فعلي إذن هو ابن عم النبي في النسب وربيبه، ثم هو بعد ذلك أخوه في الهجرة. وقد زوجه النبي ابنته فاطمة، فكان منهما عقبه إلى الآن. وكان علي صاحب لواء النبي في مشاهده كلها أثناء القتال. وكان شجاعا مقداما جريئا قويا قوة غير معهودة في الرجال. ولما خرج النبي لغزوة تبوك استخلفه في أهله، فكره علي ذلك أو خاض فيه الناس، فقال النبي لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى! إلا أنه لا نبي بعدي.» ومات النبي ولم يبين عن أمر الخلافة بشيء من نص صريح، وإنما قال أثناء مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس.» فقال الذين اختاروا أبا بكر للخلافة: رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه نحن لدنيانا! وما أريد أن أدخل فيما أثير من الخلاف بين الشيعة وخصومهم حول بيعة أبي بكر وعمر، وإنما أسجل أن عليا بايع هذين الخليفتين مخلصا، ونصح لهما صادقا، وأشار عليهما كلما احتاجا إلى مشورته. ولو قد قال المسلمون بعد وفاة النبي: إن عليا كان أقرب الناس إليه، وكان ربيبه وكان خليفته على ودائعه، وكان أخاه بحكم تلك المؤاخاة، وكان ختنه وأبا عقبه، وكان صاحب لوائه، وكان خليفته في أهله، وكانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسى بنص الحديث عن النبي نفسه - لو قد قال المسلمون هذا كله واختاروا عليا بحكم هذا كله للخلافة لما أبعدوا ولا انحرفوا. ويقال: إن العباس بن عبد المطلب هم أن يبايع عليا،فأبى علي وكره الفرقة. ومضت الأمور على هذا النحو أثناء خلافة الراشدين أبي بكر وعمر. ثم وضعه عمر في الشورى ولم يعهد إليه خاصة، مع أنه قال: «لو ولوه لحملهم على الجادة.»
ولم يعهد عمر إلى علي لخصلتين: إحداهما أنه لم يرد أن يتحمل أمر المسلمين حيا وميتا كما قال، والأخرى أن الكثرة من قريش كانت تصرف هذا الأمر عن بني هاشم مخالفة أن يبقى فيهم وراثة، فلا يصيب حيا من أحيائهم إلى آخر الدهر. فكان بنو هاشم قد أبعدوا عن هذا الأمر عمدا، أبعدتهم عنه مخافة قريش أن تظل لبني هاشم رعية، وألا تكون الخلافة في حي آخر من أحيائها.
لم يعهد عمر إلى عثمان لخصلتين أيضا: إحداهما الإشفاق من أن يحمل أمر المسلمين حيا وميتا، والأخرى خوفه أن يستأثر بنو أمية بالخلافة دون غيرهم من أحياء قريش. وقيل: إن العباس أشار على علي ألا يدخل في الشورى، وضمن له إن فعل ألا يختلف عليه الناس. ولكن عليا لم يقبل هذه المشورة، وقبل عهد عمر كما قبله غيره من المسلمين، فوفى ببيعته لعمر حيا وميتا. وكان كل شيء يرشح عليا للخلافة بعد موت عمر: قرابته من النبي، وسابقته في الإسلام، ومكانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل الله، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالكتاب والسنة، واستقامة رأيه في كل ما عرض من المشكلات.
ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على أبي بكر؛ لأنه كان رفيع المكانة عند النبي وثاني اثنين في الغار، ولأنه خلف النبي على الصلاة بالناس، ولئن تحرج المسلمون من تقديمه على عمر لمكانة عمر أولا ولعهد أبي بكر بالخلافة إليه ثانيا؛ لقد كان المسلمون يستطيعون أن يختاروا عليا للخلافة لا يجدون بذلك بأسا ولا يلقون فيه حرجا. فعمر قد رشحه، ومكانته ترشحه. ثم هو كان بعد ذلك من قوة العصبية في العرب عامة وفي قريش خاصة بالمنزلة التي كان فيها عبد الرحمن بن عوف؛ فهو قد أصهر إلى قريش، وأصهر إلى ربيعة، وأصهر إلى اليمانية، وكان له بنون من نسائه على اختلاف قبائلهن. فلو قد ولى الخلافة قبل أن يفترق الناس لكان خليقا أن يقارب بين العصبيات المتباعدة، وأن يجمع الناس على طاعته، وأن يحملهم على الجادة، كما قال عمر.
ولكن المسلمين لم يختاروه لأمرين: أحدهما خوف قريش أن تستقر الخلافة في بني هاشم إن صارت إلى أحد منهم. وقد بينت الحوادث أن عليا لم يكن لينقل الخلافة بالوراثة؛ فهو قد سار سيرة النبي وسيرة عمر، فلم يعهد لأحد من بعده.
والآخر أن عليا لم يقبل ما عرضه عليه عبد الرحمن من أن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله وفعل أبي بكر وعمر لا يحيد عن شيء من ذلك، تحرج علي من أن يعطي هذا العهد مخافة أن تضطره الظروف إلى أن يقصر عن الوفاء به كاملا، فعرض أن يبايع على أن يلزم كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين بقدر جهده وطاقته. وكان تحرجه هذا خليقا أن يعطف الناس عليه ويرغبهم فيه ويدفعهم إلى حسن الظن به وجميل الثقة بإخلاصه؛ لأنه لم يرد أن يلتزم إلا ما أطاق. ولكن عبد الرحمن كان كغيره من المسلمين دقيق الحس في كل ما يتصل بشئون الخلافة، فكأنه أشفق أن يكون تحفظ علي مظهرا لشيء من الأثرة. فلما أعطاه عثمان العهد على التزام كتاب الله وسنة رسوله وفعل الشيخين لا يحيد عن شيء من ذلك، بايعه مطمئنا. وقد أظهرت الحوادث فيما بعد أن عثمان لم يطق ما أطاق الشيخان، ولم يستطع أن يلزم سيرتهما. كما أظهرت الحوادث أيضا أن عليا قد أطاق أثناء خلافته القصيرة ما أطاق الشيخان وأشد مما أطاق الشيخان. فهو قد سار سيرة عمر مع رعية أشد وأعسر وأرغب في الدنيا من رعية عمر. وهو قد سار سيرة عمر مع افتراق الشمل واختلاف الرأي وانشقاق العصا وكثرة الفتن وما استتبعت من الحروب.
وقد عاش علي قبل الفتوح كما عاش بعد الفتوح، عيشة هي إلى الخشونة والشظف أقرب منها إلى الرقة واللين. فلم يتجر ولم يتسع، وإنما اقتصر على عطائه يعيش منه ويرزق أهله، ويستثمر فضوله في مال اشتراه بينبع، ثم لم يزد عليه. ولما مات لم تحص تركته بالألوف فضلا عن عشراتها أو مئاتها أو الملايين ، وإنما كانت تركته كما قال الحسن ابنه في خطبة له: سبعمائة درهم، كان يريد أن يشتري بها خادما.
وكان علي أثناء خلافته القصيرة يلبس خشن الثياب والمرقع منها، ويحمل الدرة ويمشي في الأسواق، فيعظ أهلها ويؤدبهم كما كان يفعل عمر. فكان هذا دليلا على أن عمر كان صادق الفراسة حين قال: «لو ولوا الأجلح لحملهم على الجادة.»
وواضح أن عليا كان بطبيعة مركزه معارضا في جعل الخلافة إلى غير بني هاشم، ولكنه كان ديمقراطيا بأدق المعنى الحديث لهذه الكلمة. فالخلافة لم تكن عنده شيئا يورث، وإنما كانت تكليفا يتلقاه الخليفة من أولي الحل والعقد بين المسلمين عن تراض بينهم وبينه. فلما لم يقدم أولو الحل والعقد إليه الخلافة وقدموها إلى أبي بكر ثم إلى عمر، نزل عند رأيهم وبايع الشيخين ووفى لهما ومحضهما النصح وأخلص لهما في المشورة. وهم أن يلفت الناس إلى نفسه بعد موت عمر حين كان أصحاب الشورى يأتمرون، ولكنه فعل ذلك على استحياء شديد، ثم لم يلبث أن كف وجعل نفسه كغيره من الناس، فأخذ موثق عبد الرحمن على النصح للمسلمين وأعطى موثقه على السمع والطاعة. ويقول المتكلفون من الرواة إنه تلكأ في بيعة عثمان حتى حذره عبد الرحمن وأنذره. ولكن رواة آخرين يقولون ما هو أشبه بسيرة علي وأشد ملاءمة لخلقه. يقولون: إنه حين أبى أن يعطي عبد الرحمن العهد الذي طلبه وحين أعطى عثمان هذا العهد، قال لعبد الرحمن: قد أعطاك أبو عبد الله الرضا فبايعه. ولو قد تلكأ علي بالبيعة ولم يعطها إلا كارها لكان خليقا أن يلزم داره وأن يقاطع عثمان وأهل الشورى وقتا يقصر أو يطول. ولكنه لم يلزم داره، وإنما شهد مجلس عثمان في أمر بيعته، وأشار عليه في قصة عبيد الله بن عمر بأن يقتص منه لمقتل الهرمزان.
كان علي معارضا للخلفاء الثلاثة، ولكن الشيخين لم يأتيا ما يدعو إلى النقد الرفيق فضلا عن النقد الشديد، فلم تظهر معارضة علي لهما، وإنما كان ينصح مع الناصحين ويشير مع المشيرين ، ويسمع بعد ذلك ويطيع، كما كان يفعل غيره من المهاجرين والأنصار. فلما استخلف عثمان اشتدت معارضة علي شيئا ما أثناء الشورى ثم ثاب إلى سيرته مع الشيخين، فنصح وأشار وسمع وأطاع. ولكن سياسة عثمان دفعته إلى شيء من الشدة في المعارضة؛ فهو لم ير ما رآه عثمان من العفو عن عبيد الله بن عمر. ثم لم تلبث الحوادث أن دفعته إلى معارضة جعلت شدتها تزداد شيئا فشيئا، ولكنها على كل حال لم تخرج قط عن طور المعارضة الرشيدة التي تلين وتعنف، ولكنها تلزم حدود النصح والمشورة والتخويف من عقاب الله. وما زالت الأحداث تشتد وتتفاقم حتى اضطر علي ذات يوم أن يواجه عثمان بشيء من المقاومة على ملأ من الناس. كان ذلك حين أعلن عثمان في غير تحفظ أنه سيأخذ من هذا المال حاجته وإن رغمت أنوف الكارهين لذلك.
صفحة غير معروفة