عثمان، وكانت هذه الشبهة وحدها تكفي ليتجنب عثمان رده إلى المدينة. فإذا أضفنا إلى ذلك قول النبي: «لا يساكنني فيها أبدا»، فقد كان أيسر الرعاية لحرمة النبي يقتضي ألا يرده عثمان إلى المدينة ليساكن النبي فيها ميتا بعد أن أبى النبي أن يساكنه فيها حيا.
صفحة غير معروفة